كيف أثّر الحكم العسكري الاسرائيلي على فلسطينيي الداخل في السياسة والثقافة والمجتمع؟ تقرير عن وقائع يوم دراسي في الناصرة

كيف أثّر الحكم العسكري الاسرائيلي على فلسطينيي الداخل في السياسة والثقافة والمجتمع؟ (تقرير عن وقائع يوم دراسي في الناصرة)

تقرير: وديع عواودة

"الاقلية العربية تحت الحكم العسكري 1948- 1967: ابعاد سياسية وثقافية واجتماعية"- هذا هو عنوان المؤتمر الذي نظمه "المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية "، مدى، في الناصرة يوم السبت الأخير وشارك فيه عدد من المحاضرين في مجالات الثقافة والتاريخ والقانون. المؤتمر الذي استهل بكلمة ترحيبية من مدير مدى، البروفيسور نديم روحانا ومن د. مصطفى كبها، المشرف على مشروع "صياغة الرواية الفلسطينية "، باشر اعماله في جلسة اولى بعنوان الحكم العسكري – سياسات عامة . في هذه الجلسة تحدث المحامي حسن جبارين، مدير عام المركز القضائي "عدالة"، موضحا دور محكمة العدل العليا في تطبيق سياسة الحكم العسكري انطلاقا من كونها جزءا من الاجماع القومي الصهيوني الذي يراعي "الاحتياجات والسياسات الامنية" لاجهزة الدولة.

الدكتور يئير بويمل، المحاضر في كلية العلوم السياسية في جامعة بئر السبع، قدم مداخلة بعنوان "دوافع فرض سياسة الحكم العسكري وقسرياتها" اكد فيها على ان السلطات الاسرائيلية انتهجت في العقد الاول من الحكم العسكري سياسة الترانسفير للمواطنين العرب والتي بلغت أوجها في مذبحة كفر قاسم في 29.10.56 التي تمت على "هدي" تجربة ودور مجزرة دير ياسين في 9.04.48 . اما في العقد الثاني فقد تغيرت سياسة الدولة العبرية بعدما اتضح ان الترانسفير لم يعد امرا واقعيا وممكنا، وفق بويمل، " حيث بوشر في محاصرة المواطنين العرب واقصائهم عن مؤسسات الدولة باعتبارهم خطرا على أمن الدولة وطابورا خامسا" . وكشف بويمل ان رئيس الوزراء الاسرائيلي الاول، دافيد بن غوريون، كان امر بكتابة التقويم العبري في بطاقات المواطنين اليهود فقط من اجل تشخيص قوات الامن المواطنين العرب بشكل تام. وسرد د. بويمل، استنادا الى ارشيفات الحكم العسكري الاسرائيلية، مختلف الاجراءات التي اقدمت عليها الدولة العبرية من اجل "تحجيم الخطر الامني" لفلسطينيي الداخل ومنها مصادرة الاراضي العربية وتركيز السكان العرب في مجمعات مقابل انتشار المواطنين اليهود في اكثر مساحة ممكنة من الارض، تهويد الاقاليم العربية والحيلولة دون حدوث تواصل عربي وهذا كان واحدا من ابرز دوافع اقامة مدينتي " نتسيرت عيليت " و "كرميئيل "، الاهتمام ببقاء العرب مرتبطين بالمراكز المدنية اليهودية اقتصاديا وخدماتيا، تحاشي تجنيد الشباب العرب للجيش كي لا تستخدم الخدمة تذكرة دخول إلى المؤسسات الرسمية، التمييز في الميزانيات وفي كافة مجالات الحياة ضد العرب، اخراج العرب من دائرة التخطيط للمشاريع المختلفة ولشؤون حياتهم، ضمان عدم تطور رأس مال عربي، اعتماد سياسة فرّق تسد تجاه فلسطينيي الداخل من خلال التعامل معهم كطوائف واقليات، منع تبلور قيادات عربية او هوية وطنية –قومية . وقدم كنموذج عملية احباط محاولة رئيس مجلس كفر ياسيف الراحل، يني يني، لإقامة عصبة لرؤساء السلطات المحلية العربية في نهاية الخمسينات وبداية الستينات.

