الصراع بين المتدينين والعلمانيين اليهود يتجاوز حدود القدس

" كتب بلال ضاهر

استسلم رجل الأعمال الإسرائيلي، دودي فايسمان، للضغوط التي مارسها عليه الحريديم (اليهود المتشددين دينيا)، ووافق بعد صراعات معهم على إغلاق حوانيت شبكة "السوبر ماركت" AM:PM في أيام السبت، رغم أن ما يميز هذه الشبكة هو أنها تعمل سبعة أيام وأربع وعشرين ساعة في اليوم. واتخذ فايسمان قراره بإغلاق أبواب شبكة الحوانيت في أيام السبت بعد صراع، دام عام ونصف العام، قاطع خلالها الحريديم فروع شبكة الحوانيت في المناطق التي يسكنوها. ولفتت صحيفة هآرتس، يوم الجمعة الماضي (4.9.2009) إلى أن القرار بإغلاق شبكة الحوانيت يعني "فقدان العلمانيين (اليهود) في تل أبيب رمز آخر من رموز العلمانية".

وهذه ليست الحالة الأولى من نوعها، التي ترضخ فيها شبكة حوانيت، أو مجمعا تجاريا، على إغلاق أبوابها في أيام السبت. فقد سبق ذلك، في السنوات الماضية حالات كثيرة، خصوصا في القدس الغربية. لكن الصراع بين العلمانيين والحريديم لا يتوقف عند ذلك. وإنما هو صراع على طبيعة إسرائيل. وكشفت هآرتس عن أن جماعة من الحريديم تمارس "نشاطا تبشيريا" في "قدس اقداس" العلمانية اليهودية الإسرائيلية، وهي ضاحية "رمات أفيف" في شمال تل أبيب.

فقد اكتظ ملعب المركز الجماهيري في "رمات أفيف" بسكان الحي، وبمئات أخرى من سكان المنطقة المجاورة، يوم الأربعاء من الأسبوع الماضي، لحضور اجتماع دعت إليه "جمعية سكان رمات أفيف" الذي عقد تحت شعار "الطابع الحر للحي". وقالت هآرتس إن منظمي الاجتماع فوجئوا من حجم الاستجابة للدعوة لحضور الاجتماع، الذي تناول موضوع الهجمة الحريدية على الحي، وتم خلاله الكشف عن معطيات لتحقيق أجرته الجمعية بنفسها خلال الشهور الماضية.

ووصف المجتمعون ما يجري في حيّهم بأنه ظاهرة "تبشيرية" وعبروا عن تضامنهم مع نشاط "جمعية سكان رمات افيف". وقال أحد نشطاء الجمعية، المحامي أهارون ناحومي، إن الحديث يدور عن "منظمات تسعى، بكل بساطة، إلى تغيير حياة سكان الحي. لكن لا ينبغي علينا أن نخاف من ذلك". ودعا نشطاء الجمعية المشاركين في الاجتماع إلى "الخروج من البيوت والنزول إلى الشوارع من أجل مواجهة الحريديم الذين يمارسون التبشير الديني. إذ لا يمكن التذمر وعدم القيام بأي عمل. فالأمور بأيدينا فقط".

وبحسب المعطيات التي استعرضتها الجمعية، فإن مراكز جماهيرية في "رمات أفيف" أصبحت بأيدي جماعات حريدية، خصوصا من حركة "حباد" المتشددة، التي تقوم بنشاطات في الحي من دون أن تحصل على التصاريح الملائمة. واتهمت الجمعية بلدية تل أبيب بأنها على علم بهذه النشاطات الحريدية وتغض الطرف عنها.

