معالم السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين داخل "الخط الأخضر"

لعل للحادثة التي رواها دافيد هكوهين، أحد قادة حزب "مباي" في مدينة حيفا في خمسينات القرن الماضي، دلائل على سياسة وطبيعة الدولة العبرية، التي أقيمت على أنقاض وحساب الشعب العربي الفلسطيني، بعد أن دمرت غالبية مدنه وقراه وطردت معظمه وفرضت المواطنة على القلة القليلة التي تمكنت من البقاء في وطنها. يذكر دافيد هكوهين أنه في العام 1950 أبلغت السلطات الإسرائيلية اللجنة الإسلامية في حيفا أنها صادرت المقبرة الاسلامية وان على اللجنة الإسلامية إخلاء القبور، من عظام وجثامين الموتى، إلى مكان آخر خارج المقبرة الإسلامية المصادرة. امتثلت اللجنة الإسلامية، المعينة من قبل السلطات الإسرائيلية، للأمر ونبشت القبور وجمعت العظام وجثامين الموتى من القبور ووضعتها في ثمانين كيساً كبيراً في المسجد، مؤملة أن تلتزم السلطات الإسرائيلية بوعدها وأن تفرز لهم مكاناً آخر لدفن العظام والجثامين فيه. ويضيف هكوهين أن السلطات الإسرائيلية نكثت بوعدها فبقيت عظام وجثامين الموتى المسلمين في المسجد سنوات طويلة.

وقبل الولوج إلى تحليل سياسة المؤسسة الإسرائيلية تجاه المواطنين العرب الفلسطينيين، نورد مثالاً آخر، وهو غيض من فيض آلاف الممارسات العنصرية بحق الفلسطينيين داخل الخط الأخضر:

يذكر عوزي بنزيمن وعطا الله منصور،في كتابهما "مستأجرون ثانويون" أن مدير شركة "تنوفا" الإسرائيلية ( لمنتجات الألبان)، ناحوم فرلينسكي، صعق عندما سمع أن بعض الأصوات في الكنيست، في العام 1950، تطالب بمساواة اقتصادية بين العرب واليهود. فقد اعتقد هذا أن من شأن مثل هذه المساواة أن تضع إسرائيل في وضع خطير للغاية، فذكر أن العرب داخل الخط الأخضر ينتجون، في العام 1950، ربع الإنتاج الزراعي الإسرائيلي، باستثناء الحمضيات. وهذا يدر عليهم أرباحاً جيدة، وهذه الأرباح أمر خطير للغاية لأنها تطور ليس الاقتصاد العربي فحسب، بل ستكون لها تفاعلات ونتائج على تطوير وتعزيز مكانة العرب السياسية. لذلك اقترح ناحوم فرلينسكي على الحكومة الإسرائيلية تأسيس شركة يهودية شبه حكومية تحتكر شراء منتوجات المزارعين العرب وتفرض عليهم أسعاراً، تكاد لا تزيد عن تكاليف الإنتاج. وفعلاً أقامت الحكومة الإسرائيلية هذه الشركة واحتكرت شراء المنتوجات الزراعية العربية وفرضت،لسنوات طويلة،على العرب داخل الخط الأخضر، أسعاراً لا تزيد عن نصف أسعار المنتج اليهودي.

من الصعب جداً أن نجد حقاً من الحقوق الطبيعية، أو أي حق من الحقوق التي تنص عليها حقوق الإنسان والمواثيق الدولية المتعلقة بالأقليات القومية، لم تخترقه إسرائيل في معاملتها للمواطنين العرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر . فبعد أن وضعت حرب 1948 أوزارها، كان عدد الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، في الجليل والمثلث والنقب، يربو على 150 ألف نسمة، في حين يبلغ عددهم اليوم مليون ومائتين آلف نسمة يشكلون عشرين بالمائة من مجموع سكان إسرائيل. ومنذ قيامها اعتبرت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أن تمكن جزء من الشعب الفلسطيني من البقاء في وطنه، يشكل مشكلة خطيرة على إسرائيل وطابعها اليهودي الصهيوني، يتوجب معالجتها. وقد وضعت المؤسسة الإسرائيلية استراتيجية تجاه العرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وطورتها وعدلت فيها، تبعاً للمتغيرات والمستجدات.