اما البروفيسور قيس فرو فقدم محاضرة بعنوان "التجنيد الاجباري للدروز من خلال الارشيفات الاسرائيلية" اكد فيها على ان الرواية الفلسطينية حول مجمل ما حصل في العام 1948 لا تزال مبتورة داعيا الى التعامل مع الارشيف الاسرائيلي بحذر ولافتا الى ان رواية تجنيد الدروز متناقضة لدى الاطراف المختلفة . وسرد فرو ما رواه الارشيف الاسرائيلي في هذه المسألة فقال "في ايار 1948 تم انشاء وحدة "الاقليات" على يدي رجل المخابرات غيورا زايد الذي اصدر الاوامر العسكرية بمنع العرب من حصاد سهول القمح او احراقها عدا تلك التابعة للعرب ابناء الطائفة الدرزية الذين ابتزوا عبر السماح لهم بذلك مقابل الموافقة على الخدمة الاجبارية. وقد بلغ عدد المتجندين الدروز 25 شابا فيما انضم 100 بدوي و 50 شركسيا . وازداد عدد الدروز الخادمين في وحدة الاقليات بعد انضمام مجموعة من جنود جيش الانقاذ من اناء جبل الدروز في سوريا الذين اتضح ان بعضهم جاء بدوافع قومية فيما كان الاخرون مجرد مرتزقة فانتقلوا للطرف الاخر". واكد فرو ان الغرض من وراء تجنيد العرب الدروز في اطار وحدة الاقليات وقتئذ كان دعائيا لا امنيا، يتمثل في الرغبة بزعزعة الثقة بين العرب وبين ابناء الطائفة الدرزية في سوريا ولبنان كما تؤكد الارشيفات الاسرائيلية. واوضح فرو ان الوحدة كانت تعمل خارج اطار الجيش وتتبع لوزارة الخارجية بدلا من وزارة الدفاع، ما يؤكد الغرض الدعائي لا الامني من وراء اقامتها لافتا الى ما كان قاله يعقوب شمعوني، رئيس الفرقة اياها (مؤسس الاستشراق في اسرائيل)، بان " هذا التجنيد هو سكين حادة لضرب الامة العربية من الخلف ولمنع الدروز من العودة الى الخلف". ونفى فرو ما هو متعارف عليه حتى الان بالنسبة لدور الراحل امين طريف، الزعيم الروحي، في تجنيد ابناء الطائفة الدرزية اذ قال " لقد استدعى موشيه ديان زعماء الدروز في العام 1954 في بلدة نيشر ودعاهم الى الخدمة العسكرية وفي ذاك الاجتماع رفض امين طريف الانخراط في الجيش الاسرائيلي الا انه بسبب الخلافات الداخلية فيما بين القيادات الدرزية اخذ هؤلاء يزاودون على بعضهم البعض ما مهد الى قبول التجنيد وسرعان ما بدأوا بنعتهم بالامة الدرزية او القومية الدرزية. ومع ذلك اؤكد ان تلك الايام شهدت معارضة واسعة للتجنيد من قبل اوساط في الطائفة ذاتها. هذه ليست محاولة للتبرير انما انعكاس لما ورد في الارشيف الاسرائيلي، وهنا لا بد من رؤية الصورة بشموليتها من اجل فهم ما جرى فالدروز في تلك الفترة شكلوا طائفة صغيرة وبدون وعي قومي عايشت ازمة اقتصادية قاسية وواجهت مشاريع قوية لاخضاعها واجبار أبنائها على دخول الجيش". وردا على سؤال لماذا تم تجنيد الدروز تحديدا وليس المسيحيين العرب الذين شكلوا طائفة صغيرة ايضا، قال فرو ان السبب كان يتعلق "بالرغبة في اساءة العلاقات بين الدروز وبين سائر العرب داخل سوريا ولبنان".

المحامي محمد ميعاري، الذي شارك في الجلسة عبر مداخلة بعنوان " آليات وقسريات النشاط والتنظيم السياسيين للاقلية الفلسطينية في فترة الحكم العسكري"، تحفظ من شروحات البروفيسور قيس فرو حيال عملية تجنيد الدروز . وفي مداخلته أشار ميعاري الى المساعي الحثيثة للحكم العسكري من أجل وأد كل محاولة لاقامة اي اطار قيادي لفلسطينيي الداخل الى حد قيام حزب مباي بتجنيد مبلغ من المال لتمويل عملية اختراق لجنة الطلاب العرب في الجامعة العبرية بواسطة زرع جاسوس ضمن صفوفها. كما تطرق الى قصة وزير الاقليات بيخور شطريت الذي اقاله رئيس الوزراء دافيد بن غوريون والغى الوزارة ذاتها بسبب تحفظه من التعامل الرسمي مع اللاجئين في وطنهم ك " حاضرين غائبين " والى قيام السلطات بملاحقة حركة الارض والجريدة الناطقة بلسانها بسبب اهدافها القومية.

