اتساع الجدل حول الميزانية الأمنية في إسرائيل

* الميزانية الأمنية الإسرائيلية تساوي ميزانيات دول غنية مثل كندا واستراليا وعلى مستوى الشرق الأوسط تساوي ميزانية مثيلتها في تركيا *

* الميزانية الأمنية الإسرائيلية تساوي ميزانيات دول غنية مثل كندا واستراليا وعلى مستوى الشرق الأوسط تساوي ميزانية مثيلتها في تركيا *

مع اقتراب موعد بدء الانشغال في ميزانية إسرائيل للعام القادم 2008، في وزارة المالية، ومن ثم في الحكومة ووزاراتها المختلفة، تطفو إلى السطح من جديد كل القضايا العالقة بالميزانية، ومن أكثر الملفات سخونة ميزانية وزارة الدفاع، التي تتضمن أيضا ميزانية الجيش الإسرائيلي.

ويدور جدل واسع في إسرائيل منذ عدة سنوات حول حجم هذه الميزانية، واتهام قادة الجيش بأنهم يستغلون الأوضاع الأمنية لطلب زيادة ميزانيتهم، والضغط على الحكومة وجهات اتخاذ القرار من أجل عدم التوغل في فحص كيفية صرف هذه الميزانية.

وتوجه للجيش اتهامات من جهات مختلفة بالتبذير في صرف الأموال، خاصة في جانب القوى البشرية، والصرف على الرواتب في الجيش النظامي، وشروط العمل، والامتيازات التي يحصل عليها الضبط، وحتى كبار الجنرالات، وعدم النجاعة في الجانب التنظيمي والإداري في الجيش، وهذا أيضا سبب في التبذير.

يذكر أن الهيئة العامة للكنيست ليس من صلاحيتها البحث في ميزانية الأمن، ولا حتى اللجان البرلمانية ذات الشأن، مثل لجنة المالية ذات الصلاحيات التنفيذية، ولجنة الخارجية والأمن، وفي كل عام يتم إقامة لجنة مقلصة جدا من خمسة أو ستة نواب، من أصل 120 نائبا، للبحث في الميزانية، وعادة فإن هذه اللجنة تتبنى مطالب الجيش بزيادة الميزانية.

وتبلغ قيمة ميزانية الأمن، للعام الجاري 48 مليار شيكل، أي ما يعادل حوالي 12 مليار دولار، وهي تساوي حوالي 16%، ولكن الحديث يجري هنا عن الميزانية المباشرة، في حين أنه بعد ضم كل مركبات الأمن في جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية، وخاصة ميزانية الأجهزة الإستخباراتية، ووزارة الأمن الداخلي (الشرطة وما يرتبط بها) وأيضا الصرف على الاستيطان في الضفة الغربية وهضبة الجولان السورية المحتلة، فإن تكلفة "الأمن" في إسرائيل تستهلك حوالي 30% من ميزانية الدولة، وهذا ما تؤكده باستمرار عدة جهات وأطر شعبية.

وقد صدرت نشرة "سينات" المتخصصة بالشؤون الاقتصادية السياسية تحمل مقالا حول الموضوع، نعرضه هنا. و"سينات" هي نشرة داخلية توزع كمادة خلفية على الهيئات القيادية والمؤسسات الرسمية في إسرائيل.

وفي ما يلي نص المقال:

حجم الميزانية الأمنية

تبلغ قيمة ميزانية وزارة الدفاع للعام الجاري 2007 الـ48 مليار دولار (حوالي 12 مليار دولار وفق سعر صرف الدولار المتغير)، وهذه الميزانية لا تشمل تكلفة الأمن لدولة إسرائيل، وبشكل خاص فإنها لا تشمل التكلفة الاقتصادية للخدمة الإلزامية والاحتياط في الجيش (غياب قوى عاملة عن العمل الإنتاجي)، وقيمة الأراضي المستخدمة للقضايا الأمنية، وتكلفة الوقاية والحماية على المستوى الشخصي، وإضافة كل هذا من شأنه أن يزيد تكلفة الأمن بحوالي 10 مليارات شيكل (حوالي 5ر2 مليار دولار) سنويا.

وحتى من دون هذه المركبات المضافة، فإن ميزانية الأمن في إسرائيل هي ميزانية كبيرة جدا، بالمقارنة مع ميزانيات مشابهة في دول العالم، وهي تساوي ميزانيات الأمن في دول غنية مثل كندا واستراليا. وعلى مستوى الشرق الأوسط، فإن ميزانية الأمن في إسرائيل تساوي ميزانية تركيا (التي تبلغ مساحتها وعدد سكانها أضعاف أضعاف مساحة وسكان إسرائيل)، ولكها ميزانية أقل من ميزانية السعودية، وأعلى من ميزانية مصر وإيران.

