المئات يحيون ذكرى رحيل الزميل الشاعر والمترجم محمد غنايم

شارك جمهور غفير من مدينة باقة الغربية في المثلث واصدقاء الزميل في "المشهد الاسرائيلي" و"مدار"، الشاعر والكاتب والمترجم محمد حمزة غنايم، الذين وفدوا من انحاء مختلفة من الوسط العربي في اسرائيل، مساء أمس الأحد، في احياء ذكرى رحيله.

أقيم حفل التأبين في قاعة "احمد مدنية" في مدينة الراحل غنايم باقة الغربية، وافتتح بقراءة آي من الذكر الحكيم قدمها الشاب فراس عنابسة. تولى ادارة التأبين الدكتور محمود غنايم،المحاضر في جامعة تل أبيب. وتحدث فيه كل من: عضو الكنيست عزمي بشارة، الكاتب انطوان شلحت، الاديب ناجي ظاهر، الصحفي يوسف الغازي، مديرة منشورات" اندلس" العبرية ياعل ليرر، والدكتور الباحث مصطفى كبها. وقرأ نجل الشاعر الراحل الطيب غنايم، قصائد من نتاج والده الاخير. وقدم كلمة العائلة عضو المجلس البلدي في باقة الغربية، السيد توفيق غنايم.


وأكد المتحدثون على قيمة غنايم الادبية وأهميته الاجتماعية، وشدد اكثر من واحد منهم على انه صاحب مشروع توسع يوما اثر يوم، وان هذا المشروع ابتدأ بالكتابات النثرية والشعرية وتوسع ليشمل الترجمات من العربية الى العبرية والعكس. كما توقف عدد منهم عند قيمة وتميز مشاريع المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية "مدار"، الذي كان الراحل من أركانه حتى وفاته.
ووزع اهل الفقيد كراسة تخليدا لذكراه عنوانها " أوراق في ذكرى " الغرائبي".
ورد فيها ان محمد حمزة غنايم ولد يوم 16-9-1957 ورحل عن عالمنا يوم 25-5-2004 وله عدد وفير من المؤلفات بينها : المجموعات الشعرية: " وثائق من كراسة الدم" و"المائدة واحوال السكين" و" نون وما يسطرون"، كما ترجم الى العبرية ثلاث مجموعات شعرية للشاعر محمود درويش هي: " لماذا تركت الحصان وحيدا" " سرير الغريبة" و"حالة حصار" . الى هذا ترجم، ضمن عمله في "مدار"، عددًا من المؤلفات العبرية الى العربية منها " الفسطينيون- صيرورة شعب" للمؤرخ باروخ كيمرلنج. وتضمنت الكراسة مجموعة من اشعاره الاخيرة ، وكتابات شارك في كتابتها، اضافة الى جميع المتحدثين في التأبين، كل من: سلمان ناطور، احمد ابو حسين، حسن البطل، جهاد هديب ومحمود درويش.

كلمة الزميل أنطوان شلحت

وننشر هنا كلمة الزميل أنطوان شلحت التي كتبها لهذا الكراس:

ما كان وسيكون غير الطوفان..

منذ عام ونيّف هجس محمد حمزة غنايم بالموت كثيرًا في...الحياة. وفي الفترة الأخيرة جعله، بقدرة قادر، هاجسنا أيضًا، له، كما لنا. الآن بعد رحيله الموجع نستميحه العذر أن نهجس بحياته فقط، فلم يكن (أبو الطيب) مثل نيزك أو شهاب فحسب، بل أضاء كذلك بنور إبداعه دروبًا أزعم أنها ما كانت ستبدو كما هي عليه بدونه.

عاش "محمد" عمرًا قصيرًا بسنينه (ولد عام 1957) لكنه ملأه، قدر ما استطاع، بما ينفع الناس. وكان مقدرًا له أن يملأه بما هو أكثر لو لم تحل دون ذلك أسباب أوثر أن أوسّدها التراب مع جسده الغضّ الراقد، منذ يوم 25/5/2004، رقدة أخيرة في باقة،التي أصبحت حتى من قبل أن يرى النور باقة الغربية لأختها الشرقية ولسائر أخواتها.

