معاريف تكسر مؤامرة صمت على حملة ترانسفير رسمية ضد أهالي غزة في السبعينيات

تكشف صحيفة "معاريف"، في ملحقها الأسبوعي "سوف شفوع" (نهاية الأسبوع)، غدًا الجمعة، النقاب عما تسميه "أحد أكثر الفصول ظلامًا في علاقات إسرائيل والفلسطينيين" وفي صلبه، كما تؤكد، محاولة إسرائيل الرسمية أن تنفذ حملة ترانسفير واسعة النطاق لأهالي غزة في أعقاب حرب حزيران/ يونيو 1967 إلى أميركا الجنوبية بإشراف مباشر من مكتب رئيس الحكومة.

وتؤكد كاتبة التحقيق سارة ليبوفيتش- دار أنه وفقًا لما توصلت إليه بعد هذا التحقيق غير المسبوق، فإن الحديث يجري عن "إحدى محاولات الترانسفير الأكثر مأسسة ونموذجية في تاريخ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي (بعد إقامة دولة إسرائيل- المحرر) وقد استثمر فيها الكثير من التفكير والتنظيم والأموال، وذلك تحت إشراف مباشر لمكتب رئيس الحكومة".

وتستهل "ليبوفيتش- دار" تحقيقها بالكلمات التالية: "وقف طلال الدمسي على منصة الشهود في المحكمة في أسنسيون وروى قصة غريبة. اتهم الدمسي وهو من مواليد غزة بقتل عدنه بئير، الموظفة في السفارة الاسرائيلية في عاصمة باراغواي في أيار/ مايو عام 1970. وقال في اطار دفاعه عن نفسه ان اسرائيليين عرضوا عليه وظيفة جيدة في الخارج. ودفعه هذا الاغراء للقبول حيث حصل على 25 دولارا وغادر غزة وسافر الى لندن ومنها الى ريو دي جانيرو. ونقل من البرازيل الى باراغواي. وفور وصوله الى عاصمتها أسنسيون حاول الاتصال بالسفارة الاسرائيلية، لكنهم تجاهلوه هناك بصورة تامة، ما أثار غضبه وجعله يقتحم السفارة ويطلق النار على بئير. وادين الدمسي وزميله خالد عبد القصاب في ايار عام 1970 وحكم عليهما بالسجن لمدة 31 عاما واطلق سراحهما عام 1979 وظلا على ما يبدو مقيمين في تلك الدولة".


وتمضي قائلة: لم تحظ هذه الرواية في حينه إلا بتغطية اعلامية هامشية في اسرائيل. وبدت في ذلك الوقت كما لو أنها قصة غير منطقية تخلو من العقلانية ومجرد رواية ابتدعها شاب ذو خيال شرقي جامح، وذلك بهدف التهرب من حكم لسنوات طويلة في السجن. وقلة فقط علموا بأن الدمسي يروي الحقيقة، وأنه كشف من خلال روايته مخططا سريا أعدته الحكومة الاسرائيلية قبل حوالي 35 عاما، بهدف مواجهة المشاكل في قطاع غزة. لقد اقترحت اسرائيل على فلسطينيين مغادرة القطاع والسفر جوا الى اميركا الجنوبية، ودفعت اسرائيل ثمن تذكرة السفر واعطت كل واحد غادر بلده مبلغا من المال. لقد تحدث الدمسي عن حصوله على 25 دولارا، اما موشيه بئير، زوج القتيلة والذي كان السكرتير الاول والقنصل في السفارة (الاسرائيلية في باراغواي)، فقال بان كل فلسطيني حصل على عدة مئات من الدولارات".


غازيت يؤكد!


وقال شلومو غازيت، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) سابقا، والذي كان في حينه منسقا لشؤون المناطق الفلسطينية المحتلة، لكاتبة التحقيق، إن عدد الذين سافروا لم يزد عن 20 فلسطينيا. وتحدث مئير نوفيك، وكان حينها قائد قسم المهام الخاصة للشرطة التي كانت على علاقة بهذه القضية (وهو والد نمرود نوفيك، أحد أكثر المقربين من رئيس "العمل" الحالي شمعون بيريس)، عن سفر عدة عشرات، لكن"بئير" يقول إنه وفي اطار هذه العملية "وصل آلاف من الفلسطينيين الى الباراغواي".