ودلت المعلومات على وجود ست رياض أطفال حريدية تعمل في "رمات أفيف" من دون أن تكون لديها تصاريح مناسبة. كذلك فإن الحريديم زادوا غرفا على أحد المباني في الحي وينشطون فيه بصورة غير قانونية، حيث يوجد في المكان نزل يستضيف العشرات من طلاب المعاهد الدينية اليهودية (يشيفاة) الذين يأتون من خارج المدينة، في نهاية كل أسبوع. واضاف تحقيق الجمعية أنه يعمل في الحي أربعة مراكز على الأقل تابعة لحركة "حباد"، المتخصصة بممارسة النشاطات التبشيرية اليهودية، وعشرة مراكز لتعليم التوراة ومكتب وساطة عقارات حريدي، الذي يعرض أسعارا مغرية لمن يوافق على تأجير شقته للحريديم. وتجدر الإشارة إلى أن أثمان البيوت وإيجارات الشقق في "رمات أفيف" هي الأغلى في تل أبيب، وبطبيعة الحال في إسرائيل أيضا.

وتحدث المشاركون في الاجتماع عن نشاط "حباد" التبشيري مع أولاد الحي، وأن هذا النشاط يجري بصورة "غير مناسبة". إذ يقف نشطاء "حباد"، كل يوم جمعة، خارج مدرسة "إليانس" الثانوية، في الحي، ويحاولون إقناع التلاميذ بارتداء اللباس الخاص لوقت الصلاة اليهودية. كذلك يتوجه نشطاء الحريديم على مراكز الترفيه والمقاهي في الحي، ويحاولون إقناع أصحابها بإغلاق هذه الأماكن في مساء يوم الجمعة وأيام السبت. وقالت هآرتس، أن نشطاء ونشيطات من الحريديم كانوا يقفون خارج ملعب المركز الجماهيري ويتابعون ما يجري في الاجتماع.

مواجهات عنيفة

ويتزامن هذا النشاط الحريدي "السلمي"، في تل أبيب، مع نشاطات أخرى تتسم بالعنف، في القدس. وقد ظهرت في الشهور الأخيرة عدة قضايا في الشارع الحريدي في القدس، وتدهورت إلى حد المواجهات العنيفة بين جماعات الحريديم والشرطة الإسرائيلية، وحتى أن الشرطة استخدمت مؤخرا السلاح في تفريق المظاهرات الحريدية. وأدت هذه القضايا على نشوء أزمة كبيرة في العلاقة بين الحريديم والمؤسسة الحاكمة في إسرائيل.

وتدعو جماعات من الحريديم إلى مظاهرات في كل مرة تحضر فيها الشرطة لاعتقال أحد الحريديم بعد الاشتباه بارتكابه جريمة أو مخالفة قانونية. وسرعان ما تنزلق هذه المظاهرات إلى مواجهات مع الشرطة في أعقاب قيام الحريديم بإغلاق شوارع مركزية وإحراق حاويات النفايات وإلقاء الحجارة. وقد اندلعت مواجهات كهذه في أعقاب حضور قوة من الشرطة لاعتقال أحد الحريديم المتهم بالتسبب في قتل طفله، وبعد اعتقال امرأة حريدية متهمة بتجويع ابنها، وبعد اعتقال امرأة حريدية أخرى، من بلدة "بيت شيمش" قرب القدس، بعد اتهامها بالتنكيل بأولادها، وأطلقت عليها الصحافة الإسرائيلية اسم "الأم طالْبان".

لكن المظاهرات الأكثر عنفا في الشارع الحريدي في القدس، كانت تلك التي احتجت على قرار بلدية القدس بفتح مواقف سيارات في أيام السبت لتمكين المتنزهين من الوقوف فيها والانطلاق إلى جولات في القدس، بما في ذلك في القدس الشرقية ومنطقة البلدة القديمة. ولا يزال الحريديم يتظاهرون كل مساء جمعة، عشية السبت، ويوم سبت على هذه الخلفية.

مواجهات عنيفة

وقعت في الأسابيع الماضية مواجهات عنيفة بين الحريديم، وخصوصا ما يسمى ب"الطائفة الحريدية"، والشرطة على خلفية قرار البلدية بفتح موقف السيارات "كَرتا" في أيام السبت. وأصيب خلال هذه المواجهات عدد من المتظاهرين الحريديم وأفراد الشرطة، كما تم اعتقال عشرات الحريديم.

