الانعكاسات الاجتماعية - الاقتصادية لحرب لبنان

تعريف ومدخل

تكبدت إسرائيل في حرب لبنان الثانية ثمناً باهظاً في الخسائر البشرية والأضرار الجسمانية والمادية وغيرها. في هذه الأثناء تنشغل المؤسسات العامة الإسرائيلية في استخلاص العبر مما حدث ومناقشة أسئلة لاذعة تدور حول ما نتج وحول ما زال متوقعاً أن ينتج عن تلك الحرب من تطورات وتداعيات.

مركز "تاوب"، الذي يعنى ببحث السياسة الاجتماعية في إسرائيل، أقام بدوره "مجموعة نقاش" تناولت الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية لحرب تموز/ آب 2006، صاغ في أعقابها عدد من أعضاء المجموعة مذكرة موجزة حول الموضوع كل في مجال اختصاصه. ولفت المركز إلى أن الآراء والاستنتاجات المُعبَّر عنها في كل واحد من هذه التقارير (المذكرات) وإن كانت "شخصية"، إلاّ أنها نوقشت أيضاً في إطار مجموعة الصياغة وبمشاركة أعضاء آخرين في فريق النقاش المفرز من قبل المركز. ويمكن إيجاز "القاسم المشترك" لهذه الأوراق (المذكرات) بالنقاط- الاستخلاصات التالية:

عززت مجريات الحرب الوعي بأن التعاضد الاجتماعي هو مفتاح قدرة الدولة على التماثل للشفاء من آثار الحرب والاستعداد للقادم.

لم تكن الدولة مستعدة لمواجهة هجمات صاروخية تستمر لفترة طويلة على ثلث مساحتها وخمس مجموع سكانها، وهذه مسألة لا جدال فيها.

ولكن حتى لو كانت السلطات مستعدة كما ينبغي وبشكل مسبق، فإن تجربة إسرائيل المتراكمة تظهر أن الرعاية الأفضل لا تقدم للجميع على قدم المساواة من أجل الحد من أذى وأضرار الصواريخ وتمكين سكان المناطق التي تتعرض للقصف، من الجلاء إلى مناطق آمنة، خاصة وأن مثل هذا الاستعداد لم يتم عمليا (وعلى الأقل ليس بالمستوى المطلوب) وبالتالي فإن قدرة الفرد وعائلته على اجتياز المحنة تتوقف على وضعه الاقتصادي وأدائه الشخصي.

من هنا فإن العبرة الأساسية المستخلصة من هذه الأحداث (الحرب) هي وجوب تقوية وتعزيز النسيج الاجتماعي، سواء من منطلقات العدل والاستقامة، أو لاعتبارات جوهرية تتعلق بقدرة المجتمع الإسرائيلي على أن يعبر بسلام مثل هذه الأزمة.

["المشهد الإسرائيلي"]

حول "سلوك سوق العمل" في أثناء الحرب

"المذكرة" التي تتناول هذا الموضوع، الذي استهل تقرير مركز "تاوب"، والتي صاغها كل من روني راف- تسوري وغاي موندلك، اتسمت إجمالاً بميل نحو التعميم والإسهاب النظري في مناقشة الموضوع، عوضاً عن التركيز على الأبعاد والتداعيات المباشرة والملموسة للحرب على سوق العمل الإسرائيلية. وقد بدا ذلك واضحاً في استرسال "المذكرة" في الحديث بصورة مجردة تقريباً عن سلوك هذه "السوق" أثناء حالات الطوارئ عموماً، وفي وصف الحلول التي يمكن لها أن تشكل العلاج الملائم لهكذا أوضاع، وكل ذلك دون إسناد هذا الحديث بمعطيات وأرقام تضيء الأبعاد والآثار المادية الملموسة للحرب على هذا الصعيد.

عموماً بالإمكان إيجاز أهم ما تضمنته هذه الورقة (المذكرة) بالتالي:
◾استهلت الورقة باستخلاص جاء فيه أن مجريات الحرب (حرب لبنان الثانية) أخذت تتضح أكثر فأكثر كـ "سلسلة متصلة تعكس سيرورات كانت قائمة أصلاً، لكنها تفاقمت أثناء وبعد الحرب" معتبرة أن "هذه الرؤية تفسر بشكل واضح ما حصل وترشد إلى الحلول عندما يحين وقت الإصلاح والترميم". وتابعت "المذكرة" التي تركز على تناول ما وصفته بـ "الإصلاح التشغيلي" مشيرة إلى أن "سوق العمل" في إسرائيل تتسم اليوم بانحسار اتفاقيات العمل الجماعية، جنباً إلى جنب مع ازدياد اتفاقيات تشغيل "غير نموذجية" لأمد قصير، أو التي تتم بواسطة سماسرة عمل (شركات القوى البشرية).