ترحيل


وعلى كل الاحوال، تؤكد "ليبوفيتش- دار"، فان هذه هي احدى أكثر عمليات الترانسفير مأسسة ومنهجية في تاريخ الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني، واستثمرت فيها افكار كثيرة وأموال ونشاطات تنظيمية. وأشرف مكتب رئيس الحكومة الاسرائيلية على هذه العملية، وحاول عسكريون ورجال شرطة في مقر الحكم العسكري في قطاع غزة العثور على مرشحين مناسبين واقناعهم بالتوجه للطائرات. واستقبل عملاء "الموساد" الفلسطينيين في الباراغواي. وساهمت الجالية اليهودية في هذه الدولة بالأموال وباجراء الاتصالات مع المؤسسات والسلطات المحلية.
ونقل معظم الفلسطينيين من اسنسيون الى مدينتين تقعان في المثلث الحدودي بين باراغواي والبرازيل والارجنتين. واحتشدوا في باراغواي في "سيوداد دل استه". أما المدينة التي نقلوا اليها في الجانب البرازيلي على الحدود فكانت "لوسه دي ايغواسو"، وتعتبر هذه المنطقة من مناطق الارهاب الساخنة ومناطق التهريب وتعتبر مدينة "سيوداد دل استه" اليوم ثاني كبريات مدن الباراغواي، وكانت هذه مدينة حدودية نائية في الستينيات لا يرغب احد بالسكن فيها.



ويقول "بئير"، الذي عمل ايضا كرجل اتصال مع "الموساد" في السفارة، ان الفلسطينيين كانوا على ثقة بأنهم يتوجهون الى منطقة زراعية. واضاف قوله: "يبدو انهم وعدوهم بامتلاك اراض، واكدوا لهم بأن هذه هي ارض الميعاد بالنسبة لهم. ووعد رجل الموساد الذي حضر معهم بالعودة خلال اسبوعين او ثلاثة اسابيع لمعرفة ما حلّ بهم، لكنه لم يعد واكدوا بأن اسرائيل خدعتهم. وقالوا لهم: ابدأوا بالعمل وبالتقدم وبعد ذلك ستحصلون على مال. وكان من المفروض القول لهم ما الذي يجب ان يفعلوه وكيف سيعيشون، لو كنت انا لما تركتهم دون اي مقومات بقاء، كان من المفروض ان يمكنوهم من العيش بهدوء لمدة ستة اشهر حتى ينظموا انفسهم ويتعودوا على الحياة ويحاولون الانخراط في المجتمع، واعتقد بان فشلا امنيا حدث هنا ايضا. واذا كانوا يعرفون بأن مجموعة كهذه ستصل الى الباراغواي فلماذا لم يشددوا الحراسة على السفارة ؟. وبنظرة للوراء اعتقد بانهم وبعد قيامهم بهذا العمل كان من المفروض العثور للفلسطينيين على تسوية اخرى. لكنهم ابقوهم معلقين بالهواء. لقد فتشوا عن السفير وعندما لم يعثروا عليه اطلقوا النار على زوجتي. لقد تحولت عائلتي منذ ذلك الحادث الأليم إلى ضحية لهذا الترانسفير".

30 عاما من الصمت


ويكشف "بئير" أنه خلال ايام العزاء بزوجته زاره رجل من "الموساد" وطالبه بعدم الحديث عن هذه القضية ثلاثين عاما على الاقل. وانتهت هذه الفترة الآن واصبح بامكانه الحديث، على ما تؤكد الصحفية في "معاريف".

وتضيف "ليبوفيتش- دار" أن "بئير" كان بين القلائل الذين وافقوا على كشف تفاصيل عن هذه العملية في حين أن معظم من كانوا على صلة بها تمترسوا وراء حجج مختلفة للتهرّب من الحديث عنها، على شاكلة: "لا أعرف، لم أسمع، لا أتحدث مع صحفيين"!.

