الأزمة العميقة العاصفة بالجامعات والمعاهد الاسرائيلية العليا تفاقم ظاهرة "هجرة الأدمغة"

نشرت صحيفة "معاريف" في ملحقها الأسبوعي الأخير (الجمعة 23/7) تقريرا صحفيًا موسعًا تحت عنوان "هجرة الادمغة" استعرض من خلاله الصحفي العاد فاينجرد، الأزمة العميقة التي تعصف بالجامعات والمعاهد الاسرائيلية العليا وتلعب دورًا رئيسياً في دفع الكثير من الأكاديميين الاسرائيليين، من طلاب اللقبين الثاني والثالث وهم باحثون متفوقون غالبًا، الى التفتيش عن مكان آخر (دولة أخرى) يفتح أمامهم آفاقًا ومجالات متعددة تمنحهم راحة في الحياة التعليمية.

"هؤلاء الطلاب"، يقول الصحفي، " الذين من المفروض ان يكونوا مستقبل الابحاث والتطوير في اسرائيل، يتركون البلاد واحدًا تلو الآخر نظرًا للشروط المتوفرة لهم هناك". ووصفت "معاريف" الوضع الذي يسود الجامعات بالصعب جدًا نتيجة التقليصات في السلك الاكاديمي، الامر الذي يحول دون تخصيص ميزانيات من قبل "لجنة تمويل التعليم العالي" للجامعات ومعهد الهندسة التطبيقية (التخنيون). فحتى هذه اللجنة لا تملك ميزانيات نتيجة للتقليصات التي تقوم بها حكومة اسرائيل في الاعوام القليلة الماضية، هذا بالإضافة الى الكثير من العوامل التي تصعب من حال الجامعات من اهمها الازدهار الذي تشهده الكليات الخاصة.

الباحث هو الخاسر الأكبر

تناول الصحفي فاينجرد حال العاملين في الجامعات الاسرائيلية قائلاً: "كل طلاب وعمال الجامعات يعانون من الوضعية الآنية، ولكن طلاب الابحاث ( لقب ثان ودكتوراة) يعانون أكثر". وأضاف: "قسم من هؤلاء يصبر كثيرا الى حين إنهاء اللقب، ومنهم من يترك التعليم الاكاديمي وينضم الى سوق العمل، وثمة من يتبع الإمكانية الثالثة التي هي الهروب من هنا".

وجاء في التقارير التي قدمتها السفارات الاجنبية ان عدد الطلاب الاسرائيليين الذين يسافرون في إزدياد مستمر من عام الى آخر، فقد إرتفع عدد الطلاب الذين سافروا الى كندا بنسبة 70 في المئة والى فرنسا بنسبة 20 في المئة، منذ العام 2000. اما السفارة البريطانية فقد افادت بزيادة تصل نسبتها الى 18 في المئة. وفي المانيا التي يعتبرها الاسرائيليون مكانًا معيشيًا صعبًا درس في العام 2001 ما يقارب الـ 750 طالبًا لكل الالقاب.

ويصف نوعم طال، وهو طالب دكتوراة في الكيمياء في جامعة تل أبيب، من على صفحات "معاريف" الوضع بأنه "جرثومة". وعقب على ظاهرة السفر إلى الخارج بقوله: " هذه هجرة ادمغة. ودولة اسرائيل التي استثمرت خيرة طاقتها في التربية الابتدائية حتى إنهاء اللقب الأول، تفقد اليوم خيرة الناس لعدم تمكنهم من التأقلم مع وضعية التقليص الحالية ". ويقول في نهاية حديثه: "يئس هؤلاء من ان يكونوا سجناء لجهاز لا يعترف بطاقاتهم، وانا اقصد هؤلاء الذين يدرسون مواضيع الأبحاث، فنحن متواجدون في اغلب أوقاتنا داخل المختبرات، وما تقترحه الجامعات اليوم لا يكفي حتى للمعيشة".