إن المستوى العالي لميزانية الأمن في إسرائيل يبرز بشكل خاص في جانب الناتج القومي، فهي تساوي 8% من الناتج القومي، في حين أن هذه النسبة تنخفض إلى 3% في دول غربية، و4% في الولايات المتحدة ودول شرق أوسطية أساسية، وعلى الرغم من هذا فإن هذه النسبة في إسرائيل اليوم هي أقل من النسبة التي كانت عليها في سنوات السبعين، حين كانت حوالي 30%، وكان هذا أحد أسباب التدهور الاقتصادي الكبير في نفس الفترة.

ويتم تمويل جزء من ميزانية الأمن في إسرائيل من المساعدات العسكرية الأميركية، التي تبلغ اليوم 4ر2 مليار دولار سنويا (وقد اتفق رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت مع الرئيس الأميركي جورج بوش على تمديد فترة هذه المساعدة لعشر سنوات أخرى، أي حتى العام 2018)، ومن دون هذه المساعدة فإن نسبة ميزانية الأمن من الناتج القومي تبلغ 6%، ويُذكر هنا أن المساعدة الأميركية العسكرية لإسرائيل مشروطة بالنجاعة في المجال الاقتصادي، وأيضا بشراء معدات وأسلحة من الولايات المتحدة، وقد تكون هناك أيضا شروط سياسية.

الجدل حول مستوى الميزانية الأمنية

من حيث المبدأ فإن على ميزانية الأمن أن تضمن الاستفادة الكبيرة حتى آخر شيكل فيها يصرف على القضايا الأمنية، والخسارة الكامنة في صرف أموال ليس على القضايا الأمنية في هذه الميزانية، بدلا من صرفها على جهازي الصحة والتعليم وغيرهما، واعتماد هذه المبدأ يجب أن يرتكز على الاعتبارات التالية:

أ- ما هي الأخطار الأمنية التي تواجهها الدولة، وما هو مدى التطبيق الفعلي لهذه الأخطار، وما هي الأضرار المتوقعة الناجمة عنها.

ب- ما هي وسائل الرد الممكنة لهذه الأخطار، وما هي الفترة الزمنية الضرورية للاستعداد لمواجهة هذه الأخطار.

ج- كم تبلغ تكلفة وسائل الرد هذه، على مستوى ميزانية الأمن، وأيضا على مستوى الميزانيات الأخرى في الوزارات المختلفة، وحجم ضررها على مستوى النمو الاقتصادي وفرص العمل والتشغيل، والاستقرار الاقتصادي والمستوى المعيشي.

د- ما هي العلاقة بين وسائل الرد والأخطار، والى أي مدى ستؤدي إلى زيادة ميزانية الأمن، وما إذا كانت ستجر إلى حلبة سباق التسلح، أو على العكس، بمعنى مدى تراجع خصومنا عن إمكانيات المهاجمة.

هـ- إلى أي مدى سيؤدي النشاط الأمني إلى ظهور تأثيرات خارجية مرجوة، مثل تأهيل قوى عاملة مدربة للعمل لاحقا في القطاع المدني، أو تأثيرات غير مرجوة، مثل المس بالبيئة، وكيف يتم تقدير مثل هذه التأثيرات.

هناك جدل ثاقب حول تطبيق هذه المبادئ، لدى تحديد ميزانية الأمن، وهذا الجدل يدور بين مجموعتين مهنيتين ذات جاهزية عليا، ولكل منهما جدول أعمال مختلف، فمن جهة يقف ممثلو الجيش ووزارة الدفاع والذين يرون بأنفسهم مسؤولين عن أمن إسرائيل، ويعرضون الاحتياجات الضرورية برأيهم لضمان مستوى عال من الأمن.

ومن جهة أخرى يقف ممثلو وزارة المالية، وبشكل خاص قسم الميزانيات، الذين يرون بأنفسهم مسؤولين عن جوانب أخرى في الميزانية العامة، وعن دافعي الضرائب والاستقرار الاقتصادي، وهي جوانب هامة جدا تساهم في تأمين ميزانية الأمن، وفي هذا الجدل هناك وزن كبير لمسائل أخرى مثل المستوى المعيشي في الجيش، وسبل خلق محفزات لإدارة مالية ناجعة أكثر في الجيش.

وقد وصل هذا الجدل إلى ذروته لدى التحضير لميزانية عامي 2003 و2004، حين بلغت الفجوة الأولية بين مقترحات وزارة المالية ومقترحات وزارة الأمن 8 مليارات شيكل (حوالي ملياري دولار)، وقد ازدادت هذه الفجوة إلى أكثر من ذلك في نهاية العام 2006، عند التحضير لميزانية العام 2007، على وقع طلبات الجيش للاستعداد لحرب محتملة، وعلى خلفية الحرب على لبنان في الصيف الماضي.

