الإسرائيليون يتخبطون في تفسير عمليات الجرافات

"المشهد الإسرائيلي" – كتب بلال ضاهر

لا أحد في إسرائيل يعرف ما الذي يجري في القدس الشرقية، في أعقاب "عملية الجرافة" الثانية خلال شهر تموز الحالي، وهي العملية الثالثة منذ شهر آذار، الذي نفذ خلاله مواطن مقدسي عملية إطلاق النار في المعهد الديني اليهودي"مركاز هراف". قادة الأجهزة الأمنية يحاولون "ربط خيوط" بين العمليات الثلاث، لمعرفة ما إذا كانت تقف خلفها جهة معينة، تنظيم معين، أم أن هذه العمليات بمبادرة أفراد وحسب. ولحالة انعدام اليقين هذه، كان لرئيس الشاباك، يوفال ديسكين، أفضل وصف لها: "فراغ سلطوي" في القدس الشرقية. وهذا "الفراغ السلطوي" هو جريمة إسرائيلية، جريمة حرب ارتكبتها إسرائيل. إن "الفراغ السلطوي" هو حفرة حفرتها إسرائيل ووقعت فيها. فمن جهة، فرضت القانون الإسرائيلي على القدس الشرقية والقرى المحيطة بها و"ضمتها"، ومن الجهة الثانية، لا تقدم الخدمات للمقدسيين الفلسطينيين وأقامت جدارا عزل أحياء القدس عن القدس. لا سلطة إسرائيلية ولا سلطة فلسطينية، ولا أية سلطة أخرى.. فراغ وحسب.

وحذا المحللون الإسرائيليون حذو جنرالاتهم ومخابراتهم. يتلمسون في الظلمات ويحاولون فهم ما الذي يجري وما الرابط بين العمليات الثلاث. واعتبر المحلل العسكري في صحيفة يديعوت أحرونوت، ألكس فيشمان، اليوم الأربعاء – 23.7.2008، أن ثمة "مؤشرات لانتفاضة". وكتب أن "الانتفاضة الأولى أيضا، في نهاية سنوات الثمانين، بدأت على هذا النحو، بسلسلة من الأحداث غير المفسرة، غير المرتبطة بتنظيمات إرهابية، ظواهر 'عنف عفوي'. فجأة ظهر سائقو حافلات دهسوا جنودا كانوا واقفين بانتظار من يقلهم أو مجرد سائقين دهسوا جنودا في الطرقات، بعد ذلك ظهرت أحداث طعن، خطف أسلحة، إلقاء زجاجات حارقة وحجارة. ووصفوا هذه الأحداث عندنا بـ'العمليات الرائجة' وأصروا على أن الحديث يدور عن أناس لديهم مشاكل نفسية، أو تم تحريضهم أو متأثرين من التطرف الديني".

وأضاف فيشمان أنه "حينئذ، في بداية العام 1988، اعتقدوا أن هذه الموجة ستعبر بسرعة. وينبغي أن نأمل اليوم، في العام 2008، أننا نملك تجربة أكبر، وساذجين أقل ولسنا حالمين في اليقظة". ورأى أن "ما يحدث في الشهور الأخير، وبالأساس في القدس، ليس محض صدفة. ثمة خيط يربط بين جميع 'العمليات الرائجة' الحاصلة أمام ناظرنا، بين جميع 'سائقي الجرافات المجانين'. ولهذا الخيط الذي يربط بين العمليات يوجد اسم: ضعف الحكم. ومن هنا يبدأ التدهور الذي لا يمكن منعه، إذ أن ضعف الحكم وعدم القدرة على فرض القانون والنظام يقودان إلى انعدام الردع والجريمة والفوضى".

وأصر فيشمان، مثلما يصر معظم المحللين الإسرائيليين المقربين من المؤسسة الأمنية، على أن الدين هو الحافز لتنفيذ عمليات. وكتب أنه "لا حاجة اليوم للذهاب إلى المسجد لحقن السم في الوريد. فالمسجد يصل اليوم إلى البيت، بواسطة الانترنيت. فكل تلك الخلايا التي شكلها عرب إسرائيل (يقصد أيضا سكان القدس الشرقية) وتم ضبطها مؤخرا واتهموا بالانتماء لتنظيم القاعدة، تسجلوا للتنظيم من خلال منتديات (الكترونية) تابعة للجهاد العالمي... وهناك أيضا الأحاديث الشيطانية التي يتم بثها عبر الإذاعات والتلفزيونات الفلسطينية والعربية التي بمقدورها غسل دماغ أكثر الأشخاص اعتدالا".

