لو كنت يهوديًا

بالامس اتخذت لجنة المتابعة للعرب في الداخل قرارا باحياء الذكرى الرابعة لهبة القدس والاقصى باعلان الاضراب العام يوم الجمعة الفاتح من اكتوبر/ تشرين اول الوشيك علاوة على فعاليات اخرى. قرار الاضراب جاء ثمرة ولادة شبه عسيرة في اجتماع حضره ثلاثة نواب فقط هم محمد بركة واحمد الطيبي وعبد المالك دهامشة، فيما لم يتعد عدد رؤساء السلطات المحلية اصابع اليدين، وسط غياب واضح لمندوبي العمل الاهلي ووسائل الاعلام العربية. وفي المشهد المألوف وغير اللطيف لاجتماعات المتابعة بدا وكأن شيئا لم يتغير لا عن العام الماضي بل عن العقود الثلاثة الماضية.

فما ان استهل اللقاء حتى نشبت المشادات بين مندوبي الحركة الاسلامية والجبهة الديموقراطية للسلام والمساوة وتم تجاوزها والحمد لله سريعا، بيد انهم واصلوا تبادل السهام بالتلميح والغمز ساعة طويلة رغم قداسة القضية التي انعقد الحفل على شرفها. الاجتماع الذي اجمع على توفر مشروعية قرار الاضراب لكونه الرسالة الاقوى تعبيرا عن الاحتجاج تخلله نقاش حول مدى "جاهزية الجماهير" وجدوى الاضراب. وعدا اقتراح رئيس بلدية الناصرة رامز جرايسي باضراب القيادات وذوي الشهداء عن الطعام لمدة يومين امام مكاتب الحكومة في القدس، لم تقدم من قبل اية جهة كانت ورقة عمل او مقترحات مدروسة لآليات احتجاج ونضال مبتكرة قادرة على تحقيق الاثر المرتجى. وهنا لا يتسع المقام لاستعراض كافة القصورات وانواع الارتجالية التي تظهر عجز ارفع لجنة تمثيلية لدينا عن استيعاب حجم وعمق قضايانا القومية والمدنية.

غير ان ما لفت النظر في جلسة المتابعة يتعلق بعاصمة الوسط العربي، مدينة الناصرة. هذه المدينة، التي لعبت دورا رياديا في النواحي السياسية والثقافية منذ ان كان يوم الارض الاول، ترهلت وباتت فعالياتها الوطنية باهتة اللون شأنها شأن لجنة المتابعة ذاتها اليوم وتبدو كمن تنازل عن مسؤوليته. رئيس البلدية الاخ جرايسي اكد توفر الاسباب لاعلان الاضراب وبنفس الآن برر عدم اعلانه بـ"عدم نضج الظرف الشعبي وعدم امتلاك الحق الاخلاقي" بمطالبة العمال والموظفين بالاضراب وتعريض لقمة خبزهم للخطر في ظل تفاقم البطالة. وهذا الاجتهاد الذي تبناه النائبان محمد بركة واحمد الطيبي وسكرتير الحزب العربي عادل خمايسي ينطوي على سلسلة اخطاء يكمن اولها باغفال دور القيادات الحزبية والمحلية انفسها بالتعبئة والتثقيف والتهيئة الحقيقية لا بالشعارات الصارخة والشعبوية طيلة ايام السنة ولماذا لا يشكل طاقم اعلامي خاص داخل المتابعة لغرض التجنيد للفعاليات المقرة؟ والخطأ الثاني يكمن بالجانب السياسي وبعجز القيادات عن ترجمة شعار "ابناء الشعب الواحد" الى فعاليات مختلفة على مدار الايام تجعل اضراب الناس ليوم واحد في السنة تضامنا مع الاهل في الاراضي المحتلة امرا مفروغًا منه. والتجارب الانسانية تفيد ان القيادة قادرة على ان تستجاب اذا قدمت إلى الجماهير نموذجا يقتدى به. ولا زلنا نذكر كيف قاد توفيق زياد قرار الاضراب التاريخي في 1976 رغم معارضة معظم الرؤساء والنواب.

