"بنك اسرائيل" يطرح خطة إقتصادية "لتخفيض حجم الفقر"

طرح "بنك اسرائيل"، مؤخرا، خطة اقتصادية لتخفيض حجم الفقر في اسرائيل. وعقد كبار المسؤولين في هذا الجهاز مؤتمرا صحفيا عرضوا من خلاله خطة البنك في هذا المجال. وقال محافظ بنك اسرائيل، دافيد كلاين، خلال ذلك المؤتمر الصحفي، انه "يتوجب تقليص ميزانية الأمن وتحويل مبلغ التقليص هذا الى محاربة الفقر". وعرضت د. كرنيت بلوغ، مديرة دائرة الابحاث في البنك، ومستشار محافظ البنك، د. داني غوتليف، الخطة لتقليص حجم الفقر في اسرائيل. وبلغت تكلفة الخطة، التي جاءت تحت عنوان "الفقر في اسرائيل والاستراتيجية المقترحة لتقليصه"، 1.1 مليار شيكل في السنة. وكان في مركز الخطة توسيع دائرة التشغيل واجراء تغييرات في جهاز الرفاه الاجتماعي والتعليم. وسيتم تقديم الخطة للحكومة الاسرائيلية مع شروعها في بحث ميزانية الدولة للعام 2005.

الجدير بالذكر ان هذه هي المرة الاولى التي يعرض فيها المحافظ وبنك اسرائيل خطة ذات مميزات اجتماعية بارزة. الا ان المثير في الامر هو ان هذه الخطة جاءت متعارضة مع السياسة التي انتهجتها وزارة المالية الاسرائيلية خلال السنوات الاخيرة. كذلك تنطوي خطة بنك اسرائيل لمحاربة الفقر على تراجع عن المواقف التي اتخذها البنك في الماضي. اذ ان البنك والمحافظ أيدوا حتى الاعلان عن الخطة الجديدة، بصورة تكاد تكون مطلقة، السياسة الاقتصادية- الاجتماعية التي رسمها وزير المالية الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بما في ذلك التقليص الحاد للغاية في مخصصات التأمين الوطني وميزانيات الوزارات الاجتماعية.

ورأى كلاين ان ثمة اهمية لأن تجري الحكومة بحثا سنويا في القضايا الاجتماعية، تماما كما تجري بحثا سنويا في ميزانية الدولة. وقال انه عبر هذا البحث يتوجب على الحكومة ان تقرر سلم الاولويات الاجتماعية وبضمن ذلك سبل متابعة تنفيذ قرارات الحكومة. وأشار كلاين الى أهمية تحديد المسؤولية العليا بواسطة لجنة وزارية او مجلس وزاري اجتماعي مقلص يعمل على تنفيذ السياسة في هذه الناحية.

وبحسب كلاين، فان تقليص ميزانية الامن اصبحت ممكنة على اثر "التغييرات الجيوسياسية في المنطقة خلال السنوات الاخيرة وانخفاض مستوى التهديدات تجاه اسرائيل". وعاد كلاين ليقول ان ضائقة الفقر في اسرائيل تفاقمت في السنوات الاخيرة وان من مهام الحكومة القيام بكل ما يمكن من اجل تقليص حجم الفقر. ولذلك، توصل كلاين الى ان على الحكومة تغيير سلم الاولويات بحيث تولي اهمية عليا للموضوع الاجتماعي.

وأكد محافظ بنك اسرائيل على انه في ميزانية العام 2005 لن يكون في امكان الحكومة اجراء تقليص، مرة اخرى، في ميزانيات الوزارات المختلفة بصورة افقية متساوية. وبدلا من ذلك سيتوجب على الحكومة أن تحسم أيًا من القضايا ذات اهمية اكبر وايها ذات اهمية اقل. ورأى انه يتوجب الغاء المصروفات المرافقة للميزانية العامة التي تزيد المصروفات، في كل عام، من دون وجود حاجة لذلك، مثل موضوع المخصصات والاجر في القطاع العام.

وكان المسؤولون في بنك اسرائيل قد عرضوا الخطة على الرئيس الاسرائيلي، موشيه قصاب، الذي امتدح المحافظ "الذي يبدي حساسية خاصة تجاه القضايا الاجتماعية"، على حد قول قصاب، الذي أضاف انه "لا يمكن تحقيق غايات في الناحية الاقتصادية فيما الضائقة الاجتماعية قائمة. ان الشرط للاشفاء الاقتصادي يكمن في وضع خطة تأخذ بعين الاعتبار الشرائح الاجتماعية الضعيفة". وعرضت الخطة على عدد من الوزراء في الحكومة الاسرائيلية ذوي العلاقة بالنواحي الاقتصادية والاجتماعية وعلى رأسهم وزير المالية نتنياهو.