استندت هذه الاستراتيجية على النقاط التالية:

أولاً: الحفاظ على الطابع اليهودي الصهيوني لإسرائيل ونفي تأثير الفلسطينيين على هذا الطابع.

ثانياً: وضع العرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، هم وممتلكاتهم وطاقاتهم، في خدمة الأغلبية اليهودية.

ثالثاً: حرمان الفلسطينيين من حقوقهم القومية.

رابعاً: حرمان الفلسطينيين من الخير العام الذي يشاركون في إنتاجه.

ولتحقيق هذه الأهداف، اتبعت إسرائيل سياسة التحكم والسيطرة الصارمة، على العرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وفرضت الحكم العسكري المباشر عليهم، منذ قيامها وحتى العام 1966. وبعدما ألغي الحكم العسكري، انتقل الكثير من الصلاحيات التي كان يتمتع بها، إلى أجهزة الأمن الإسرائيلية وأذرع السلطة المختلفة.

وانسجاماً مع الأهداف المذكورة، اعتمدت السياسة الإسرائيلية على عدة عوامل أساسية،تماشت تماماً مع أهداف الصهيونية وسياسة أحزابها تجاه العرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وهي:

أولاً: تدمير البنية التحتية الاقتصادية الذاتية للعرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، لجعلهم يعتمدون في معيشتهم على اقتصاد الأغلبية اليهودية. وفي هذا السياق، صادرت السلطات الإسرائيلية الغالبية العظمى من أراضي الفلسطينيين، وأخضعت ما تبقى من الأراضي العربية للزراعة اليهودية والسوق المركزي اليهودي. كذلك منعت بشتى الطرق، ووضعت العراقيل الكثيرة، أمام تصنيع القرية والمدينة العربية، سواء بالسياسة الفعالة لضرب المبادرات الذاتية العربية الفلسطينية الساعية إلى تصنيع القرية والمدينة العربية، أو بواسطة الإهمال أو بواسطة استثناء الحكومة الإسرائيلية للمدن والقرى العربية من شملها في المناطق التطويرية . وقد نجم عن ذلك، أن تحول غالبية العرب الفلسطينيين إلى أيد عاملة رخيصة وقوة احتياط للسوق الإسرائيلية، يدفعون الضرائب المفروضة عليهم، دون الحصول على الخدمات الملائمة في مناطق إقامتهم، علاوة على ذلك كله، قامت وتقوم الحكومة الإسرائيلية بحصار القرى والمدن العربية إما بالمستوطنات أو بالأحراش التابعة للكيرن كييمت (الصندوق القومي اليهودي) والتي غرست على الأراضي العربية، التي كانت قد صودرت وانتزعت ظلماً من أصحابها العرب. أما بخصوص داخل مناطق نفوذ السلطات المحلية العربية، فان الحكومة الإسرائيلية لجأت إلى المماطلة والتسويف في وضع خرائط هيكلية في مناطق نفوذها المحاصرة أصلاً، فحرمتها من التطور الطبيعي، وأفقدتها طابعها، وحولتها إلى أماكن مبيت مكتظة بالسكان، ينقصها الكثير من الخدمات.

ثانياً: تدمير البنية السياسية الذاتية للعرب الفلسطينيين في إسرائيل، وحرمانهم من تنظيم أنفسهم مؤسساتيا وسياسيا بصورة مستقلة، وحصر نشاطهم في الأحزاب السياسية الإسرائيلية وقوائمها، ليتسنى لها السيطرة عليهم سياسيا ومنعهم من مقاومة السلطة أو التصدي لسياستها، وحرمانهم من تطوير نضالاتهم من أجل تحقيق حقوقهم القومية.

