نظرة مستجدة على الفقر في إسرائيل

تقرير الفقر الأخير الصادر عن مؤسسة التأمين الوطني لم يفاجئ أحداً. فالذي تابع التطورات في هذا المجال لم يشعر بالدهشة أو الاستغراب إزاء الزيادة التي طرأت على حجم الفقر في إسرائيل. لكن هذا الوضع الأعوج ليس قدراً من السماء وإنما هو نتاج للسياسة الاقتصادية والاجتماعية التي تتبعها الحكومة منذ العام 2000 وحتى قبل ذلك.

الحكومة من جهتها لا تخفي إجراءاتها وخطواتها الصارمة في موضوع الرفاه، لا بل إنها تتباهى بها. المهندس الرئيس لهذه السياسة الفاشلة، بنيامين نتنياهو، الذي عمل وزيراً للمالية، ما زال يتفاخر بـ "الإنجاز الهائل" لسياسته، بل ويحظى بالإشادة من قبل محافل اقتصادية واسعة. وما انفك شركاؤه في الرأي، الذين تركهم وراءه في وزارة المالية كحصان طروادة، ماضين قدمًا بشكل حثيث في تنفيذ المهمة التي بدأها، ولعل مقترحاتهم لتقليص ميزانيات الرفاه لسنة 2007، تشكل خير دليل على ذلك. هذه التقليصات والإجراءات الاقتصادية المقترحة ستكون، في حال إقرارها، عبئاً على المجموعات الضعيفة والأشد فقراً بين السكان، وستؤدي إلى زيادة عدد الفقراء في إسرائيل.

كذلك لا يجوز التغاضي عن حقيقة أن سياسة المسّ بالضعفاء تحظى بتأييد ملموس من جانب غالبية سكان إسرائيل. فالغالبية تعيش في ظروف وفرة نسبياً، بعيدة عن الضائقة التي يعانيها الفقراء. هذه الأغلبية المتخمة لا تظهر أي تعاطف تجاه الفقراء أو أية رغبة في تغيير السياسة المتبعة. أقصى ما تبدي هذه الأغلبية استعداداً لقبوله هو طرق وأساليب الصدقات التقليدية، التبرع لدور موائد الفقراء لتوزيع الطعام على الجياع. كذلك فإن قسماً من المواطنين يتطلع إلى إعادة تنصيب نتنياهو ليتولى مجدداً مسؤولية إدارة السياسة التاتشرية.

تقرير الفقر، الذي عمل طوال سنوات كصوت مُنذر ومُحذر، فَقَدَ هذا العام الأهمية الضئيلة التي كان يحظى بها في السابق، ولم تعد وسائل الإعلام تتعامل معه بجدية. في السنوات السابقة، كان التقرير وانعكاساته الاجتماعية يحظيان باهتمام الصحافة المكتوبة والإلكترونية طوال يومين أو ثلاثة أيام. أما في هذه السنة فلم يدم الاهتمام بالتقرير لأكثر من يوم واحد أو حتى أقل. فغداة نشر التقرير اختفت حيثياته وتفاصيله من وسائل الإعلام كأنها لم تكن. جوقة المراسلين والمحللين الذين تخصصوا في سنوات سابقة في دحض المعطيات التي تتحدث عن وجود وحجم الفقر، لم تجد هذه السنة ما يدعوها إلى الانشغال في ذلك. حتى الخطاب المألوف، الذي كان يتردّد في السابق في الساحة السياسية، حول ضرورة عمل شيء من أجل منع تفاقم الفقر، لم يحظ هذه المرة بأي ذكر تقريباً.

المشكلة هي أن الفقراء الكثيرين الذين يتحدث عنهم التقرير، لا يشكلون جزءاً من واقع وتجربة الأغلبية المتخمة في إسرائيل. هذه الأغلبية لا تعرف الفقراء، ولا تصطدم بهم في حياتها اليومية سوى في أحيان متباعدة. لقد نشأ لدى هذه الأغلبية نوع من العمى تجاه الفقراء، الذين يُنظر لهم كـ "آخرين". في برنامج أخبار التلفزيون أعرب المذيع، في يوم نشر التقرير، عن دهشته متسائلاً: من هم هؤلاء الفقراء؟ وهل كلهم أو معظمهم من الطفيليين الذين لا يعملون أو لا يريدون العمل؟! كبار موظفي وزارة المالية، ليست لديهم أية شكوك بالنسبة لمسألة من هم الفقراء، وتجدهم يسارعون إلى تقديمهم بصفة الـ "آخرين". وعلى رأيهم فإن الفقراء هم "فقط" المتدينين الحريديم والعرب وأولئك الذين لا يريدون العمل بل يسعون للعيش على حساب الغير. وهم بوصفهم للفقراء بهذه الطريقة، إنما ينفضون أيديهم من أي التزام أو مسؤولية تجاه هذه الفئة، كما لو أن الأمر لا يتعلق ببشر لهم حق أساس في حياة إنسانية كريمة.