وذكرت صحيفة هآرتس (3.9.2009) أن حاخامات "الطائفة الحريدية"، الذين يقودون المظاهرات في القدس خلال أشهر الصيف الحالي، نشروا تعليمات جديدة، يوم الأربعاء الماضي، تتعلق بشكل المظاهرات ضد استمرار فتح موقف "كرتا". ولم يعلن الحاخامات عن توقف المظاهرات، لكنهم دعوا أنصارهم إلى الامتناع عن أعمال عنف وإلحاق أضرار بالأملاك. وكان المتظاهرون الحريديم قد اعتدوا بالضرب على سائق سيارة أجرة عربي وكادوا يقتلوه، الأسبوع الماضين، بعد أن تواجد بالخطأ في منطقة المظاهرات في القدس.

لكن الشرطة الإسرائيلية رفضت إفادات شهود عيان جاء فيها أن المتظاهرين الحريديم كادوا يقتلون السائق العربي. ونقلت هآرتس عن مصادر في الشرطة قولها إن "أحداثا كهذه وقعت عشرات المرات خلال الأسابيع الأخيرة في الأحياء الحريدية في القدس. وقد ألقى متظاهرون حريديم الحجارة على سيارة الأجرة وكسروا زجاجها، تماما مثلما كسروا زجاج سيارات مرت في شارع بار إيلان أو في ميدان السبت" داخل أحياء الحريديم.

وتواصلت المظاهرات في الأحياء الحريدية في القدس بشكل يومي خلال الأسابيع الماضية، وكان المتظاهرون يحرقون خلالها حاويات النفايات في حيي "غيئولا" و"ميئا شعاريم" ويلقون الحجارة باتجاه السيارات المارة. وتصاعدت أعمال العنف هذه يوم الاثنين من الأسبوع الماضي عندما حضرت قوة من الشرطة لإخراج جثة رجل قُتل في نزل في حي "فيئولا". وألقى مئات المتظاهرين الحريديم الحجارة على قوات الشرطة. وردت قوة الشرطة بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية باتجاه الحريديم بهدف تفريقهم.

وبحسب هآرتس فإن زعيم "الطائفة الحريدية"، الحاخام يتسحاق طوفيا فايس، ما زال يعارض بشدة فتح موقف "كرتا" في أيام السبت، ويشدد على ضرورة مواصلة النضال ضد قرار البلدية. ورغم أن مظاهرات يوم السبت الماضي مرت من دون أحداث عنف، إلا أنه ما زال من المبكر معرفة ما إذا كانت المظاهرات العنيفة قد انتهت، خصوصا أنه بين المشاركين فيها هناك شبان حريديم لا ينتمون لقيادة "الطائفة الحريدية" ولا ينصاعون لقرارات قيادتها.

من جانبهان وجهت قيادة الشرطة في منطقة القدس انتقادات لقيادة الحريديم وقالت إنه لا توجد نية لدى قيادة الحريديم بتهدئة المظاهرات العنيفة. ونقلت هآرتس عن ضباط كبار في الشرطة قولهم إنه "لا أحدن باستثناء الشرطة، يحاول التوصل إلى مصالحة مع الشارع الحريدي من اجل إنهاء موجة المظاهرات العنيفة، رغم أن تهدئة الخواطر هي مهمة اجتماعية – تربوية. وشرطة إسرائيل ليست جهة تربوية، وإنما هي جهة رادعة تسعى لتطبيق القانون. ورغم أن أحداث الشغب ليست مقبولة على غالبية الجمهور الحريدي، إلا أننا لا نرى أحدا يحرك إصبعا من أجل تهدئة الخواطر".

وأضاف الضباط، ملمحين إلى أن قيادة جماعات حريدية هي التي تشجع على استمرار المظاهرات العنيفة، أن "على أحد ما هناك في الأعلى بين قيادة الجمهور الحريدي أن يبدأ بفهم معاني وتبعات هذه القصة. والوضع الحالي لا يمكن احتماله بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي. فهناك مجموعة صغيرة من المتطرفين الذين يخرجون المارد الحريدي من القمقم".