اما ضغوطات التجار واصحاب المحال التجارية في الناصرة وسائر المدن من اجل تلافي الاضراب خدمة لمصالح مادية لمجموعة معينة فلا يدع مجال للافلات من الانطباع ان هناك من بات يراجح من حيث لا يدري بين الدماء والتضحيات النفيسة وبين الدولارات وهذه مصيبة لو سمع عنها الراحل زياد لربما ابرق طالبا تعديل قصيدته التي احبها ونحبها "انا من هذه المدينة". ومن نافل القول ان اضرابًا ليوم واحد لن يؤخر او يقدم بشيء على الناحية الاقتصادية مهما بلغت البطالة مثلما لم نسمع حتى الان عن عمليات فصل جماعية لعمال فصلوا لاضرابهم في مناسبات سابقة. ولذلك ارتكب خطأ سياسي واخلاقي بمجرد السماح لمندوبين عن التجار في مدينة الناصرة بالمشاركة الى جانب ذوي الشهداء في اجتماع المتابعة لاقناع السياسيين بـ"عدم جاهزية الشارع" للاضراب العام. ولا بد ان اعترف بأنني كنت تمنيت في اللحظة التي بدأ فيها بعض التجار بالحديث ان تبتلعني الارض ولا ابصر العيون الدامعة لوالد الشهيد اسيل عاصلة وممثل عائلات الشهداء وهو يسمع تلك الدعوات. ان احياء الذكرى السنوية لهبة القدس بصورة محترمة ولائقة في الظروف الراهنة ضرورة وطنية لا لاحياء ذكرى الشهداء فحسب انما هذا ما يقتضيه الموقف السياسي، فالبطش في الاراضي المحتلة بات وحشيا وحالة مواطنتنا يرثى لها بشهادة اور وغيره اضافة الى ان اجهزة الامن تواصل الضغط السريع على الزناد في استهدافها للمواطنين العرب، فمنذ العام 2001 قتلت 16 شابا في ملابسات مشكوك بامرها فيما لا يزال كافة القتلة، منفذو جرائم اكتوبر وما بعده، والمسؤولون السياسيون يسرحون ويمرحون.

في المقابل فان التردد في الارتقاء الى مستوى الاحداث والاوضاع الراهنة التي يجمع الجميع على سوئها يعطي السلطات الاسرائيلية ضوءا اخضرا لمواصلة استباحة دمنا ودفعها للاستنتاج بان البطش ضد المواطنين العرب مجد ومثمر، ولذا فان قرار الاضراب وتصعيد مظاهر الاحتجاج السلمي ستسهم لا بد في منع تكرار عمليات قتل رخيصة لمواطنين عرب. كذلك لم يشهد تاريخ المجتمعات ان ضحى شعب من اجل اهداف نبيلة تخص عيشه بكرامة دون ان يسدد الاثمان وهي رخيصة في حالتنا قياسا بنزيف الدم اليومي في الضفة الغربية وغزة ام ان هذا ما نجنيه اليوم بعد ان احرقنا اول امس البلد بخلاف شهاب الدين وغيره من المنافسات الحزبية البالغة حد العداوة ؟.

والمفارقة قد ألحت عليّ حينما استذكرت ما قاله القاضي تيودور أور نفسه من ان "العنوان على الحائط" محذرا من هبة جديدة. كما حضرتني اقوال الصحفي يارون لندن في "يديعوت احرونوت" قبل ايام عندما هاجم الحكومة على استمرار اكاذيبها بالتعامل مع المواطنين العرب وقد قال "لن اصدق رجلا اسرائيليا في هذه الديار لو كنت مواطنا عربيا...". اما استمرار حالة المتابعة على هذا المنوال فربما يدفعني لو كنت يهوديا للقول "لا يستحق المواطنون العرب شيئا من حقوقهم طالما انتظروا من يقدمها لهم على طبق".

لا شك ان وقائع اجتماع الامس تعكس ضرورة قيام الاحزاب والجمعيات الاهلية والفعاليات الشعبية بمراجعة شاملة وعميقة لمجمل اهداف المواطنين العرب واعتماد آليات تنفيذ جديدة ولاشفاء العلاقات المريضة السائدة بين هذه الجهات قبل اعادة صياغة المتابعة والتي لا يمكن فهم تعطلها منذ تسع سنوات دون معالجة ما ذكر اولا.

Terms used:

دورا