وفي ملامسة أقرب للوضع الذي نشأ على صعيد التشغيل وشروطه من جراء وأثناء الحرب، خاصة في شمال إسرائيل الذي تعرض لقصف يومي مكثف بصواريخ "حزب الله"، شل تقريباً مناحي الحياة كافة في المنطقة طوال أيام الحرب، أشارت "المذكرة" إلى عدد من الظواهر (السلوكيات) اللافتة في هذا السياق، أهمها:

- لجوء أرباب العمل (في شمال إسرائيل) في الكثير من الحالات (التي لم يتضح حجمها بعد) إلى فصل وإقالة العمال والمستخدمين. ونوه كاتبا المذكرة هنا إلى أن "هذه الحلول في حالة الطوارئ تعكس الأزمة الاقتصادية التي يواجهها رب العمل من جهة، وفرضية مؤداها أنه يمكن استبدال العمال بسهولة، من جهة أخرى.. أي أنه كلما تحولت علاقة العمل إلى علاقة مؤقتة، أشبه بصفقة اقتصادية قصيرة الأجل، كلما أصبحت عملية فصل وإقالة العمال بمثابة الحل الأسهل في وقت الأزمات".

- لوحظ أن الكثير من الشركات ومرافق العمل والسلطات والدوائر العامة في الشمال لجأت أثناء الحرب، إلى تأخير صرف أجور ورواتب مستخدميها.

- في المقابل هناك شكاوى مفادها أن قسماً من مستخدمي جهاز الدولة، أو الموظفين العموميين، فضلوا الانتقال إلى وسط البلاد أثناء الحرب. ولم تبين المذكرة إذا ما كان المقصود بذلك أن هؤلاء قد "انتقلوا" نهائياً للعمل في أماكن أخرى "أكثر هدوءاً وأمناً" أم أنهم نزحوا مؤقتاً (كمعظم سكان شمال إسرائيل الذين نزحوا عن مدنهم وبلداتهم ومستوطناتهم هرباً من القصف) إلى مناطق آمنة ليست في مرمى صواريخ "حزب الله".

وساقت "المذكرة" ثلاثة أمثلة قالت إنها تجسد وتلخص ما وصفته بـ "مواطن ضعف سوق العمل" أثناء اندلاع الحرب، والأهم "توطئة لمرحلة الإصلاح وإعادة الترميم"، ويمكن إيجاز هذه الأمثلة على النحو الآتي:
•تحويل علاقة العمل إلى علاقة مؤقتة أو عَرَضية.
•التخلي عن علاقات (اتفاقيات) العمل الجماعية في إسرائيل.
•عدم تطبيق منظومة الحقوق القانونية بصورة كافية.

الضمان الاجتماعي

الورقة (المذكرة) الثانية في تقرير مركز "تاوب"، والتي كتبها جوني غال، تحت العنوان المذكور أعلاه، أكدت في البداية على أن الفجوات الكبيرة التي ظهرت في البلدات والمستوطنات الشمالية بين ذوي الموارد التي تمكنهم من العيش بمستوى حياة لا بأس به خلال فترة الحرب وإيجاد ملجأ أو مأوى في مناطق آمنة أكثر، وبين الذين اضطروا للبقاء في المناطق المقصوفة، بفضل مساعدات منظمات العون والإغاثة، قدمت دليلاً ملموساً مؤلماً على الفجوات القائمة في المجتمع الإسرائيلي، وعلى العوز الشديد لدى فئات وشرائح واسعة من السكان، ولا سيما فئات المسنين والعاطلين عن العمل والعائلات الكثيرة الأولاد في صفوف اليهود والعرب.

وتابعت الورقة مشيرة إلى أن جزءاً من الضوائق التي تكشفت أثناء الحرب مرتبط بعملية تقليص مستمرة في برامج الضمان الاجتماعي، ومن هنا خلصت المذكرة (الورقة) إلى أن أحد المكونات الحيوية في عملية الاستعداد وإعادة البناء ما بعد الحرب يتمثل في تعزيز نظام الضمان الاجتماعي، وبالأخص تعزيز المكونات الهادفة بشكل محدد وملموس للحد من الفقر وتمويل نفقات إضافية على المسنين والعائلات الكثيرة الأولاد.