من جانبه انتقد عضو الكنيست الحريدي موشيه غفني، من كتلة يهدوت هتوراة، وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، يتسحاق أهرونوفيتش، وقال لهآرتس إنه لا يجري محادثات مناسبة مع الجمهور الحريدي. وأضاف غفني "أنا أعارض بشدة هذه المظاهرات العنيفة، لكنكم تجعلون الجمهور المعتدل يتخذ مواقف ضد الشرطة". ووجه غفني سؤالا إلى أهرونوفيتش حول "كم مرة أجريت مشاورات مع ممثلي الجمهور الحريدي؟"، مشيرا على سلفه في المنصب، أفي ديختر، كان يجري مشاورات باستمرار مع ممثلي الحريديم وبينهم أعضاء الكنيست من أحزاب الحريديم.

لكن أهرونوفيتش التقى، مؤخرا، مع زعيم "الطائفة الحريدية" الحاخام فايس. وبحسب هآرتس، فإنه عندما طلب الوزير التوصل إلى تسوية لموضوع موقف "كرتا"، رد عليه الحاخام قائلا "عليك أن تطلب تسوية مع السبت، فيوم السبت لا يساوم". كذلك أصر فايس على موقفه بإغلاق الموقف يوم السبت خلال لقاء مع رئيس بلدية القدس، نير بركات. وقال فايس لبركات "إنني مستعد للوقوف على رأس المتظاهرين وأن يتم اعتقالي من أجل تحقيق قدسية السبت". وبعد خروج بركات من غرفة الاجتماع، استدعى فايس مساعد رئيس البلدية للشؤون الحريدية ووبخه قائلا "كيف بإمكان شخص حريدي مثلك، مع ذقن، أن يساعد شخص يدنس يوم السبت؟".

على ضوء هذه الأقوال، نقلت هآرتس عن قيادي في "الطائفة الحريدية"، لم تذكر اسمه، قوله إنه فوجئ من دعوة قيادة الطائفة للمتظاهرين بالامتناع عن استخدام العنف. وقال القيادي إن فايس "يتابع ويسمع عن كل ما يحدث في الشوارع ويصر على المضي في طريقه. وهو يرى بهذه الأحداث نضالا أيديولوجيا وشخصيا، لكن على ما يبدو أنه بدأ يستوعب وجهة الأمور". لكن مقربين من الحاخام فايس ابلغوا هآرتس بأنه "لا يثق بتاتا بالمؤسسة الحاكمة في إسرائيل".

يشار إلى أن "الطائفة الحريدية" تأسست في القدس قبل تسعين عاما تقريبا. وتسعى هذه الطائفة، الآن، تحت قيادة فايس إلى الحفاظ على عزلتها وفقا لما كان متبع لدى تأسيسها، وهو الأمر الذي يتمثل خصوصا بالمعارضة الشديدة للصهيونية. وتضم "الطائفة الحريدية" عشرات الآلاف من اليهود المتدينين الذين يشكلون نسبة خمسة بالمائة من مجمل الحريديم، لكن هذه الطائفة هي التي تفرض أجندة المجتمع الحريدي في الشهور الأخيرة.

من جهة أخرى هاجم مستشار بركات للشؤون الحريدية، أبراهام كروزير، نشطاء علمانيين في القدس يقولون إنهم يناضلون ضد "الاحتلال الحريدي"، ووصفهم بأنهم "مشاغبون وظلاميون ومتطرفون يبثون أفكارا سامة".

موت ال"ستاتوس كوو"

