إسرائيل والأقلية العربية- حالة العنصرية والكراهية كظاهرة عامة

في إطار مشروع الرصد السياسيّ، يوثق "مدى الكرمل- المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقيّة" منذ العام 2000 معاملة دولة إسرائيل والمجتمع الإسرائيلي للمواطنين الفلسطينيين، ويتابع بشكل مثابر ومنهجيّ الدلائل التي "توفرها" أجهزة الدولة، ومؤسّساتها والمواطنون اليهود.

وتساهم هذه التّقارير (التي تغطّي الفترة الممتدة من العام 2000 وحتى العام 2005) في تحليل بواطن المعاملة الرسمية وغير الرسمية من قبل المجتمع والدولة للأقلية الفلسطينية التي تعيش فيها، وتشكّل أرضيّة ملائمة للباحثين والسياسيين والعاملين في الحقل والمهتمين بالمجال، للتعمّق في دراسة مكانة الفلسطينيين في إسرائيل والعمل قدر الإمكان على تحسينها

تزامنت بداية مشروع الرصد السياسيّ مع مرحلة ما بعد أحداث أكتوبر 2000، التي راح ضحيّتها 13 شابًا عربيًا قُتلوا بأيدي قوّات الشرطة. تمّ نشر تقرير الرصد السياسيّ الأوّل، "مواطنون بلا مواطنة"، قبل شهرين من نشر نتائج تقرير لجنة أور- "اللجنة الرسمية للتحقيق في الصدامات بين مواطنين إسرائيليين وقوات الأمن التي اندلعت في يوم 29-9-2000". لم تشكّل نتائج لجنة أور نقطة تحول في علاقة الدولة والمجتمع الإسرائيلي بالعرب، كما لم تساهم في تكوّن أي شكلٍ من أشكال الوعي المشترك للغبن اللاحق بالمواطنين الفلسطينيين على مدار السنين. على الرغم من ذلك، وعلى الرغم من أنّ نتائج اللجنة قلصت إلى حدّ بعيد بعد نشرها، من خلال تعيين لجنة لبيد لفحص نتائج لجنة أور، فقد نجحت لجنة أور في الإشارة إلى تجذّر عقلية العداء في صفوف عناصر الشرطة تجاه المواطنين الفلسطينيين.

ويصف التقرير الأخير (الذي يغطّي العام 2005) والصادر بعد مضي ستة أعوام على مقتل الشبان العرب، وثلاثة أعوام على نشر تقرير الرصد السياسي الأوّل، استمرار سياسة العداء والكراهية تجاه المواطنين الفلسطينيين، التي باتت تتسم أكثر وأكثر بصبغة شرعيّة وقانونيّة، بعد نشر نتائج قسم التحقيقات مع رجال الشرطة في وزارة العدل، إذ برّأت تلك النتائج الشرطة الإسرائيليّة من جريمة قتل الشبان العرب في هبة أكتوبر 2000. يتضح لنا من خلال تقارير الرصد السياسي أنّ ثقافة العداء والكراهية التي أشارت إليها لجنة أور ليست حكرًا على أفراد الشرطة الإسرائيليّة، بل إنها تسَّربت إلى أذرع الأمن الأخرى وإلى عامّة المواطنين اليهود.

لا يقترح التقرير نموذجا نظريّا لمسألة المواطنة الممنوحة للسكان الفلسطينيين في إسرائيل أو لسبر أغوار السياسة المنتهجة حيالهم، مسبباتها ودوافعها. إلا أنه بإمكان عملية تراكم المواد الواردة في تقارير الرصد السياسي أن تشير بشكل جليّ إلى تنامي ثقافة سياسيّة مهيمنة في المجتمع الإسرائيلي، توفر الشرعيّة الضروريّة لمواصلة المسّ بمكانة وحقوق المواطنين الفلسطينيين. تنامي هذه الثقافة وشرعنتها، توفران أرضية خصبة للطعن ببعض الادعاءات التي افترضت تحسين تعامل الدولة والمجتمع الإسرائيلي مع المواطنين العرب، كنتيجة مرافقة للتغييرات والتحوّلات التي اجتازتها الدولة والثقافة السياسيّة، والتي افترض أنّها تساهم في صياغة تعريف مُستجد للمواطنة في إسرائيل.

