الناجون من "المحرقة" يتهمون إسرائيل بسرقة تعويضاتهم

في خطوة نادرة ولافتة معا، استقطبت اهتماما واسعا من جانب وسائل الإعلام الغربية بشكل خاص، نظم "الناجون" الإسرائيليون (اليهود) من المحرقة النازية يوم الأحد 5/8/2007 مسيرة حاشدة في القدس الغربية شارك فيها الآلاف من أبناء عائلاتهم والمتضامنين الإسرائيليين وذلك احتجاجا على تدني قيمة مخصصات الإعانة المالية الشهرية التي تقدمها الحكومة الإسرائيلية لهؤلاء "الناجين" الذين لا يقل عمر أصغرهم عن الثمانين عاما.

ورأت معظم الصحف العبرية والأجنبية في تغطيتها لتظاهرة "الناجين اليهود من المحرقة" والتي سار المشاركون فيها من "حديقة الورود" ليعتصموا أمام مقر رئاسة الحكومة الإسرائيلية، أن احتجاج "الناجين" يشكل فضيحة مشينة وإحراجا منقطع النظير للدولة اليهودية وحكومتها اللتين اتهمتا بالافتقار لأبسط قيم ونواميس الرأفة والحساسية تجاه هذه "الفئة الخاصة" في المجتمع، فضلا عن اتهامها بـ"سلب وسرقة أموال التعويضات" الضخمة التي صرفتها ألمانيا والدول الأوروبية التي تحالفت مع نظامها النازي قبل وإبان الحرب العالمية الثانية، والتي كان من المفروض أن توضع تحت تصرف هؤلاء الناجين وأبناء عائلاتهم في إسرائيل.

وقد جاء اجتماع هؤلاء "الناجين" الذين تتضارب المعلومات حول عدد المقيمين منهم في إسرائيل-بحسب معطيات الدولة والحكومة 120 ألفًا وبحسب "الناجين" أنفسهم أقل من 50 ألفا. ويعيش معظمهم في أواخر العمر- في ضوء عدم استجابة الحكومة الإسرائيلية لمطالبهم المتعلقة بتحسين ظروف معيشتهم ورفع مخصصات الإعانة الشهرية الحكومية التي لا تتعدى حاليا ما قيمته 1000 شيكل (حوالي 230 دولارا أميركيا) للشخص الواحد، وافقت حكومة إيهود أولمرت أخيرا على زيادتها بنحو 20 دولارا فقط وهو ما أثار غضب أفراد هذه الفئة ودفعهم إلى تنظيم احتجاجهم الأخير.

واللافت أن مسيرة الاحتجاج التي قام بها "الناجون من المحرقة" في القدس الغربية لاقت صدى واهتماما ملحوظا في وسائل الإعلام والصحف الأوروبية والأميركية بالذات، في حين لم تغط وسائل الإعلام والصحف الإسرائيلية هذا "الحدث" إلا بشكل خافت وهامشي جدا، حتى أن بعضها اكتفى أمس (الاثنين 6/8/2007) بنقل ما نشر في الصحف الغربية عن الموضوع. وفي هذا السياق أورد موقع صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإلكتروني (ynet) تقريرا لمراسل الصحيفة في واشنطن إسحق بن حورين، جاء فيه: "مسيرة الاحتجاج التي قام بها الناجون من الكارثة (المحرقة) وأبناء عائلاتهم (أول من أمس الأحد 5/8/2007) في القدس احتلت صباح اليوم (الاثنين 6/8/2007) عناوين بارزة في العديد من الصحف العالمية" وأضاف المراسل أن المسيرة "لم تسهم كثيرا في خدمة سمعة إسرائيل في الخارج".

ونقل التقرير عن رئيس الرابطة لمناهضة اللاسامية أبراهام فوكسمان قوله معقبا: "إنه وضع مخز لدولة إسرائيل" لكنه أضاف إن أهمية الموضوع ليست في أبعاده والتعليقات عليه في الخارج وإنما "حقيقة أنهم- يقصد الناجين اليهود في إسرائيل- يعانون من إهمال وتخل عنهم" من جانب الدولة اليهودية، التي تعتبر أن أحد أهم مبررات وجودها كما هو معروف كونها الوريثة لـ "6 ملايين يهودي لاقوا حتفهم في المحرقة النازية". وأردف قائلا: "إنه لشيء مخز ومؤسف أن ننحدر إلى مثل هذا الوضع الذي يحتج فيه الناجون من الكارثة ضد الدولة اليهودية لكونها غير حساسة لاحتياجاتهم".