تستخدم عبارة "ستاتوس كوو" (باللاتينية، أي الوضع القائم) في إسرائيل للإشارة إلى اتفاق بين القيادة العلمانية الإسرائيلية وقيادة الحريديم، فور قيام إسرائيل، حول العلاقة بين الدين والدولة. لكن "ستاتوس كوو" لم يوقف أبدا الاحتكاك والتوتر بين الجانبين. وشمل اتفاق ال"ستاتوس كوو" الحفاظ على قدسية يوم السبت والطعام الحلال، بموجب الشريعة اليهودية، وقوانين الزواج وتدريس المواضيع المتعلقة بالديانة اليهودية في جهاز التعليم. وتراجع العلمانيون عن قسم من هذه التفاهمات خلال العشرين عاما الأخيرة، على خلفية التطورات التي شهدها العالم في شتى المجالات، وخصوصا بعد هجرة اليهود الروس الكبيرة إلى إسرائيل في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي. فقد ظهرت في أعقاب هذه الهجرة قضايا لم يكن الإسرائيليون يتعاملون معها من قبل، مثل عدم التأكد من يهودية قسم كبير من المهاجرين وأزواجهم، وافتتاح حوانيت خاصة لبيع لحم الخنزير المحرم في الديانة اليهودية، إضافة إلى الطبيعة العلمانية لدى الأغلبية الساحقة من هؤلاء المهاجرين.

وكان رئيس حكومة إسرائيل الأول، دافيد بن غوريون، قد التقى بعد قيام الدولة بفترة قصيرة مع الحاخام أبراهام يشعيا كارليتس، الذي يعتبره الحريديم أحد كبار الحاخامات في القرن العشرين، ليبحثان في مسألة العلاقة بين العلمانيين والحريديم وكيفية العيش معا. لكن الحاخام كارليتس شبه اليهود العلمانيين بالعربة الفارغة الموجودة على جسر ضيق ويجب أن تخلي الطريق للعربة المليئة، في إشارة إلى اليهودية الحريدية. ورد بن غوريون عليه قائلا إن اليهودية العلمانية، التي أقامت الدولة، هي العربة المليئة. وتدل الأحداث الأخيرة على مدى الاحتكاك والتوتر بين "العربتين"، وإلى انعدام الثقة بينهما ومدى هشاشة ال"ستاتوس كوو".

وتؤكد التقارير الصحفية الإسرائيلية التي تناولت المظاهرات في الشارع الحريدي والمواجهات مع الشرطة على أنه رغم وقوف مجموعة حريدية، تصفها الصحافة الإسرائيلية ب"المتطرفة" و"المعادية للصهيونية" ولم توافق أبدا على ال"ستاتوس كوو"، إلا أن هذه المواجهات كشفت عن الإحباط العميق الذي يسود المجتمع الحريدي كله جراء تعامل المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية معه. وعبر الكثير من المحللين من أن يؤدي هذا الحال إلى المس بنسيج العلاقات بين العلمانيين والحريديم بصورة لا يمكن إصلاحها.

ورأى الكاتب دوف ألبويم، المتخصص في الشؤون الحريدية، أنه فيما يتعلق بالقوانين المختلفة حول علاقة الدين بالدولة في إسرائيل، فإنه بالإمكان التأكيد على أن يتم الحفاظ ال"ستاتوس كوو"، لكن التغيرات لا تتوقف على المستوى الثقافي. وقال ألبويم لموقع يديعوت أحرونوت الالكتروني (4.9.2009) إن "عدم تجنيد شبان اليشيفوت (المعاهد الدينية اليهودية) للجيش الإسرائيلي مستمر، كما أن الفتيات اللواتي يعلن عن أنهن متدينات يحصلن على إعفاء (من الخدمة العسكرية). وهناك قانون يحظر فتح المحال التجارية في أيام السبت. وهناك حرص على التمسك بقوانين الحلال (في مجال الطعام والشراب) والقوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية. لكن من الناحية الفعلية فإنه يوجد اختراق علماني للخطوط الأساسية".

وأضاف ألبويم أن خرق العلمانيين لتفاهمات ال"ستاتوس كوو" تتمثل "بأخذ المحاكم صلاحيات المحاكم الدينية في الكثير من المجالات. والكثير من المواطنين لا يتزوجون بموجب الحاخامية، والمحال التجارية ووسائل النقل العامة تعمل في أيام السبت، والمحاكم الدينية لا تتمكن من مواجهة حجم المطالب في مجال التهويد". ويذكر في هذا السياق أن العلمانيين، وخصوصا وسائل الإعلام، يوجهون انتقادات للمحاكم الدينية التي تطالب المتقدمين بطلبات التهويد بشروط صعبة جدا. كذلك فإن حزب "إسرائيل بيتنا" الذي يعتبر ممثلا للمهاجرين الروس في إسرائيل وضع شرطا للانضمام إلى حكومة بنيامين نتنياهو بتسهيل عملية التهويد. وقال ألبويم إن "الواقع اقوى من القوانين على أشكالها، وعمليا هناك انحياز فعلي (من جانب المؤسسة الإسرائيلية) باتجاه العلمانية. وربما أن جوهر القانون لم يتغير، لكن حدوده وتطبيقه يتغير طوال الوقت".

