رحيل الرئيس عرفات ينعكس على احتمالات تشكيل الإئتلاف الحكومي الاسرائيلي المقبل


*طوال السنوات العشر الماضية تحدث المحللون الاسرائيليون عن ان "الرئيس عرفات كان يحسم في كل انتخابات اسرائيلية من هو رئيس الحكومة القادم". وبغض النظر عن مدى صحة هذا الادعاء، لما فيه من اتهامات مبطنة للقيادة الفلسطينية، إلا انه بامكان هؤلاء المحللين اليوم القول انه "حتى برحيله فإن عرفات يرسم مصير وآفاق الحكومة الاسرائيلية الحالية"*

كتب برهوم جرايسي:

يعكس رحيل الرئيس ياسر عرفات نفسه بقوة على الخارطة السياسية في اسرائيل، وبشكل خاص على شكل التشكيلة الحكومية المقبلة، بعد ان اصبحت حكومة اريئيل شارون حكومة اقلية تضم 55 نائبا من أصل 120 نائبا، على أثر انسحاب "المفدال" منها، واصبح من المحتم على شارون ان يسرع أكثر في توسيع ائتلافه الحكومي. فشبكة الضمان التي منحه اياها حزب "العمل" المعارض، في اعقاب اقرار خطة الفصل، فيها الكثير من الخيوط المقطعة، مما يجعل الشبكة ضعيفة، لا يمكنها حماية الحكومة من السقوط لأمد طويل، وهذا على ضوء الاصوات المتعالية في اليسار الصهيوني الداعية للاسراع في التفاوض مع القيادة الفلسطينية الجديدة.

إن المحور الاساسي الذي يؤثر فيه رحيل الرئيس عرفات هو كيفية التعامل مع خطة الفصل، للانسحاب من قطاع غزة، وتوطيد الاستيطان في الضفة الغربية، كون ان شارون أعدها من منطلق انه لا يوجد "شريك فلسطيني"، هذه البدعة التي فرضها شارون على العالم، بعصا الولايات المتحدة.

ولقد استغل طرفان في الخارطة السياسية في اسرائيل مسألة رحيل الرئيس عرفات، للمطالبة باعادة النظر في مسألة تطبيق خطة الفصل.

الطرف الأول هم المعارضون من اليمين الاسرائيلي، الذي انضم اليهم رسميا وزير المالية بنيامين نتنياهو، والى جانبه مجموعة المتمردين في "الليكود"، وحتى حزب "شاس" الديني الاصولي، وحزب المفدال الديني المتشدد، فهؤلاء يقولون لشارون طالما ان "من ليس هو شريك" قد رحل، فالآن سيكون امامنا شريك، تعال نلغي الخطة ونتفاوض من جديد، دون تحديد أي افق لهذه المفاوضات. ولكن من الواضح ان المقصود منها هو تأخير تطبيق الخطة أكثر ما يمكن من تأخير. فقد اعلن المستوطنون انهم يريدون التفاوض مع الفلسطينيين من اجل ضمان سلامة الاستيطان وتوسيعه!!.

الطرف الثاني هو من أيد الخطة ويطمح لأكثر منها، وهؤلاء من احزاب اليسار الصهيوني، ولكنهم لا يصرون على مطلبهم، ويطالبون ايضا بتجديد المفاوضات مع القيادة الفلسطينية سوية مع تطبيق الخطة.

شارون من ناحيته يعلن انه يريد تطبيق الخطة، كما هي، وبشكل احادي الجانب، لأن الاهداف التي يطمح لها، ابعد من الحل الدائم، لا بل تعيقه.

أمام هذه المعادلة على شارون الآن ان يتجه لتوسيع ائتلافه الحكومي. ولكن مع من؟ وهو سؤال ليس سهلا، والاجابة عليه يحكمه المسار الذي سيختاره شارون في غضون الايام المقبلة.

لقد افادت أنباء مطلع الاسبوع الحالي ان شارون قرر التفاوض مع كتلة "يهدوت هتوراة" الدينية الاصولية (5 أعضاء) من اجل ضمان تأييدها لمشروع ميزانية الدولة بالقراءة الأولى، إذ لم تنجح حكومة شارون باقرارها قبل اسبوعين وحتى الآن. ومن جهة أخرى فقد أعلن ايضا ان شارون ابلغ زعيم حزب "العمل"، شمعون بيريس، انه لا يستطيع الشروع بمفاوضات مع حزب "العمل"، لأن هناك قرارا في مركز "الليكود" يمنع اجراء مفاوضات كهذه، ويريد شارون قلب القرار، ولكن ليس الآن، وانما بعد الانتهاء من انتخاب مؤسسات الحزب، بعد المؤتمر الأخير، وهذا ما قد يحصل ليس قبل نهاية شهر تشرين الأول الحالي.