لا يتنافى ما قاله طال مع ما يقوله زميله، اورون فريدمان (30 عامًا)، وهو طالب دكتوراة في موضوع الادارة في جامعة"Insead" في فرنسا، فقد فكر فريدمان، حسبما جاء في التقرير، ان ينهي تعليمه في اسرائيل، وقال في هذا السياق "عندما اطلعت على الشروط التي يعيشها طلاب الدكتوراة، اكتشفت ان هذا ليس جديًا بالمرة. فالحديث يدور عن 3000 شيكل شهريًا، وهذا المبلغ لا يقترب حتى من ان يكون كافياً". واضاف فريدمان: "البحث هو وظيفة كاملة وفي حالة عملك عملاً اضافيًا فهذا سيطيل فترة انهاء اللقب، الى حين لا تستطيع انهاءه". ويقارن فريدمان الوضع الاسرائيلي مع الوضع في فرنسا ويقول: "في فرنسا اتقاضى مبلغ 20 الف يورو سنوياً، وهذا ليس مبلغًا كبيرًا نسبيًا، ولكن من الممكن العيش فيه بإحترام، وأنا لا املك مهمات لا ترتبط مع الجانب الاكاديمي". وينهي فريدمان:"انهت زوجتي تعليمها في موضوع "علم الجينات" في الجامعة العبرية في القدس، ولم تكن التجربة سهلة، لكن في الخارج الوضع مختلف تماماً، يتنافسون من اجل الاستفادة من مهاراتك وليس العكس، ولا يعطونك فرصة كي تشعر بأنك عبء على الجهاز".

"نحن نعيش على انقاض الماضي"

اكدت لجنة رؤساء الجامعات في اسرائيل انها لن تفتتح ابواب الجامعات هذا العام اذا ما احجمت الحكومة عن التقليصات الآخذة بالإزدياد من عام الى آخر. وكشفت "معاريف" عن ان جامعة تل ابيب، التي تعاني من وضع مادي صعب، حولت معاشات الشهر الاخير بعد تأخير ايام..

وجاء ايضا ضمن المعطيات ان العجز المالي لكل واحدة من مؤسسات التخنيون، الجامعة العبرية، جامعة تل ابيب، وصل الى 120 مليون شيكل، ووصل العجز ايضًا الى 70 مليون شيكل في جامعة بئر السبع و 40 مليون شيكل في جامعة "بارايلان"، و10 ملايين شيكل في كل من جامعة حيفا و"معهد فايتسمان" للعلوم في مدينة "رحوفوت".

في لقاء جمع لجان رؤساء الجامعات في اسرائيل مع "لجنة التعليم العالي" في الكنيست في نوفمبر الاخير، تم بحث العديد من النقاط كان اهمها التقليصات في تمويل الجامعات في اسرائيل. وقال عميد جامعة تل ابيب، بروفيسور شمعون ينكليفتش، في اللقاء ذاته: "نحن نعيش على انقاض الماضي". واضاف: " قسم كبير ذو جودة من الباحثين يغادرون دولة اسرائيل، ونحن نجد صعوبة في استيعاب من يود العودة منهم". وانهى حديثه قائلاً "اخاف من انهيار هذا الجهاز". وقال رئيس جامعة حيفا في نفس الجلسة: "نحن نخطو الى الوراء في الوقت الذي يتقدم فيه العالم الى الامام".

وكانت تلك المعطيات وهذا الحديث الذي عرضه رؤساء الجامعات، كما تؤكد "معاريف"، بمثابة صدمة على اعضاء الكنيست الحاضرين في الجلسة وهم أبراهام (بايجا) شوحط (العمل) وران كوهين (ميرتس) ورئيس اللجنة ايلان شالجي (شينوي)، الذي إعتبر هذه المعطيات خطيرة. وهاجم الظاهرة في الجلسة نفسها، و"تفهم" شالجي هؤلاء الشبان الذين يغادرون البلاد، قائلا انه "يجب ان تكون صهيونيًا كبيرا حتى تعود الى البلاد"، واشار شالجي في حديثه الى ان الظاهرة موجودة، واكد على وجوب اعادة النظر في القضية، واعتبر بقاء اسرائيل في المناطق (المحتلة) يلعب دوراً هامًا وسببا رئيسيا ويؤدي الى مثل هذه الوضعية، واتهم وزيرة المعارف ليمور ليفنات بانها على علم بالقضية لكنها مشغولة بالصراع على "فك الارتباط".. واتهمها بعدم الاهتمام بالتعليم الاكاديمي ككل..

