حيفا مدينة واحدة ومجتمعان منفصلان بالتمام

كنت دائما وما زلت متمسكا بالنظرية الذاهبة إلى أننا نحن العرب نعيش في حيفا مدينتنا واليهود يعيشون في حيفا مدينتهم. الواقع أنها مدينة واحدة بالاسم فقط، حيث يعيش فيها العربي لوحده واليهودي لوحده. وهذا الأمر، وللمصداقية التاريخية، ليس حديثا

كنت دائما وما زلت متمسكا بالنظرية الذاهبة إلى أننا نحن العرب نعيش في حيفا مدينتنا واليهود يعيشون في حيفا مدينتهم. الواقع أنها مدينة واحدة بالاسم فقط، حيث يعيش فيها العربي لوحده واليهودي لوحده. وهذا الأمر، وللمصداقية التاريخية، ليس حديثا، فالمجتمع اليهودي قد عاش في الفترة الانتدابية كمجتمع لوحده، حيث كانت لديه هيئات ولجان حارات وأحياء مستقلة، بقي منها لجنة كريات حاييم، للدلالة على هذا الأمر. وقامت هذه اللجان بإدارة شؤون المجتمع اليهودي في كافة نواحي الحياة. أما بلدية حيفا فكانت نوعا ما بيد الأغلبية العربية إلى أن توفي حسن شكري عام 1940 (وهو كان من أشد المتعاطفين مع الصهيونية) فورثه نائبه شبتاي ليفي الذي يتم تصويره وكأنه صديق للعرب، وهذا خطأ تاريخي فاضح، فشبتاي ليفي سمسار أراض كبير زمن الانتداب البريطاني ولعب دورا في شراء الأراضي الفلسطينية لمصلحة الكيرن كييمت لإقامة مستوطنات عليها. وهكذا تمكن المجتمع اليهودي بقوته المالية والإدارية والتنظيمية من السيطرة على حيفا قبل العام 1948 في مسارين، الأول إداري والثاني اقتصادي، فأصبح المجتمع العربي الفلسطيني في حيفا أكثر ضعفا وفقرا. وهذا كان من العوامل التي ساعدت في تنفيذ عملية "المقص" العسكرية لاحتلال حيفا. واحتلالها ممن؟ من أهاليها الأصليين وأصحابها الشرعيين، بعد أن تمت عملية احتلال البلدية والسيطرة على الأحياء السكنية والمصانع والمشاغل والمرافق الاقتصادية. وهكذا تحول العرب الحيفاويون قبل العام 1948 إلى فاقدي السيطرة على مقدرات بلدتهم. وكان من السهل فيما بعد، أو لنقل أصبح من السهل القضاء على المجتمع العربي الحيفاوي المدني.

وبالفعل حققت الحركة الصهيونية والعصابات العسكرية اليهودية تصفية المجتمع المدني الحيفاوي في نكبة 1948، ليتحول الفلسطينيون من حيفا وسواها من القرى والمدن الفلسطينية إلى لاجئين أو إلى سكان ريف فقط دون وجود مقومات مدنية.

بعد الإعلان عن إسرائيل حاول السكان العرب في حيفا ـ الذين بقوا في المدينة من الفقراء والمعدمين في معظمهم ـ إعادة بناء مجتمعهم المدني وسط أساليب القمع والقهر من قبل السلطة البلدية التي سعت بسرعة إلى تنفيذ مشروع هدم المدينة القديمة وبعض الأحياء العربية تشويها لمعالمها العربية ومنعا لعودة أبناء المدينة إليها. ورفعت البلدية والسلطات العاملة معها شعار مدينة التعايش والعيش المشترك، ونجحت إدارة البلدية منذ عهد رئيسها آبا حوشي في تجنيد أموال هائلة من مدن التوأم في ألمانيا والولايات المتحدة الأميركية باسم أهالي حيفا. ويتم توجيه القسم الأكبر من هذه الأموال إلى الأحياء اليهودية لتطوير بُناها التحتية وإقامة مشاريع تطويرية لخدمة المجتمع اليهودي فيها، مع تخصيص الفتات للمجتمع العربي. ووجد رئيس البلدية السابق عمرام متسناع طريقة جديدة وهي تجنيد مزيد من الأموال من حيفاويين مقيمين في الولايات المتحدة لخدمة مشاريعه التوسعية في حيفا والمخصصة للأحياء اليهودية في الأساس. ويبدو أن حيلة التعايش قد انطلت حتى على عدد من أصحاب رؤوس الأموال العرب الحيفاويين المقيمين في الخارج فقدموا تبرعاتهم بسخاء للبلدية معتقدين بسذاجة تامة أنها ستكون ضمن مخطط الشراكة اليهودية ـ العربية.

كذبة كبيرة للغاية فكرة "التعايش العربي اليهودي" . هي فقط فكرة شعاراتية يستعملها رؤساء البلدية للظهور بالمدينة المتنورة والحكومة الديمقراطية التي تحترم أبناء حيفا العرب كاليهود. ولكن واقع الأمر هو غير ذلك، أحداث كثيرة بينت كذب هذا الشعار الفارغ من أصله.