ومن المعلومات التي أمكن الحصول عليها من جانب هؤلاء، الذين وافقوا على الحديث مع "معاريف"، تشكلت الصورة التالية:

* قال موشيه غورين، الذي كان أول حاكم عسكري إسرائيلي لقطاع غزة بعد 1967، إن ما حصل جاء من وزير الدفاع. وبحسب ما يقوله مئير نوفيك فإن الأوامر جاءت من المستويات العليا مؤكدًا أنه "لا يمكن القيام بأعمال كهذه إلا إذا كانت من المستويات العليا". وقال آرييه شاليف، من شعبة "أمان" سابقًا والباحث الآن في معهد "يافي" في جامعة تل أبيب، إن رئيس الحكومة آنذاك، ليفي أشكول، عيّن عاده صوراني مديرة للعملية في مكتب رئيس الحكومة. وسبق أن أشغلت "صوراني" عدة "مناصب حساسة في الموساد".

* قال مئير عميت، الذي كان رئيسًا لجهاز "الموساد" في 1967، إن الهدف من العملية "كان تشجيع الفلسطينيين على الهجرة بمبادرتهم. وتمثلت الغاية (من طرف إسرائيل) في تقليل العرب أكثر ما يمكن. فقد شكلوا على الدوام خطرًا على إسرائيل". لكن عميت يؤكد أن عدد الذين هاجروا لم يكن كبيرًا "فلم يكن الأمر سهلاً"، على حد قوله. أما "نوفيك" فيعتقد أن الدافع الأرأس "لهذا الطراز من الترانسفير هو الدافع الأمني، وليس تقليل عدد السكان"، وفقما يقول "عميت".


*أشرف من قبل "الموساد" على هذه العملية يوسكه يريف، من قادة "البلماخ" والعميل القديم الذي توفي عام 1998 وهو الذي أسس وحدة "قيسارية" في "الموساد" وكان مسؤولا عن عمليات سرية كثيرة منها "قتل مجرم الحرب اللاتفي هيربرت تسوكروس".



وقد اجبر "بئير" قبل ثلاثة اسابيع من مقتل زوجته على التدخل لدى سلطات باراغواي لمساعدة رجل "موساد" اعتقل بعد تقديم فلسطينيين شكاوى حول احضاره لهم الى هذا البلد وتركهم بدون مال ولا عمل. وقال "بئير": "تدخلت وضمنت عودته الى اسرائيل فور اطلاق سراحه، وقبل عودته دعوته الى منزلي حيث تناول وجبة عشاء". ورفض رجل "الموساد" الذي اعتقل الحديث عن هذه القضية لمكاتبة الصحيفة.



وفي الوقت الذي كان "الموساد" ينشط فيه في باراغواي كانت تعمل وحدة في مقر الحكم العسكري في غزة، من اجل تجميع فلسطينيين مرشحين لـ "الترانسفير"، وكان الأكثر نشاطا من بين افراد هذه الوحدة، الذين كانوا يتجولون في المدينة ويجلسون في المقاهي ولا يقيمون علاقات علنية مع افراد الحكم العسكري بهدف عدم الكشف عن هويتهم، شلومو بن الكنه، عضو قسم المهام الخاصة في الشرطة.



وكان "بن الكنه" مسؤولا عن عمليات سرية كثيرة منها عملية تهجير فلسطينيين من غزة والضفة الغربية الى الاردن. ويقول تسفي إلبيلغ، الذي تسلم منصب حاكم عسكري في القطاع، انه يتذكر كيفية تنظيم "بن الكنه" لقافلة من الحافلات لنقل فلسطينيين من القطاع الى الضفة الغربية.


ونقل في بداية هذه العملية عشرات الالاف من القطاع للضفة الغربية. وكتب بيني موريس في مؤلفه "ضحايا" ان حوالي 70 الف فلسطيني تم تهجيرهم من قطاع غزة الى مصر والى اماكن اخرى في العالم العربي بعد حرب حزيران عام 1967 .
وقال "غازيت" انه تم نقل حوالي اربعة الاف فلسطيني في اطار ما أسماه "ترانسفير طوعي"