وقد خصصت الجلسة الثانية، التي ادارها الدكتور محمود غنايم، لسياسات الحكم العسكري وانعكاسها على المجالات الثقافية والتربوية واستهلت بمداخلة حول "الصحافة العربية كمرآة للرأي العام اثناء فترة الحكم العسكري" اكد فيها المحاضر، د. مصطفى كبها، على ازدهار الصحافة الفلسطينية الى ان قضي عليها اثر النكبة وبعد اجتثاث الصحافيين المهنيين نتيجة تهجيرهم والسيطرة على مكاتبها ومطابعها مذكرا ان مطابع يومية "فلسطين" في يافا اصبحت مكاتب لجريدة "اليوم".

واستعرض د. كبها كيف قامت السلطات الاسرائيلية باقامة وسائل اعلام تنطق بالعربية كجريدتي "اليوم" و"الانباء" وصوت اسرائيل باللغة العربية وكان معظم العاملين فيها من اليهود الشرقيين الذين انيطت بهم مهام تجميل صورة الحكم العسكري واسرلة المواطنين العرب وتشكيل بوق دعاية للمؤسسات الحاكمة. ولفت د. كبها الى ان صحيفة "الاتحاد" استأنفت صدورها في شهراكتوبر / تشرين الأول عام 1948 بعد ان توقفت عن الصدور لبضعة اشهر واصبحت ناطقة بلسان الحزب الشيوعي الاسرائيلي بدلا من عصبة التحرر الوطني. واعتبر كبها في محاضرته انه رغم الصبغة السلطوية للصحف العربية في فترة الحكم العسكري الا انها كانت اكثر تطورا من الصحف العربية في ايامنا، من الناحية المهنية.

البروفيسور اسماعيل ابو سعد قدم مداخلة بعنوان "مناهج التربية والتعليم في فترة الحكم العسكري ، آثار وانعكاسات" ركز فيها على قيام الدولة باستخدام التعليم كجهاز للسيطرة على العرب وتدجينهم واسرلتهم وسلخهم عن سائر ابناء شعبهم من خلال تحكم الشاباك (جهاز الأمن العام) بكل ما يدور في المدرسة العربية. في مقدمة مداخلته اعتذر ابو سعد عن عدم اتقانه للغة العربية معتبرا انه هو بنفسه وقع ضحية سياسة الحكم العسكري، الذي تسبب في حالة الاغتراب بين العربي وبين لغته.

وتحدث الدكتور سليمان جبران عن " الشعر كوسيلة احتجاج " مستعرضا مسيرة تطور الانتاج الادبي المحلي من فترة المهادنة الى ولادة ادب المقاومة المتمثل في اشعار توفيق زياد ومحمود درويش وراشد حسين وسميح القاسم وغيرهم ممن ساهموا في عملية التعبئة والتثقيف نحو رسم ملامح فلسطينية للادب العربي في الداخل.

اما الجلسة الثالثة، التي ادارها د. رمزي سليمان، فجاءت بعنوان "بعض مميزات سلوك الاقلية الفلسطينية خلال فترة الحكم العسكري" وشارك فيها د. احمد سعدي في مداخلة عن " أساليب السلطة في احتواء الاقلية الفلسطينية والتجاوب معها" لافتا الى سياسات فرق تسد واشتراط الخدمات المختلفة بالتعاون والتهادن. كما شاركت السيدة هنيدة غانم في مداخلة بعنوان "المثقفون العرب ، حالة البينية المؤبدة، تكيف ومواجهة" أشارت فيها الى مبادرة بعض المثقفين العرب للتغريد بنغمة جديدة عن اغلبية المثقفين الذين هادنوا السلطة. كذلك تحدثت السيدة عرين هواري حول "رجال تحت الحكم العسكري : مفهوم الرجولية التي تكونت خلال الحكم العسكري وبتأثيره".