إلا أن إسرائيل، بمفاهيم متعدّدة، لم تزعم نهجها خطواتٍ حقيقيّة تجاه تطبيع مسألة المواطنة، ولم تتنازل قَطّ عن الامتيازات الممنوحة للمواطنين اليهود فعلاً، وضِمْنًا لليهود الذين ليسوا مواطنيها بعد.

يدَّعي سامي سموحة، عالم الاجتماع الإسرائيلي، أنّ المواطنة الليبراليّة المحدودة التي مُنِحَت للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، تمنحهم حقوقًا سياسيّة رسميّة تمكّنهم، بل تحفّزهم، على النضال في إطار القانون. إلا أن هذا الطرح يبسّط الأُمور ويتجاهل وجود ثقافة سياسيّة مهيمنة وقيم وتقاليد، بل أنظمة وقوانين تصعّب ضمان هذه الحقوق الأساسية فعلاً، وتفرغها من أيّ مضمون جوهريّ.

إقصاء الأقليّة الفلسطينيّة عن عمليّة بلورة الأجندة والمصلحة العامتين في الدولة، كان وما زال أمرًا مقبولاً لدى غالبيّة السكان اليهود، ومغروساً في صميم الوعي الجماعيّ. بالنسبة لغالبيّة المجتمع الإسرائيلي، هناك أمّة واحدة قُدِّرَ لها أن تحكمَ الدولة عاكسةً بذلك العدل الطبيعيّ. ترى هذه الغالبية أن أية محاولة لتغيير مبنويّ وجوهريّ لنظام الحكم هي بمثابة تآكل المجتمع، بل حتى نهاية المشروع القوميّ الصهيونيّ. لا يمكن إذًا، الاستمرار في تفسير السياسة المنتهجة حيال مجموعة الأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل، بمصطلحات الإهمال والتمييز العاديين الموجَّهين ضدّ مجموعات مستضعفة في المجتمع، أو بمصطلحات الصراعات الاجتماعيّة التقليدية، فالتمييز والعنصريّة والعداء تجاه الأقلية الفلسطينية، كلها تشهد على وجود منظومة ثقافيّة مبنويّة، ذات جذور متأصّلة وانعكاسات بعيدة المدى.

في معظم الحالات، يُعْرَضُ النظام الاجتماعيّ- السّياسيّ في إسرائيل تحت غطاءٍ من الطبيعيّة والشفافيّة، بغية تمويه سيطرة مركّبات العداء والعنف على لبّ الأيديولوجيا المُكَوِّنَة لهذا النظام، والتي تناقض جوهر النظام الديمقراطيّ. وينبع عدم تطبيق نظام ديمقراطيّ ليبراليّ في إسرائيل من تناقضات بنيوية جوهريّة في الديمقراطيّة الإسرائيليّة. يكمن التناقض الأوّل في الطابع الكولونياليّ لإسرائيل؛ وينبع الثاني من غياب الفصل بين القوميّة والدين والمواطنة.

ويفسّر الباحثان يوآف بيليد وغرشون شابير الغبن اللاحق بمجموعة الأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل كنتيجة للالتزام الراسخ، في الدولة وفي الثقافة السياسيّة المهيمنة، للحفاظ على يهوديّة الدولة، وللرغبة الجامحة في إنشاء دولة متجانسة القوميّة؛ وهو التزامٌ يناقض عرف الديمقراطيّات الغربيّة. إضافةً إلى ذلك، تُفَسَّر هذه السياسة بواسطة استمرار سيطرة مفاهيم مركزيّة صقلتها الحركة الصهيونيّة، تجاه القوميّة الفلسطينيّة على الوعي اليهودي الجماعي.