تمتع الراحل بموهبة متميزة في مضامير عديدة، لم يكن الشعرعنوانها الوحيد وإن كان أكثرها أهمية، في رأيي. بيد أنه في مضمار واحد، فضلاً عن الشعر، كان بمثابة "الموهبة متجسدة"، التي لا يشق له فيها غبار، حسبما قالت العرب. ذلك هو مضمار الإبداع باللغتين "اللدودتين" العربية والعبرية. ففيه قرأنا له "العاشق" لأبراهام. ب. يهوشع و"الزمن الأصفر" لدافيد غروسمان وقرأ الإسرائيليون "لماذا تركت الحصان وحيدًا" و"سرير الغريبة" و"حالة حصار" لمحمود درويش. وفي الأيام الأخيرة من حياته أودع "دار الأندلس" ترجمتين لمجموعة "جدارية محمود درويش" ورواية "حكاية زهرة" لحنان الشيخ. صحيح أنه كان لمحمد في هذا الشأن "شركاء" و"زملاء" كثر، بيد أنه ظل منمازًا عنهم بأنه جعل هذا الطراز من الإبداع الشديد الخصوصية أصلا يكتسب مشروعيته كذلك في ركن جغرافي ومجازي ثالث غير مرئي، عند منطقة الغسق، هو ركن "خط التماس" كما كان يهوى القول، والذي بمقدار ما مثّل تعبيرًا عن كينونته المخصوصة، مبدعًا وإنسانًا، بمقدار ما حفر بصماته عميقًا في مشروعه الثقافي، الذي لم يقدّر له أن يكتمل.

وإذ يحضرني ذلك أكثر شيء الآن، فلأنه من دون هذا التقطير لمحمد حمزة غنايم تبقى مكانته الأدبية ناقصة لعوامل هامة تزكيها في الجوهر وتخط سطورها في سفر الإبداع.

لقد جمعت بيننا صداقة طويلة، تبدأ منذ حوالي ثلاثين عامًا، في السنوات التي بدأ كل منا يشقّ طريقه في وسط بحر متلاطم الأمواج، لا من حيث الأحداث والتجاذبات السياسية والاجتماعية فحسب، وإنما كذلك من حيث وفرة القباطنة في "السفينة" الواحدة. وخلال ذلك كان هناك الكثير من المشاريع المشتركة، منها ما أنجزناه ومنها ما ينتظر. عايشنا حالات مدّ وجزر. شهدنا ظواهر سقوط الانسان في الانسان. لكن محمدا بقي، خلال ذلك كله، هو هو، ذلك الانسان من لحم ودم، من قصيدة وشعور، الذي لا يغريه "برج عاجي" ولا يلهيه "ترف" الإبداع عن الحاجة إلى التمسك بدنيوية النص في حالتنا النادرة الوجود التي ما فتئت لا تقرّ بالفواصل والقواطع وتتماهى فيها الفوارق والحدود وتحت وطأتها ما من خيار أمام الكاتب أو الشاعر سوى أن يحمل روحه على كفّه ولا يخذل ذاته "الأمّارة بالسوء" خذلانًا تامًا. عند هذه النقطة تحديدًا شيّد محمد سلامة نفسه، ولم ينكفىء أو ينكص عنها.

ومنذ حوالي ثلاث سنوات أصبحت صلتنا يومية، بل على مدار الساعة و"مدار" (المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية، الذي ارتبطنا سوية بالعمل معه منذ انطلاقته). وسرعان ما اكتشفت أننا دخلنا مرحلة أخرى من رحلة البحث عن الذات، التي لا تعترف بضفاف.

خلال هذه الفترة جعلني أرقه على القصيدة لا أكفّ عن سؤاله حول المعيقات التي تحول دون كتابته للشعر الصافي والمعبّر، الذي سبق أن بشرت به مجموعاته "ألف لام ميم" و"نون وما يسطرون" و"الغرائبي". فكان يجيب أنه يكتب لنفسه فقط "بعد أن ضاقت مساحة القراء".

لم يكن في إجابته هذه ما يقنع تمامًا، لكن بقيت في خلفيتها "حكاية الوهم" التي ما فتئ الشعراء ونحن معهم نطاردها، فلا تكف لحظة عن مطاردتنا. وكم أثلج صدري أنها أطلّت، بكيفية ما، في آخر نصوص شعرية كتبها وهو يودّع الحياة على سرير المرض المنبىء بموت أكيد تحت عنوان "حالات زوغان"(ظهر قسم منها في "مشارف"، عدد 22):

(لو تكتمل حكاية الوهم معي

كما خططتها

أو خضتها

وليكن الطوفان!)

فيا محمد، يا صديق العمر كله، حكاية الوهم لن تكتمل، وما كان وسيكون غير الطوفان.. فلتهنأ بما كنت وبما أنت فيه وانتظر... فلن نخلف الوعد.