وتقترح الورقة بناء على ذلك جملة من الإجراءات والإصلاحات في مجالات ضمان الدخل ومخصصات الشيخوخة ومخصصات الأولاد، التي تنفقها الحكومة من خلال مؤسسة "التأمين الوطني" كجزء أساسي من برامج الإعانات الحكومية الثابتة للفئات والشرائح "الضعيفة" عموماً في المجتمع الإسرائيلي، والتي كانت قد شهدت خلال السنوات الأخيرة تقليصات واسعة في نطاق خطط خفض وتقليص الميزانيات والنفقات الحكومية وسياسة الخصخصة وغيرها.

انعكاسات الحرب على الاقتصاد

هذه الورقة، التي شارك في صياغتها كل من ميكي ملول وأمير شوهم، افتتحت بالقول إن حرب لبنان الثانية "تضع صانعي القرارات في إسرائيل أمام معضلات اقتصادية واجتماعية ليست بسيطة". وأضافت أن تكاليف الحرب "تقدر بأكثر من 20 مليار شيكل، ولكن التكلفة يمكن أن تكون أعلى بكثير إذا لم تتخذ خطوات سريعة لتعويض وترميم اقتصاد الشمال" (شمال إسرائيل). وزادت الورقة في التأكيد على أن "عدم تقديم أجوبة وحلول سريعة يمكن أن يلحق الضرر بداية بالفئات السكانية والأعمال الأكثر ضعفاً، الأمر الذي يمكن أن يوسع ويعمق مساحات الفقر واللامساواة".

ومع ذلك، قال معدا الورقة إن "المؤشرات الاقتصادية تشير حتى الآن إلى استقرار يدل على أن تأثير الحرب سيقتصر بشكل أساسي، على المدى القصير".

وأوجزت الورقة أضرار الحرب المادية في جانبين رئيسيين: أضرار ممتلكات مباشرة وغير مباشرة لحقت بالسكان والأعمال، وأضرار ناجمة عن خسائر إنتاجية، وقد قُدِّرَت هذه الخسائر من قبل وزارة المالية بـ 5ر1%، فيما قدَّرها بنك إسرائيل المركزي بـ 9ر0%.. بناء على ذلك-أضافت الورقة- فإن وتيرة نمو الناتج المحلي الخام ستتراجع (حسب التوقعات لسنة 2006) إلى 9ر3%. وعبَّر معدو الورقة عن أسفهم لكون الخطوة الأولى التي اتخذتها الحكومة لتغطية تكلفة الحرب تمثلت في ما وصفته بالتقليص العرضي في وزارات الحكومة بمبلغ إجمالي بقيمة 8ر1 مليار شيكل، مع أن هذا التقليص "ينبغي أن يكون الخيار الأخير" في الوضع الراهن.

واستناداً لمعطيات وتقديرات أعدتها وزارات الحكومة و"بنك إسرائيل" وهيئات بحث أكاديمية فإن تكلفة الحرب للمؤسسة العسكرية- الأمنية، والأضرار المباشرة وغير المباشرة التي لحقت بالسكان في شمال إسرائيل، وقيمة المساعدات الطارئة التي قدمتها الحكومة للسلطات المحلية في الشمال، بلغت حوالي 14 مليار شيكل. وبحسب وجهة نظر أصحاب الورقة (المذكرة) فإن تمويل هذا المبلغ يجب أن يتم بعدة طرق مكملة بحيث لا تخلق أجواء من الذعر في صفوف الجمهور عامة ولدى المستثمرين خاصة، ومن بين هذه الطرق التي اقترحتها الورقة:
•استغلال كامل (100%) لميزانية الدولة للعام 2006 (في السنوات الاعتيادية تستغل الحكومة ما نسبته 98% من الميزانية العامة، وتبلغ قيمة الـ 2% غير المستغلة نحو 5ر5 مليار شيكل).
•تحويل احتياطي الميزانية (حوالي 5ر1 مليار شيكل) لتمويل تكلفة الحرب.
•تجنيد المبالغ المستكملة لتمويل التعويضات عن أضرار الحرب بواسطة فرض ضريبة أمنية لمرة واحدة على جميع مواطني الدولة (يمكن النظر في إعفاء فئات عانت أكثر من جراء الحرب).

ولخَّصت الورقة رؤيتها بالتوكيد على عدم جواز استخدام حجة نفقات وتكاليف الحرب كمسوغ لإلغاء أو تقليص ميزانيات الرفاه، وذلك انطلاقاً من تشخيصها القائل بأن تأثير الحرب هو، كما يبدو "تأثير موضعي لا يجوز له أن يمس بأهداف اجتماعية بعيدة المدى".