من جانبه عبر الأستاذ الجامعي المتخصص في المجتمع الحريدي، البروفيسور مناحيم فريدمان، عن عدم قناعته بمصطلح ال"ستاتوس كوو". وقال إنه "برأيي أنه لم يكن هناك ستاتوس كوو حقيقي، لأن التغيرات الاجتماعية لا تتوقف للحظة واحدة. وما كان صحيحا في الماضي لم يعد كذلك اليوم. ويشعر العلمانيون بأن الحريديم يدخلون في عظامهم، والحريديم يشعرون بأن الحياة في الدولة أصبحت أكثر علمانية، وكلاهما على حق".

وأضاف فريدمان أن "المجتمع الإسرائيلي مرّ بعملية علمنة شاملة لم يكن بالإمكان تخيلها في سنوات الخمسين والستين. وأسباب ذلك هي تكنولوجية واقتصادية، وتغيرات كبيرة طرأت على وسائل الإعلام جعلت قسما كبيرا من القضايا، التي كانت تؤدي في الماضي إلى حروب بين الحريديم والعلمانيين، غير ذي صلة بالواقع. فمن سيهتم بموضوع تسيير وسائل النقل العامة في أيام السبت إذا كان لدى الأغلبية الساحقة سيارات خصوصية؟ وفي الماضي كان تشتعل القدس على خلفية فتح دور السينما في أيام السبت، لكن اليوم لا أحد يفعل شيئا في هذا الخصوص. والسبب هو أن شكل الترفيه والتسلية تغير، فالقلائل الذين ما زالوا يذهبون إلى دور السينما، التي لم تعد موجودة في مراكز المدن وإنما في التجمعات التجارية في أطراف المدن. وكانت دور السينما هيكلا مقدسا بالنسبة للعلمانيين، لكنها لم تعد كذلك اليوم. ورغم ذلك فإن العلمانيين لا يتذكرون كيف كانت الحياة هنا في سنوات الخمسين. وبالنسبة لهم، فإنه عندما تكون لديهم الحرية المطلقة فيما يتعلق بأسلوب الحياة بفضل التطورات التكنولوجية، وفجأة يوقفونهم ويلزمونهم بالزواج بشكل معين (وفقا للشريعة اليهودية) ويرغمونهم على تحديد موعد الزواج وفقا لتاريخ حيض المرأة، فإن العلمانيين يشعرون إن الحريديم استولوا على حياتهم".

"إسرائيل لم تعد دولة يهودية"

من جانبه شدد عضو الكنيست السابق عن كتلة "يهدوت هتوراة"، الحاخام يسرائيل آيخلر، على أن "الستاتوس كوو مات، والسؤال هو هل ينبغي إبقاء الشاهد لكي تبقى هناك ذكرى لتوافق قومي ما. فمنذ سنوات تجري عملية تراجع علمانية متواصلة فيما يتعلق بالستاتوس كوو حتى هذه الأيام، وتحول الحكم من خلالها إلى معاد للدين تحسبا من فقدان الهيمنة، وهو يتصرف كمحتل تجاه السكان المتدينين".

وأضاف آيخلر أنه "منذ توقيع اتفاق الستاتوس كوو لم يتم سن أي قانون ديني من شأنه أن يفرض أمرا على الجمهور، باستثناء سن قوانين غايتها حماية الضرر الحاصل جراء تراجع العلمانيين عن اتفاق الستاتوس كوو. والسؤال هو ما هو البديل للستاتوس كوو؟ ففي ظل غياب تسوية أخرى، توقفت إسرائيل أن تكون دولة يهودية وتحولت إلى دولة ديمقراطية فقط، تابعة لجميع مواطنيها. وقد فقدت بذلك حقها الأخلاقي بأن تكون موجودة كدولة يهودية".