كثير من دراسات العنصريّة والتّمييز المنتهجين حيال الأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل تعترف، بدرجات متفاوتة، بوجود هذه الظواهر وتحاول، بدرجات متباينة، توفير المُبَرِّرَات. لكن، النقاش عمومًا يتمحور حول العنصريّة والتمييز في الجانب المؤسساتي، ويمتنع عن وصف حالة العنصريّة والكراهيّة كظاهرة عامة. بذلك، يتمّ إهمال جوانب مركزيّة في الثقافة السياسيّة لمجموعة الأغلبيّة اليهوديّة في الدولة، وإعفاؤها من اعتبارها سببًا للتمييز والعنصريّة المنتهجة تجاه المواطنين الفلسطينيين.

وعلى ضوء ذلك يكتفي التقرير برصد أبرز تجليات الثقافة العنصرية في العام المنصرم، وعلى وجه التحديد منتوجات الجهاز السياسي، ومتابعة الأحداث، والتصريحات والممارسات اليومية، التي تشكّل معًا إطارًا عامًّا لثقافة سياسيّة تعمل على تضييق هامش الحريّة المتاحة للفئة السكانية الفلسطينية، بل وإقصائها تمامًا عن محاور التّأثير في الجهاز السياسيّ، والاجتماعيّ والاقتصاديّ. ترمي هذه الثقافة- في المقابل- إلى ترسيخ الحقوق الزائدة الممنوحة للمواطنين اليهود.

في ظلّ نظام الحكم في دولة إسرائيل، وفي ظلّ الثقافة السياسيّة الراهنة، نجد أنّ معظم وسائل العمل الشرعيّة المتاحة لمجموعة الأغلبيّة اليهوديّة، مغلقة أمام مجموعة الأقليّة. وعلى الرّغم من أن جزءًا من تلك الوسائل متوفر بشكل رسميّ ويتمّ استخدامه من قبل مجموعة الأقليّة، فإنّ الأمر لا يتعدّى مرحلة بلورة المطالب وتوجيهها إلى النظام دون أي قدرة على التأثير على النتائج. يعني هذا أنّ المنالية (سهولة الوصول) هنا رسمية وظاهرية، لا جوهريًة.

عندما تفرض الدولة سيطرتها على الحيّز السياسي والحيّز العام، تسعى مجموعات الأقليّة للعمل من خلال الحيّز المدنيّ، البديل المتاح، وتحاول أن تتحدّى سيطرة الدولة في المجال الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ. يُنظر إلى محاولات الحراك (العمل) في السياسة الجماهيريّة- الحيز الجماهيريّ- كوسيلة متاحة لحشد وتجنيد المجموعات المستضعفة للقيام بعمل جماعي بغية التغلّب على المعوّقات البنيويّة والمؤسساتيّة، ولفرض إصلاحات وتوسيع هامش الديمقراطيّة القائمة. يمكن أن ينشأ هذا التحديّ في الأنظمة الديمقراطيّة أو شبه الديمقراطيّة، وليس بالضرورة أن يطالب بتغيير النظام بشكل أساسيّ.

من بين قنوات العمل المتوفرة شكليًّا لاستعمال الأقليّة الفلسطينية في إسرائيل، يمكن ذِكر السلطة التنفيذيّة (الحكومة)؛ السلطة التشريعيّة (الكنيست)؛ والسلطة القضائيّة؛ علاوةً على العمل المباشر (الاحتجاج والمظاهرات) والمجتمع المدنيّ والإعلام.

تستعين الأقليّة الفلسطينيّة بمعظم هذه القنوات في محاولة لتوجيه مطالب إلى المؤسسات وتوفير احتياجاتها الأساسية، إلاّ أن هذه المحاولات مقيّدة ومشروطة بعدم المساس بصيغة النظام الحالي، وتقتصر في أفضل الأحوال على احتياجات معيشيّة ومطالب عينيّة. بعبارة أخرى، هناك دائمًا سقف محدّد لمطالب الأقلية الفلسطينية يفرضه النظام القائم ومجموعة الأغلبية، وليس بمقدور مجموعة الأقلية الفلسطينيّة تحقيق مصالحها، فهي تحاول النضال، لكنها تواجه المعوّقات والعنف. وهذا ما سنتعرّض له بالتفصيل في مقال قادم.

_______________________________________

* إمطانس شحادة- باحث ومحرّر تقرير "مركز مدى الكرمل" السنوي للرصد السّياسي حول إسرائيل والأقلية العربية.