إن ما يوجه السياسة الاجتماعية- الاقتصادية للحكومة هو نظرية الليبرالية الجديدة بصورتها المتطرفة وبصيغة اليمين الجمهوري الراديكالي الممسك بزمام الحكم في الولايات المتحدة الأميركية. مؤسستنا الحاكمة (في إسرائيل) تسعى جاهدة إلى فرض هذه السياسة، بصرف النظر عن آثارها وانعكاساتها المدمرة على المجتمع الإسرائيلي. وتكمن الآثار السلبية لهذه السياسة على المجتمع الإسرائيلي في عدم وجود أي تشابه بين مجتمعنا والمجتمع الأميركي. فباستطاعة أميركا تجاهل فقرائها أو إخفائهم في المساحات الشاسعة (لولاية) ميسوري أو ألباما. أما نحن فلا نستطيع، ولا نريد إخفاء الفقراء الذين يعيشون في هوامش وضواحي دولتنا الصغيرة. حتى في أميركا الكبيرة، أشار إعصار "كاترينا" إلى حدود تجاهل الفقراء، عندما طفت فضيحة الفقر والإهمال للسكان الفقراء في نيو- أورليانز على سطح مياه السيول والفيضانات التي أغرقت المدينة. كذلك فضحت الحرب الأخيرة (الحرب على لبنان) هنا، في إسرائيل، النتائج والانعكاسات السلبية لسياسة إهمال الفئات الاجتماعية الضعيفة.

إن ما يميز السياسة الليبرالية الجديدة التي تريد المؤسسة السلطوية فرضها علينا، هو التطلع إلى تقليص المجال العام وتقزيم المصلحة الجماعية الكامنة في صلب الاقتصاد العام. أما خطوط العمل الرئيسة التي تميز هذا التوجه فهي: تَحكُّم وسيطرة السوق الحرة، الفهم الأصولي للقوى الفاعلة في السوق، الفردية الاقتصادية والاجتماعية، التقليص الحاسم لدولة الرفاه والتقليص الحاد للإنفاق العام عموماً ولخدمات الرفاه بشكل خاص، إعادة التنظيم والخصخصة لكل ما بقي بملكية عامة إضافة إلى التقليص الواسع النطاق للمجال الاقتصادي العام.

التغيير الأبعد أثراً في هذه السياسة مرتبط بظروف العمل وحقوق العمال الأُجراء. فالهدف الرئيس الذي يسعى إليه المتنفذون في المؤسسة السلطوية هو كسر وتصفية العمل المنظم في إسرائيل، وتقييد حقوق الإضراب قانونياً وإلغاء محكمة العمل، وتقليص الحقوق الاجتماعية المرتبطة بالعمل. حتى أن كبار موظفي وزارة المالية يتباهون بأنهم نجحوا في تحقيق عدد من هذه الأهداف التي أضرت بظروف معيشة آلاف عائلات العمال و الأجيرين. وحسب رأيهم فإنه لم تعد هناك حاجة للتنظيم المهني (النقابي) للعمال في البلاد، وليس هذا وحسب، بل إنهم يعترضون أيضاً على حق العمال والمستخدمين في تنظيم أنفسهم بغية النضال من أجل حقوقهم.

هذا التوجه ينطوي على ما يشبه العودة إلى حقبة تطور الأنظمة الرأسمالية، فضلاً عن المسّ بجوهر النظام الاجتماعي القائم، الذي ما زال يرى في حق العمال في التنظيم الحر واحداً من أسس وركائز النظام الديمقراطي.

هناك بعد آخر ليس أقل أهمية في سياسة الحكومة، والذي توجد له انعكاسات مباشرة على ازدياد حجم الفقر وزعزعة الأمن الاجتماعي لقطاع واسع من السكان، وهو المسّ بجهاز التأمين الوطني. فالتأمين الوطني أُقيم أساساً لحماية جمهور العمال والمستخدمين، ومن ثم عامة السكان، من مخاطر المجتمع الصناعي ومن قوى السوق، التي لا يحكمها قيد أو ضابط، في المجتمع الرأسمالي. وتهدف برامج الضمان الاجتماعي إلى تأمين معاشات أو مخصصات بديلة للأجر أو الدخل في الحالات التي يفقد فيها الأفراد مصادر دخلهم لأسباب غير متعلقة بهم. والهدف من معاشات التأمين الوطني هو الحؤول دون تحوّل الأشخاص الذين يواجهون حالات عوز وضائقة إلى فقراء يضطرون لدق أبواب مؤسسات الإعانة. إن مسّ الحكومة المستمر ببرامج التأمين الوطني، والتآكل في قيمة المعاشات (المخصصات) وتشديد شروط الحصول عليها، هو أحد العوامل المهمة في تفاقم الفقر في مجتمعنا. الحل الذي منّت به الحكومة كتعويض عن المسّ ببرامج التأمين الوطني تمثل في تخصيص مبالغ مساعدة هزيلة للفقراء والمحتاجين. وهكذا فإن الحكومة، وبدلاً من منع وقوع الناس في حالات عوز وضائقة، وهي المهمة الأساس للتأمين الوطني، تقوم بإلقاء فتات للفقراء، بشرط أن يعلن هؤلاء عن أنفسهم كفقراء ومحتاجين وأن يجتازوا اختبارات دخل صارمة ومهينة.

هذه هي السياسة التي تتفاخر بها الحكومة الحالية، والتي يطلق المتحدثون باسمها تصريحات ووعود حول مبالغ تخصصها الحكومة لمؤازرة الفقراء والمحتاجين وسط التغاضي عن أن مثل هذه المساعدات تمس بالكرامة الذاتية للإنسان وتلحق به وصمة عار لكونه فقيراً ومحتاجاً لم يفلح في إعالة نفسه وعائلته في مجتمع سوق حرة.

_________________________________

* أبراهام دورون- أستاذ كرسي في مدرسة العمل والرفاه الاجتماعيين في الجامعة العبرية- القدس.