المعاشات لا تكفي للمعيشة ووسائل البحث بدائية

يظهر من خلال تقرير "لجنة التعليم العالي" ان في اسرائيل يتعلم 44570 طالباً للقبين الثاني والثالث، منهم 8000 طالب يعملون في الجامعات (ابحاث وارشاد)، وتم تقليص معاشاتهم في العام 2000 بنسبة 30 في المئة. ويظهر التقرير ان نسبة طلاب اللقب الثاني الذين يعملون في الارشاد هو 10 في المئة فقط ويتقاضون معاشًا شهرياً بمقدار 1500 شيكل فقط واقل من ربعهم تقاضوا مبلغ 2400 شيكل. اما بالنسبة لطلاب الدكتوراة فالوضع افضل بقليل، 35 في المئة يعملون بالارشاد، بمعاش شهري يساوي 2200 شيكل، و40 في المئة منهم يتقاضون 3300 شيكل..

القضية لا تقتصر فقط على المعطيات التي قدمناها، وليس هذا فقط ما يقلق طلاب الجامعات والتخنيون. وفي هذا الشأن يقول رئيس التخنيون: "من اجل ان تقدم بحثًا ناجحاً يجب ان تملك وسائل على درجة معقولة من المهنية، ونحن موجودون امام ازمة حقيقية". واضاف ايضا انه يجب رفع الميزانيات، وحذر من مغبة عدم تحويل الاموال اللازمة، وفي حالة عدم اعطاء الامكانيات اللازمة ستجد اسرائيل نفسها اقل بدرجتين خلال السنوات القليلة الماضية، الامر الذي يصعب عليها العودة الى طبيعتها. وقال طالب من المتفوقين في التخنيون: "تم قبول مقالتي العلمية في الخارج، لكن التخنيون لا يمول لي سفرتي لذا لم اتمكن من عرض مقالتي هناك".

اسرائيل واوروبا وامريكا

وسام دقة وهو طالب دكتوراة في "علم الحاسوب" يدرس في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة ويعيش حياة مريحة نسبة لما تم استعراضه، فهو يتقاضى معاشًا شهريا بمبلغ 2200 دولار بالاضافة الى شروط جيدة. حصل دقة على اللقب الاول في موضوع هندسة الحاسوب من جامعة "بن غوريون" في بئر السبع. وقال عن فترته التعليمية تلك: "القسم في جامعة بن غوريون كان ممتازاً، ولكن المشكلة ان الطالب المتفوق والمتوسط يحصلان على نفس التمويل". وأضاف" حاولوا حل هذه المشكلة،عن طريق تخصيص منح للطلاب المتفوقين لكن هذا لم يجد، فهناك الكثير من السياسة".

هذا وتناول العاد فاينجرد (كاتب التقرير) الحياة التي يعيشها الطالب الاسرائيلي في الجامعات الاوروبية مقارنة لما يلاقيه في بلده، والحديث جار هنا عن كندا، فرنسا، بريطانيا، هذه الدول هي الرابحة من اوضاع التعليم الاكاديمي في اسرائيل، فهي تستقبل طلابًا إسرائيليين وتفتح أمامهم مجالات كبيرة. وفي كل سفارة من سفارات الدولة المذكورة اعلاه، ثمة من هو مسئول عن قضايا التعليم هذه..

في نهاية التقرير يتحدث مرة أخرى نوعم طال، وهو الناطق باسم "الفوروم الاكاديمي" أيضًا، مؤكداً على تجاهل المؤسسات للكثير من النداءات في هذا الصدد. ومما قاله في هذا الخصوص "إنه مر عامان ولم يجد وزير العلوم وقتا للقائنا"..