من جانبه، وتحت عنوان "ثأر الجرافة"، كتب المحلل السياسي ايتان هابر، في يديعوت أحرونوت، اليوم، أنه على مر السنوات كانت هناك "موضات" لشكل العمليات. وأضاف أنه في مطلع سنوات التسعين سادت "موضة" الطعن بالسكين، وكان شبان فلسطينيون يطعنون إسرائيليين. وأشار هابر إلى أن البعض في إسرائيل عزوا هذه "الموضة" إلى فوز إسحاق رابين، الذي كان هابر مدير مكتبه، في الانتخابات العامة في العام 1992. ولم يعرف هابر، مثل غيره، تفسير "موضة" الجرافات. لكنه اعتبر أن "الحل الوحيد الآن، على ما يبدو، لهذا النوع من الإرهاب هو الإكثار من تحميل السلاح لمواطنين (إسرائيليين) شجعان، إلى جانب نشر أفراد شرطة ورجال أمن في المناطق التي يتوقع حدوث عمليات كهذه فيها".

وكتب المحلل العسكري، عمير ربابورت، والصحفي عميت كوهين، في معاريف، اليوم، أن الجدران في مخيم شعفاط في شمال القدس، مكسوة بعدد لا نهائي من شعارات ورموز حركة حماس. "فهذه الحركة التي تدعوا للقضاء على إسرائيل هي القوة الأولى في هذه المنطقة من عاصمة إسرائيل". ونقلا عن مواطن مقدسي، يدعى محمد، قوله إن "أماكن مثل مخيم شعفاط هي أرض خصبة بالنسبة لحركات متطرفة. فالفقر موجود في كل بيت. وهناك اكتظاظ سكاني وبطالة. إن هذا مكان من دون أي أمل". وتابعا أنه في ضاحية بيت حنينا، في شمال القدس أيضا، "الأكثر رقيا في القدس الفلسطينية، لا تظهر رموز عداء لإسرائيل مثلما في (مخيم) شعفاط. لكن هنا أيضا بالإمكان مشاهدة كتابة على جدار تدعو إلى 'الموت لإسرائيل'. ولا يوجد في الحي أي مؤشر لحكم إسرائيل. ولا يوجد مؤشر حتى لنشاط بلدية القدس. فالشوارع بدون أسماء. ولا يوجد توزيع بريد منظم. لكن يوجد دخول حر للقدس، وعمليا إلى كل نقطة في إسرائيل، بموجب الحق الذي يتمتع به جميع ال290 ألفا من سكان القدس الشرقية".

وتساءل ربابورت وكوهين "هل هذا الحق يدل على أن القدس الكبرى، الإسرائيلية والفلسطينية، هي مدينة موحدة؟ ثمة شك كبير. لكن هل بطاقة الهوية الزرقاء التي يحظى بها السكان العرب في القدس الشرقية – كونهم سكان دائمين وليسوا مواطني الدولة – هي خطر أمني؟ لم يعد هناك شك الآن". وأشارا إلى أن أجهزة الأمن الإسرائيلية تصف العمليات الأخيرة بأنها "إرهاب شعبي" ليس منظما "ولا يشمل عمليات معقدة تستوجب استخدام عبوات ناسفة، وإنما هو عبارة عن مبادرات محلية، خاصة تقريبا، أخذت تنبثق في كل ركن من القدس الشرقية. وكل عملية تشعل حماسا جديدا وتذرع بذرة لعملية أخرى".

من جانبه، تناول رئيس الشاباك، يوفال ديسكين، خلال اجتماع لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، أمس، وقبل وقوع عملية الجرافة، ما وصفه بظاهرة "فراغ سلطوي" في القدس الشرقية، ودعا إلى معالجة هذه الظاهرة. وقال ديسكين إنه "إذا لم نعالج ظاهرة الفراغ السلطوي ستتحول القدس إلي مشكلة خطيرة". وطالب الحكومة الإسرائيلية بإغلاق وهدم بيوت عائلات مواطنين فلسطينيين من القدس الشرقية نفذوا عمليتي "مركاز هراف" في آذار الماضي، وعملية الدهس بالجرافة التي وقعت في مطلع تموز الحالي. وأضاف ديسكين أنه "توجد مناطق في القدس الشرقية خارج وداخل الجدار العازل تحولت إلي مناطق فراغ سلطوي لا يمكن لإسرائيل أن تعمل فيها من الناحية الأمنية، من دون حشد قوات كبيرة. ومن أجل الدخول إلى شعفاط اليوم ينبغي حشد قوات أكبر مما نحتاج للدخول إلي جنين" . وتابع ديسكين أن "الشاباك يلحظ وجود ظاهرة في القدس الشرقية تتمثل بمقلدين يرغبون بتنفيذ عمليات على غرار العمليتين اللتين وقعتا في القدس".