وفي ما يلي بعض احتمالات توسيع الائتلاف الحكومي، وإمكانيات نجاحها:

حزب "العمل":

الخيار الافضل بالنسبة لشارون هو الاتفاق مع حزب "العمل"، كون كتلة هذا الحزب تضم 19 نائبا، وهذا ما يضمن له ائتلافا يضم نظريا 74 نائبا، ولكن هذا الرقم يبقى على الورق، لأن مجموعة المتمردين في داخل كتلة الليكود، التي تضم حوالي 20 نائبا، ستعارض انضمام "العمل"، وستخلق المشاكل البرلمانية لشارون طوال عمل حكومته إذا ما ضمت "العمل". ويعتقد المتمردون ان حزب "العمل" سيجر شارون الى مسار سياسي مع الفلسطينيين أوسع من خطة الفصل، يرفضونه مسبقا.

ولكن المعارضة موجودة ايضا بقدر ما في حزب "العمل"، فهناك 4 نواب من هذه الكتلة يعارضون الانضمام لليكود باي شكل من الاشكال، كما ان عضوي كتلة "عام إيحاد"، التي انضمت لحزب "العمل" أخيرًا، والتي يتزعمها رئيس الهستدروت عمير بيرتس، يرفضان بشدة الانضمام الى حكومة شارون، على خلفية سياستها الاقتصادية، وهذا ما يضعف موقف حزب "العمل".

ولكن في المقابل فإن هناك دافعا اكبر لعدد من قادة "العمل" للانضمام الى حكومة شارون، وهو اعلان رئيس الحكومة السابق ايهود باراك نيته التنافس على زعامة "العمل"، ويعتقدون ان الانضمام الى حكومة شارون وتولي حقائب وزارية ستبعد باراك عن احتمال الفوز.

لقد انزعج شارون في مطلع الاسبوع الحالي من تصريحات بعض قيادات في "العمل"، من أمثال متان فلنائي، الذي دعا الى عقد مؤتمر دولي لدفع العملية السياسية مع الفلسطينيين الى الأمام في اعقاب رحيل الرئيس عرفات. وقال مقربو شارون إن هذه التصريحات تصعب عليه كثيرا اقناع الليكود بالتفاوض مع "العمل". فشارون ايضا ليس معنيا بمن يدفعه بسرعة للعودة الى طاولة المفاوضات مع القيادة الفلسطينية الجديدة، فهو سارع الى اطلاق تصريحات مفادها انه قبل ان يتفاوض مع القيادة الجديدة يريد ان يتأكد انها تحارب ما يسميه شارون بـ "الارهاب". وبنظر شارون فإن قذف حجر من طفل فلسطيني هو "ارهاب خطير"، لا اقل من اطلاق قذيفة قسام أو عملية تفجيرية. ونذكر ان شارون أوضح مع تسلمه منصبه لاول مرة في العام 2001 ماذا يعني "الارهاب" بالنسبة اليه.

هناك فرضية تسمح للحزبين بالاتفاق على ائتلاف حكومي محدود، وهي ان يتفق الحزبان مسبقا على انتخابات مبكرة، وقد تكون بعد عام من الآن، اي تقليص عمر حكومة شارون بسنة واحدة، ريثما يكون بامكان شارون تطبيق خطته.

تمتاز الحلبة السياسية الاسرائيلية بأنها تركز جلّ وقتها في البحث عن معادلات تسمح بخلق شراكة بين التناقضات، أكثر من الاهتمام بحل القضايا من جذورها، وهذا ما يجعل هذه الحلبة في حالة انفجارات دائمة، واي اتفاق بين "العمل" و"الليكود" سيكون طريق تنفيذه مليئًا بالالغام والانفجارات.