وبواسطة القمع المنهجي التعسفي والمنظم حرمت السلطة الإسرائيلية العرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، منذ قيام الدولة العبرية وحتى أواسط الثمانينات من القرن الماضي، من حقهم في تنظيم أنفسهم ومن حقهم في إقامة الأحزاب السياسية الخاصة بهم. ففي أوائل الستينات من القرن الماضي، أخرجت السلطة الإسرائيلية "حركة الأرض" خارج القانون وقمعت قيادتها وزجت بالعديد منهم في السجون وطاردت ونفت الآخرين إلى مناطق نائية. كذلك منعت السلطة الإسرائيلية "الجبهة الاشتراكية"، التي أقامها نشيطو "حركة الأرض"، من المشاركة في انتخابات الكنيست في العام 1965. كذلك قامت السلطة الإسرائيلية بقمع "حركة أبناء البلد" في السبعينات من القرن الماضي، وزجت بالعديد من قيادتها في السجون، وفرضت على الآخرين الاقامات الجبرية المنزلية، لسنوات طويلة وحاصرتهم اقتصادياًً ولاحقتهم "قانونيا" بهدف كسر إرادتهم وإرهابهم ومنعهم من النشاط السياسي. كذلك، أخرجت السلطة الإسرائيلية خارج القانون في العام 1981 "لجنة التوجيه الوطني" التي كانت قد أقامتها"حركة أبناء البلد" في أواخر السبعينات.

ثالثاً: سلخ العرب الفلسطينيين في إسرائيل عن شعبهم الفلسطيني، وتحويلهم إلى مجموعة من الأقليات العرقية والدينية المتصارعة فيما بينها، ذات هوية مشوهة ومشلولة. وتتبع الحكومة الإسرائيلية سياسة تهدف إلى تفتيتهم إلى أقليات عرقية ودينية متناحرة ومتصارعة. وفي هذا السياق، ومن أجل تحقيق الهدف المذكور أعلاه، فصلت الحكومة الإسرائيلية العرب الفلسطينيين المنتمين للمذهب الدرزي، عن بقية أبناء شعبهم، ومنحتهم وفق مرسوم حكومي رسمي، وضعا عرقيا ودينيا منفصلا عن أبناء شعبهم، وفرضت عليهم الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي، وأوجدت من يدافع عن هذه السياسة من بين صفوف الضحية.

كذلك تبذل السلطة الإسرائيلية جهوداً كبيرة لعزل أبناء العشائر البدوية الفلسطينية عن بقية أبناء شعبهم، حيث تسعى السلطة الإسرائيلية إلى خلق هوية عرقية بدوية منفصلة عن هوية شعبهم. وتمارس السلطة الإسرائيلية جملة من الضغوطات المتنوعة عليهم، لتجنيدهم للخدمة في الجيش الإسرائيلي.

كذلك جرت وتجري محاولات، أخذت تتكثف في العقد الأخير،من قبل السلطات الإسرائيلية، لفصل العرب الفلسطينيين المسيحيين عن بقية شعبهم. وهي تسعى وتعمل بصورة مثابرة، على تجنيد أكبر عدد منهم في الجيش الإسرائيلي، وتستخدم السلطة الإسرائيلية الخدمة في الجيش الإسرائيلي، كأداة فعالة لضرب الانتماء العربي الفلسطيني لعلمها أن الخدمة في الجيش الإسرائيلي، تشكل أقصى درجات العدمية القومية، وكراهية الذات، والتماهي مع الظالم ضد الضحية.

وتسعى السلطة الإسرائيلية إلى ضرب الهوية العربية الفلسطينية، وفرض هوية "عربية-إسرائيلية" مبتورة من ذاتها ومن ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ومرتبطة ومتماهية مع الدولة اليهودية وأيديولوجيتها. كذلك،تسعى إسرائيل إلى فرض ثقافة ثنائية القومية، ليس على جميع مواطنيها، وإنما على العرب الفلسطينيين فقط. فإلى جانب سعيها إلى تسخيف وتهميش الثقافة العربية للعرب الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، فإنه يتم فرض ثقافة يهودية عليهم. وهذه الثقافة العبرية اليهودية المفروضة عليهم، ليست إطلاقاً مطلباً حياتياً بالنسبة للفلسطينيين، وإنما هي مطلب يهودي إسرائيلي سلطوي، لتشويه وتهميش هوية العرب الفلسطينيين القومية، وتطعيمها بثقافة يهودية إسرائيلية، ليسهل تقبل اليهود الإسرائيليين لهم.