وافادت د. بلوغ، خلال المؤتمر الصحفي، بانه في العام 2002 كان 18.1% من العائلات في اسرائيل تعيش تحت خط الفقر، مقابل 17.7% في العام 1997. واشارت الى ان ازدياد حجم الفقر في اسرائيل يبرز ايضا من خلال المقارنة مع دول عديدة في العالم. ففي العام 2002 كان هناك 339 الف عائلة فقيرة في اسرائيل ضمّت 21.1% من المواطنين الاسرائيليين. وبلغت نسبة الاولاد الفقراء في اسرائيل 29.6% (618 الف ولد). وكان متوسط الدخل للعائلة الفقيرة في العام 2002 اقل بحوالي 30% من خط الفقر.

واشار د. غوتليف الى ان خطة بنك اسرائيل توصي بتقليص نسبة الفقر في اسرائيل خلال عشر سنوات وكذلك تقليص الفجوة في متوسط الدخل. ولفت الى ان هناك اهمية كبيرة في ان يترافق تحقيق غايات الخطة بتحسين وضع الشرائح الاكثر فقرا وايضا الى وجوب زيادة نسبة التشغيل من 55% الى 65%، ما يعني زيادة عدد العاملين بـ90 الفا في كل عام. ومن اجل تحقيق ذلك يتوجب تقليل عدد العمال الاجانب في اسرائيل بشكل ملموس.

وعلقت الصحفية روتي سيناي، في مقال حول خطة بنك اسرائيل نشرته صحيفة "هآرتس"، بقولها ان بنك اسرائيل اصبح في السنتين الماضيتين يحمل طابعا اجتماعيا متزايدا عما كان عليه الوضع في الماضي. كما وُصف عدد من كبار المسؤولين في البنك، مثل مساعد محافظ البنك ومستشاره، كمن يحملون افكارا "اجتماعية". واعتبرت سيناي ان اهمية الخطة تكمن في الاعلان بوجوب تحديد غايات واضحة لتقليص الفقر وزيادة التشغيل.

غير ان الكاتبة عبرت عن شكوكها حيال تبني الحكومة لخطة بنك اسرائيل هذه، اذ سارعت وزارة المالية الى رفض تقرير بنك اسرائيل كوثيقة تتضمن توصيات تم تطبيقها او يجب تطبيقها في اطار ميزانية العام 2005. وكتبت ان الافكار الواردة في خطة بنك اسرائيل لتقليص حجم الفقر صحيحة. لكن يبقى السؤال: كيف يمكن تنفيذها خصوصا ما يتعلق بزيادة التشغيل وتقليص عدد العمال الاجانب؟.

والسبب الرئيسي للشكوك حيال امكانية تنفيذ الخطة يكمن في ان وزارة المالية اعلنت انها بصدد تقليص 5-6 مليارات شيكل من ميزانية الدولة للعام 2005. واضافت سيناي ان تكلفة خطة بنك اسرائيل البالغة 1.1 مليار شيكل تعني انه سيتم تقليص مبلغ 6-7 مليارات شيكل من ميزانية العام القادم، خصوصا ان الخطة تتحدث عن تمويل هذا المبلغ من خلال فرض الضريبة السلبية. كذلك اعلن نتنياهو انه بصدد استمرار تقليص عدد المستخدمين في القطاع العام، ما يثير التساؤل حول كيفية تساوي فصل مستخدمين من العمل مع زيادة التشغيل، التي تتحدث عنها خطة بنك اسرائيل.

وبحسب المحللين الاقتصاديين الاسرائيليين فان محافظ بنك اسرائيل يرى في نسبة التشغيل المتدنية (55% فيما المعدل في الدول الغربية المتطورة 65%) السبب الرئيسي للفقر في اسرائيل. ويعني رفع نسبة التشغيل الى 65% اضافة 400 الف مستخدم الى دائرة العمل في اسرائيل. ولكن اغلبية المحللين الاقتصاديين يتساءلون حول كيفية القيام بذلك. كيف يمكن اضافة 400 الف انسان الى دائرة العمل؟

واشار المحلل الاقتصادي لصحيفة "هآرتس"، نحميا شترسلر، الى ان الحكومة تسير في هذا الاتجاه. حيث ان معطيات شرطة الهجرة الاقتصادية تفيد بان اكثر من 100 الف عامل اجنبي غادروا اسرائيل خلال السنتنين الاخيرتين، 35 الفا تم طردهم و65 الفا غادروا اسرائيل من تلقاء نفسهم، على اثر انخفاض الطلب على العمال الاجانب وخوفا من ممارسات شرطة الهجرة. وتابع ان هناك اساليب اخرى لتقليل اعداد العمال الاجانب بواسطة رفع نسبة الضرائب المفروضة على تشغيل العمال الاجانب.