الجدل حول التحضير للميزانية الأمنية

خلال السنوات الأخيرة اتسع نطاق الجدل، إن كان من خلال عدد المشاركين فيه، أو من خلال مواضيع وجوانب الجدل، وبشكل خاص على وقع الانتقادات لعدم وجود مسار عمل طاقم واضح، يسمح بوضع مقترحات فعالة هامة في كافة جوانب ميزانية الأمن ومستوياتها أمام أصحاب القرار، وأيضا وضع بدائل مختلفة في توزيعة الميزانية.

وقد توقف تقرير مراقب الدولة للعام 2004 عند الفشل الجوهري في التحضير لميزانية الأمن، وجاء فيه ما يلي:

1- هناك خلل في عمل الطاقم في وزارة المالية، وهو لا يوثق مراحل عمله، ولا يفحص الانعكاسات الأمنية لتوصياته في الميزانية.

2- تجاهل جهاز الأمن للانعكاسات الاقتصادية لبرامجه على الصعيد الأمني.

3- كثرة التغييرات الفورية في الميزانية، والتي لا تعرض على الكنيست لإقرارها.

4- الطاقم العسكري يفرض احتكارا على أبحاث ميزانية الأمن في الحكومة.

5- غياب دور فعال لديوان رئاسة الحكومة ومجلس الأمن القومي في عملية تحديد وزارة الأمن.

تقرير لجنة بروديت حول الميزانية الأمنية

في شهر أيار/ مايو 2007، تم نشر تقرير اللجنة الرسمية لفحص ميزانية الأمن برئاسة دافيد بروديت. وقد وجدت اللجنة في تقريرها أن الجيش الإسرائيلي يواجه أزمة بمقاسات كبيرة جدا ومتعددة، وهذا على مستويات: حجم الميزانية والإدارة والتنظيم والجوانب الثقافية والإستراتيجية، وهذه أزمة ليست بارزة جدا للعيان، لأنه يتم التغطية عليها من خلال ابتلاع حجم كبير من احتياطي الميزانية.

ومن أجل مواجهة هذه الأزمة، فإن اللجنة توصي بوضع خطة إشفاء تشمل زيادة ميزانية حكومية، وتغييرات إدارية هامة، تعتمد إتباع ثقافة تنظيمية ونجاعة فائقة، ووضع برنامج عمل طاقم منظم، بين المستويين السياسي والعسكري، وطلب مساعدة عسكرية إضافية من الولايات المتحدة.

وفي ما يلي بعض التوصيات الأساسية اللجنة:

1. تثبيت إطار عمل ملتزم بالتحضير لميزانية الأمن، بدءا من المراحل الإستخباراتية، مرورا بالتقديرات الاقتصادية والخطط الأمنية، وحتى مراحل إقرار الميزانية في الحكومة والكنيست، وأن يكون هذا الإطار بمسؤولية مجلس الأمن القومي، وبضمان مشاركة كل الجهات المختلفة ذات الشأن.

2. تحديد بنية متعددة السنوات، لعشر سنوات، لميزانية الأمن، تضمن الاحتياطي الضروري للتطورات غير المتوقعة.

3- ارتفاع معتدل في ميزانية الأمن للسنوات العشر المقبلة يؤدي إلى انخفاض نسبة الأمن من الناتج القومي، وفي مصروفات الحكومة، والدين العام.

4- وضع مقاييس محددة تحدد مجال الصرف في كل واحد من المركبات الأساسية للميزانية، مثل المشتريات، واحتياجات تعزز القوة العسكرية، والتدريبات والتأهيل والجاهزية، والمصروفات اليومية الجارية والعامة، والإدارة والتنظيم.

5- وضع خطة إشفاء ونجاعة تؤدي إلى توفير 30 مليار شيكل (حوالي 5ر7 مليار دولار) في السنوات العشر القادمة، من الصرف على القوى العاملة وكل ما يتبع ذلك من نفقات على الرواتب والتقاعد وغيرها.

6- إقامة إطار استشاري بين الوزارات المختلفة وبين وزارة الدفاع.

عدا عن هذه التوصيات تجدر الإشارة إلى أنّ أحد العوامل الأساسية التي أدت إلى خلل مستمر في توزيعة المصادر والصرف في ميزانية وزارة الدفاع هو غياب الجوانب المدنية لدى وزارة الدفاع في أبحاث الميزانية، وغياب الأهداف والوسائل لتحقيقها، وغياب متابعة جدية ومراقبة للتنفيذ ومواطن الخلل، كتلك التي برزت خلال الحرب على لبنان.

ولا يمكن اتهام الجيش وحده في هذا الأمر، كونه يوظف طاقات كبرى في عمل الطواقم، في محاولة لسد الفراغ الذي أحدثه غياب الجهات المدنية، وقسم كبير من مسؤولية هذا الخلل ملقى على كاهل الأجهزة المدنية، التي لم توظف طاقاتها في المجالات الأمنية.