الكتل الدينية الاصولية:

المقصود هنا كتلة "يهدوت هتوراة" (5 اعضاء) وكتلة "شاس" (11 عضوا)، فعلى الرغم من ان الكتلتين اعلنتا انهما تنسقان في ما بينهما بشأن العلاقة مع حكومة شارون، إلا ان هذا يبقى تصريحا عابرا لا أكثر، فهما تختاران التنسيق حين تكونان في حاجة اليه، مثل حين يكون الأمر متعلقًا بقضايا علاقة الدين بالدولة، والمواجهة مع حزب "شينوي" العلماني المتشدد.

الخطوة الأولى التي يسعى اليها شارون في هذه المرحلة وكما ذكر سابقا، هو الاعلان عن هدنة بين هاتين الكتلتين، وبين حكومته، وعلى الأغلب بين "يهدوت هتوراة" والحكومة.

وكأية هدنة بموجب التقاليد المرعية، فعلى طالبها ان يدفع أموالا، مقابل ان لا يشن الطرف الآخر هجوما. بمعنى ان على شارون ان يضمن تحويل ميزانيات لهذه الكتلة الدينية، في اطار ميزانية الدولة للعام القادم 2005، مقابل ان لا تنضم "يهدوت هتوراة" للمعارضة في التصويت ضد الحكومة.

ويطمح شارون الى ضم "شاس" لهذه الهدنة، ولكن هذا يزيد من حجم الفواتير والمدفوعات، الأمر الذي سيثير كتلة "شينوي"، التي تبدو إلى الآن مستعدة للصمت على "يهدوت هتوراة" ولكن "شاس" بالنسبة لها خط أحمر.

وحسب مصادر شارون فإن "الليكود" سيشرع بمفاوضات مكثفة مع "يهدوت هتوراة" للتوصل الى اتفاق مرحلي، من أجل ضمان اقرار ميزانية الدولة.

من الصعب وفق المعادلات الموجودة ان ينجح شارون بضم "يهدوت هتوراة" الى الحكومة طالما ان فيها "شينوي"، فهذا أصلا لا يضمن له سوى نصف البرلمان، 60 نائبا، اي بدون اغلبية.

ولكن هناك فرضية اخرى وهي اخراج "شينوي" وضم "يهدوت هتوراة" و"العمل"، وهذا يخفف من المعارضة في "الليكود"، ولكن يزيدها بحدة في "العمل"، الذي لن يقبل الجلوس في حكومة غالبيتها الساحقة من اليمين.

كتل اليمين المتطرف:

في مرحلة معينة كانت هذه فرضية مطروحة، بمعنى ان يتوقف شارون عن كل شيء وينسحب من خطته ويتجه الى ائتلاف يميني محض يضمن له اتمام ولايته بالكامل مقابل مواصلة الحرب على الفلسطينيين، دون اي ذكر للمفاوضات.

ولكن بعد رحيل الرئيس عرفات، فإن مقولات شارون ضد القيادة الفلسطينية بدأت تضعف، وهذا الأمر لا يمكنه من تفسير نفض كل شيء والتوجه الى اليمين المتطرف، على الرغم من ان ائتلافا كهذا يسمح له بضم الكتل الدينية ويضمن له ائتلافا ثابتا يضم أكثر من 70 نائبا.

الأمر المضمون الآن، هو أن شارون لن يضيع اية فرصة انتظار وترقب لكسب الوقت، وسيبذل كل جهد من أجل اقناع الحلبة السياسية بالانتظار الى جانبه، بادعاء انه ليس مضمونا ان تكون نتيجة اي تطور مستقبلي في صالحه، لا بل قد تكون في صالح خصومه ايضا، وهذا ما قد يكسبهم اوراقا أكثر في السباق السياسي، بمعنى آخر ان فترات الانتظار والترقب هي من مصلحة الجميع، ولكن الرابح الاكبر هو شارون، الذي يتمسك بالكرسي ويكسب وقتًا بشكل لا محدود.

لقد تحدث المحللون الاسرائيليون طوال السنوات العشر الماضية عن ان "الرئيس عرفات كان يحسم في كل انتخابات اسرائيلية من هو رئيس الحكومة القادم". وبغض النظر عن مدى صحة هذا الادعاء، لما فيه من اتهامات مبطنة للقيادة الفلسطينية، إلا انه بامكان هؤلاء المحللين اليوم القول انه "حتى برحيله فإن عرفات يرسم مصير وآفاق الحكومة الاسرائيلية الحالية".