كذلك لفت "شترسلر" الى ان مقولة محافظ بنك اسرائيل بخصوص وجوب تقليص ميزانية وزارة الامن الاسرائيلية لصالح القضايا الاجتماعية وتقليص حجم الفقر، ليست بجديدة. واورد اقوالا لكلاين صرح بها خلال مقابلة للصحيفة ذاتها في ايلول العام 2003 وقال فيها: "يتوجب تقليص ميزانية الامن بثلاثة مليارات، بدلا من اجراء تقليص كبير للغاية في المخصصات والخدمات الاجتماعية".

وانتهى "شترسلر" الى القول انه "من السهل جدا تقليص ميزانية الامن، بالكلام. ولكن في الحكومة هذا امر اصعب بكثير. كذلك، من السهل جدا تنجيع جهاز التعليم. ويتوجب فقط التغلب على نقابات المعلمين والهستدروت (وهذا امر من الصعب جدا تحقيقه بسبب القوة التي تتمتع بها هذه النقابات وهي الاكبر والاهم في اسرائيل على الاطلاق)".

من جهة اخرى، افاد تقرير اعده اخصائيون اقتصاديون من الجامعات الاسرائيلية بان "السياسة الاقتصادية في اسرائيل تميل لصالح المشغلين (وارباب العمل) والمصالح الضيقة". وكتب هؤلاء ان "سوق العمل الاسرائيلي يعاني الان من احدى اصعب الفترات التي عرفها. بعض الصعوبات سببها سياسة خاطئة تم انتهاجها على مدار سنوات طويلة خلت، وبعضها سببه تطورات مرت على الاقتصاد في العالم الغربي والوضع الامني السائد. والنتيجة هي مشاركة منخفضة جدا في قوة العمل ونسب بطالة مرتفعة للغاية يتم التعبير عنها من خلال الفقر وانعدام المساواة في الراتب الاجمالي، الذي يعتبر من اعلى معدلات الدخل في العالم الغربي ويستمر بالارتفاع".

واكد الباحثون الاكاديميون د. دان بن دافيد من جامعة تل ابيب؛ د. افنير احيطوف من جامعة حيفا؛ د. نوح ليفين ابشطاين من جامعة تل ابيب ود. حايا شتاير من جامعة تل ابيب ايضا، اكدوا على ان الوضع القائم ليس حتميا. "فبدلا من جعل العولمة تقود الى وضع خطير في الناحية الاقتصادية-الاجتماعية، بامكان دولة اسرائيل تنجيع عملية الانفتاح نحو اتجاهات تتعلق برفع مستوى الحياة لمجمل السكان في اسرائيل، وبضمن ذلك الشرائح الضعيفة وتقليص حجم البطالة بشكل ملموس".

واضاف الباحثون ان راسمي السياسة في اسرائيل "يطلقون خطأ على سياستهم اسم الرأسمالية. فهذه السياسة تميل اكثر الى (خدمة) ارباب العمل ومصالح شخصية وايديولوجية ضيقة، لا توجد أي علاقة لها بالسيرورة الاقتصادية الرأسمالية". واوضحوا ان "الاقتصاد المتنامي يحتاج الى اعداد اكبر من الايدي العاملة ذات الخبرة والمؤهلات والثقافة. ويتوجب ان ينحصر الهدف المركزي لدولة اسرائيل في المجال الاقتصادي- الاجتماعي في اتجاهين في آن واحد: رفع مستوى المعرفة والخبرة لدى المواطنين عامة ولدى الشرائح الضعيفة خاصة؛ واجراء تحسين ملموس في محيط مكان العمل".

ولفت الباحثون الى قضية اخرى هي ان "العمل ليس نشاطًا انتاجيًا فحسب بل انه ينطوي، ايضا، على ابعاد اجتماعية وشعورية ويشكل عاملا مركزيا في هوية غالبية العاملين". واضافوا انه "لا يوجد أي سند الا ان الاسرائيليين يتعاملون بشكل مختلف مع موضوع العمل عن تعامل شعوب اخرى في هذا المضمار. فرغبة الاسرائيليين بالعمل لا تقل عن رغبة الشعوب الاخرى ، بل ان ابحاثا نشرت مؤخرا تشير الى ان رغبة الاسرائيليين بالعمل اقوى من الرغبة بالعمل لدى شعوب اخرى".