وجاء على لسان أحد المشاركين في تظاهرة الاحتجاج، وهو من أصول هنغارية وعمره 80 عاما ولقي 160 من أقاربه حتفهم في المحرقة النازية، قوله "جئنا إلى إسرائيل لنبني، لكن الناس الذين يعيشون هنا لم يفهمونا.. كل ما نطالب به هو أن يأخذونا بالحسبان". وكان عدد من المشاركين في التظاهرة وضعوا على أيديهم وصدورهم رقعة- قماش- صفراء كالتي كان اليهود يجبرون على وضعها إبان الحكم النازي، ورفع آخرون لافتات كتبت عليها عبارات من قبيل "نعتذر عن كوننا بقينا على قيد الحياة". واتهم ناجون آخرون الحكومة الإسرائيلية بأنها "سلبتهم التعويضات" المستحقة لهم. ونقلت صحيفة "هآرتس" في تقرير لها عن ناج شارك في التظاهرة قوله غاضبا: "يا الهي، كيف حصل أن نضالا من أجل الكرامة تحول إلى صراع من أجل المال". وأضاف وقد بدا عليه الإعياء الشديد بسبب تقدمه في السن "كم بقي للناجين سنوات حياة؟! بالكاد سنة أو سنتين". وقال ناج آخر اسمه يهودا فرانكل مبينا أن ما أظهرته الحكومة الإسرائيلية من انغلاق وبلادة تجاه "مطالب الناجين الإنسانية العادلة" هو الذي دفعه مؤخرا للاستنتاج بأنه ما من وسيلة أخرى سوى الاحتجاج. وأضاف غاضبا "أريد أن يعرف الألمان أن دولة إسرائيل استولت على أموال التعويضات المستحقة لنا..".

وفي سياق متصل، وتحت عنوان "مسيرة المليمات" كتب توم سيغف (كاتب ومؤرخ إسرائيلي معروف) تعليقا في صحيفة "هآرتس" (أمس الاثنين 6/8/2007) استهله بالقول: في أرشيف يوميات الكنيست من شهر كانون الثاني 1952 سجلت أقوال وردت على لسان عضو الكنيست إليميلخ ريملت من كتلة "الصهيونيين العموميين" في سياق نقاش حول اتفاقية التعويضات مع ألمانيا، جاء فيها "أتى إليّ ابني الصغير وسألني: كم سنحصل تعويضا عن جدي وجدتي؟! اللذين لقيا حتفهما في المحرقة النازية". وأضاف سيغف: هذا السؤال ذاته صاحب أمس (الأحد) آلاف المتظاهرين الذين احتشدوا قبالة مكتب رئيس الحكومة (إيهود أولمرت) وهتفوا ضده كلما ذكر أحد اسمه.. وتابع الكاتب أن المتظاهرين، وكان بينهم مئات الشبان المتضامنين مع مطالب "الناجين" المسنين، أكدوا معا مرة أخرى على مركزية "الكارثة" بين مكونات الهوية الإسرائيلية. واستطرد الكاتب في تعليقه مشيرا إلى أن الكثيرين من المشاركين في مسيرة الاحتجاج هم من أبناء الجيل الثاني والثالث الذين ليسوا بحاجة الى كرم أولمرت وكان بإمكانهم التخلي عن "مسيرة المليمات" التي سارت إلى مكتب رئيس الحكومة، ولكن المال ليس فقط هو الذي دفع هؤلاء الشبان للقدوم إلى القدس وإنما "الغضب من الإهانة الفظيعة التي يلاقيها هنا (في إسرائيل) الكثيرون من الناجين من الكارثة منذ عقود عديدة، والجرح الذي لا يلتئم من جيل إلى جيل.. الجرح الذي نكأه أولمرت الآن مجددا".

وأشار سيغف إلى أن أولمرت علق على احتجاج "الناجين" بقوله ما الذي يريده منه الناجون ولماذا أتوا ليتظاهروا تحت نوافذ مكتبه.. الخبر عن أنه عرض عليهم زيادة المخصص بـ 83 شيكلاً في الشهر غير صحيح، واصفا ذلك بـ "الخدعة". فالخبر الصحيح- تابع سيغف ساخرا- هو الذي صدر عن مكتبه في بيان على ورقة مروسة بشعار الدولة هو: 120 مليون شيكل لـ 120 ألف ناج من الكارثة وهي 1000 شيكل في السنة، 83 شيكل في الشهر!

وبحسب سيغف فإن في هذا الأمر (عدد الناجين) هو خدعة أيضًا، إذ تبين أخيرا أن العدد الحقيقي للناجين (من المحرقة) الذين يدخلون في تعداد سكان إسرائيل لا يزيد عن 50 ألف شخص قسم منهم يتلقى مساعدات من إسرائيل والباقي من ألمانيا وصناديق دعم مختلفة، وأن المحتاجين حقا من بين هؤلاء لا يتعدى 6000 أو 8000 ناج من الطاعنين في السن.