وأخيرا بينت عملية هدم بيت لعائلة بشكار فراغ الشعار البلدي والحكومي الداعم من محتواه، وانكشفت نوايا البلدية المبيتة للمزيد من الهدم في كثير من الأحياء. وليعلم كل مواطن أن عمليات الهدم ستزداد بذريعة عدم توافر التراخيص اللازمة أو بسبب خطورة عدد من المنازل والبنايات، علما انه بالإمكان توفير حلول لكل هذه الإشكاليات فيما لو قصدت إدارة البلدية القيام بذلك. سيشهد المجتمع العربي الحيفاوي مزيدا من تصعيد البلدية للهدم والتغيير في معالم المدينة العربية دون تعاون أو تشاور مع المجتمع العربي ذاته الذي يعاني في أساسه من ضعف وتقهقر في أدائه المجتمعي ودوره في توجيه حياة المدينة بعد أن نجحت البلدية وعدة مؤسسات تتعاون معها في تهميش مساهمة العرب في اتخاذ القرار حول مستقبل المدينة .

ولهذا، يصدق القول دائما وإلى أجل غير معروف، إن حيفا مدينة واحدة يعيش فيها مجتمعان منفصلان بالتمام. المجتمع العربي له مؤسسات تعليمية خاصة في معظمها تتحكم بالتعليم ولا تسمح بتدخل أو لنقل مشاركة الأهالي في بلورة التربية والتعليم في عصر متقدم، ومؤسسات تعليمية رسمية مصابة بالتهلهل الشديد والشلل القوي لعدم توفير الميزانيات اللازمة لتقدمها، ولوجود هيئات مسؤولة فاقدة القدرة على الإدارة والتوجيه لأسباب عدة. إضافة إلى ذلك وهذا الأمر تم فحصه، فإن المواطن العربي في حيفا قد وضع في بيئة اجتماعية وتعليمية وإنسانية لا يختلط فيها باليهودي إلا في النادر أو في حالات تبادل اقتصادي ـ مالي فقط .

الحديث الموجه إلى رئيس البلدية الحالي يونا ياهاف الذي يظهر كالحمامة الوديعة والمسالم يجب أن يعرفّه أن المجتمع العربي في حيفا مطلع على أحواله العامة ولن تترك قضاياه تمر بهذه السرعة دون أن توجه رسائل شديدة اللهجة نحو سياسته التدميرية للمدينة عامة وللمجتمع العربي خاصة. إهماله للأحياء العربية ظاهر للعيان ولا يمكن إخفاؤه، وعدم وجود أي مخطط لتطوير المجتمع العربي وتمكينه مستقبليا أمر في غاية الخطورة وللبلدية دور في هذا المجال ولا تقوم به. ما تقدمه هذه البلدية للمجتمع العربي الحيفاوي غير كاف، فأولاد العائلات العربية الذين يتعلمون في المدارس الخاصة يوفرون على البلدية مبالغ كبيرة يتوجب عليهاـ أي على البلديةـ تخصيصها لتطوير الأحياء العربية وتحسين ظروف معيشة العرب وحياتهم الاجتماعية والثقافية .

البلدية في همومها تريد المحافظة على الوضع القائم دون تغييره، متمسكة بشعار الحفاظ على خصوصية المجتمع العربي في حيفا، وكأنها موكلة بهذا الأمر. الواقع ينقل صورة قاتمة للغاية وهي أن المجتمع العربي متشرذم داخليا بفعل نفسه في الأساس، ووفق تركيبته الطائفية، رغم محاولات جادة من قبل بعض الأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية إلى العمل من أجل بناء مجتمع مدني متقدم أساس رؤيته تطلعات متقدمة وعصرية بعيدا عن التقوقع الذي تسعى البلدية إلى زيادته وتقويته وإثارته والتعامل مع الشأن الطائفي وكأنه هو التمثيلي. المجتمع العربي النير يرفض هذه السياسة ويعلن أن هدفه العيش بكرامة في مدينته ووفق كل أسس المساواة والعدالة الاجتماعية وحرية الفرد في معتقده ورؤاه، وعدم التعامل مع المواطن من منطلقات مصلحية ضيقة.

تنتظر المجتمع العربي في حيفا حالات من العنف السلطوي ستشهدها الفترات القادمة، سواء هذا العام أو العام القادم. وبناء عليه يتوجب على هيئات المجتمع الأهلية السعي إلى خلق آلية عمل لمواجهة مخططات التغيير والتبديل والمحو التي ستقوم بلدية حيفا في تنفيذها بهدوء وبعيدا عن الأضواء، تماما كما كانت تفعل في الماضي، ورافعة شعار أن هذه هي المدينة الوحيدة التي تعيش الحياة المشتركة.

وتخطط البلدية لتنفيذ مشاريع ضخمة سيخرج بعضها إلى حيز التنفيذ مستقبلا في بعض المناطق القريبة من الأحياء العربية وبعضها في داخل الأحياء العربية والمواطنون لا يعرفون شيئا عنها.

الحاجة ماسة للغاية، وقلناها عندما تسلم ياهاف رئاسة البلدية، تنظيم العمل الجماهيري ودراسة فكرة إقامة هيئة بديلة لمواجهة البلدية وتكوين لوبي ضاغط من قوى مثقفة وفاعلة على الساحة البلدية والحكومية.

أما فيما لو بقي الوضع العام للعرب في حيفا على ما هو عليه فإن أزمات كثيرة ستعصف بهذا المجتمع لا محالة. وباعتقادنا أن نجاح بلدية حيفا في تنفيذ مخططات الهدم وتهميش المجتمع العربي ستكون مؤشرًا خطيرًا على الصعيد القطري عامة .