وفي ظل هذا الانقسام بين الحريديم والعلمانيين، صاغ الحاخام يعقوب ميدان، وهو أحد الشخصيات البارزة في التيار الصهيوني – الديني، وأستاذة القانون في الجامعة العبرية، البروفيسور روت غابيزون، معاهدة مشتركة طرحت بديلا ل"ستاتوس كوو". وقال ميدان "لقد اعتقدنا أن حجم التمزقات في الستاتوس كوو، بسبب الواقع الناشئ وصناع الرأي العام وقرارات المحكمة (العليا)، تحتم طرح غطاء آخر". وتجدر الإشارة إلى أن معادة غابيزون – ميدان استندت إلى فرضية أن جمهور المتدينين فقد الثقة بالمحكمة العليا الإسرائيلية ويشعر أنها لا تمثله، وأن المحكمة لا تملك الصلاحية للبت في مجالات عدة تتعلق بقضايا الدين والدولة. ومن الجهة الأخرى فإن الجمهور العلماني، الذي يشعر بأن هناك إكراه ديني نابع من محاولات سن قوانين دينية وتضمينها قضايا متعلقة بالعلاقة بين الدين والدولة.

ويقر ميدان أن "الحريديم لم يثقوا يوما بالمؤسسة الحاكمة. ولدى الحديث عن جهاز المحاكم أو الشرطة فإن ثقتهم بهما محدودة للغاية بعد سنوات طويلة من المواجهات. وهذا التوجس لدى الحريديم لم يأت من فراغ، إذ أقرت المحكمة العليا في السنوات الأخيرة ما هو شرعي في اتفاق الستاتوس كوو وما هو غير شرعي، وبلورت حياتنا وفقا لوجهة نظره. وقد أخذت المحكمة لأيديها صلاحية اتخاذ قرارات حول ما الذي يحتاجه المجتمع وما لا يحتاجه، ومن هو الجمهور المتنور وغير المتنور. وتبقي الشيء القليل جدا من الستاتوس كوو".

وحول المعاهدة التي صاغها مع غابيزون قال ميدان إن "الستاتوس كوو شكل اتفاق وقف إطلاق نار، كالذي يتم توقيعه بين الأعداء. لكننا اعتقدنا أن علينا أن نبحث عن المشترك لكي نضع معاهدة بين شركاء. إذ أن هذه الدولة، كدولة يهودية، هي لنا جميعا، الذين نحافظ على التراث الديني والمتحررين من ذلك على حد سواء".

ويلخص ألبويم اسباب احتدام الصراع بين العلمانيين والحريديم في الفترة الأخيرة قائلا إنه "خلافا للماضي، يشعر الحريديم اليوم أنهم أصبحوا مجموعة قوية جدا، سياسيا واقتصاديا. وعندما تشعر مجموعة بأنها قوية إلى هذا الحدن فإنه لا ينبغي عليها الانشغال دائما بالدفاع عن نفسها. ويشعر الحريديم بثقة كبيرة في النفس وبشكل أكبر مما كانوا يشعرون قبل عشرين عاما. وهناك تطورات كثيرة، وهم يستخدمون التكنولوجيا الحديثة، وهو أمر لم يكن بالإمكان تخيله في الماضي. وقد أصبح الحريديم منفتحين للتغيير ولا يوجد سبب يجعلهم يرفضون التوصل إلى قاسم مشترك مع العلمانيين".

من جانبه خلص آيخلر إلى أنه "لا يوجد خيار سوى بإعادة إحياء الستاتوس كوو، لأن التسامح هو الطريق الوحيدة التي تسمح بالعيش المشترك هنا". لكن كلمات آيخلر الأخيرة بعيدة كل البعد عن الواقع، على ضوء التباعد والنفور الحاصل بين العلمانيين والحريديم، الذي يبرز بصورة جلية في المواجهات بين الحريديم والشرطة في القدس.