"قرار لاهاي يضع إسرائيل كليًا خارج جدار أسرة الشعوب الشرعية"

كتب سعيد عياش:

علىالرغم من أن قرار محكمة العدل الدولية (لاهاي) كان متوقعاً سلفاً في ديباجته المبدئية، كما أشار غير مسؤول ومعلق إسرائيلي، إلا أنه وحسبما لوحظ بوضوح في تغطية وسائل الإعلام والصحافة الإسرائيلية – التي جاءت "متأخرة" لإعلان محكمة لاهاي بسبب عطلة السبت – أثار القرار ردود فعل واسعة في إسرائيل، يمكن القول إنها بدت إلى حد ما غير متوقعة من حيث حجم "الصدمة المعنوية" التي خلفها القرار في "نفوس" سائر الأوساط الإسرائيلية.

هذه الحقيقة يمكن إستشفافها وتلمسها بوضوح بين ثنايا ردود الفعل والمواقف الإسرائيلية، حيال القرار أو "الرأي" الإستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية (الجمعة 9 تموز)، في قضية "جدار الفصل العنصري" الإسرائيلي، والتي اتسمت عموماً، بالتوافق والإنسجام، وحتى بقدر كبير من "الإجماع" – حسب التوصيف المحبب لدى الإسرائيليين – حول رفض وإدانة واستنكار "رأي" أعلى هيئة قضائية دولية في العالم، غير أن هذه المواقف وردود الفعل الإسرائيلية إتشحت بالإجمال بثوب صارخ وحافل بألوان "العصبية" و "الغضب" و "الهستيريا"، وليس أدل على ذلك من "البيان العاجل" الذي صدر أمس الأول (الأحد) – تأخر صدوره 48 ساعة بسبب عطلة نهاية الأسبوع العبري (السبت) – عن رئاسة الحكومة الإسرائيلية والذي أعلن أن رئيس الوزراء أريئيل شارون "أمر، بعد مشاورات وزارية، بمواصلة بناء الجدار" و"أعطى تعليمات بمواصلة مُقارعة رأي محكمة العدل الدولية بكل الوسائل السياسية والقانونية".

صدى هذه المواقف الإسرائيلية وجد تعبيراً جلياً له في افتتاحيات وتعليقات وقراءات الصحف اليومية الإسرائيلية والتي نسوقها في هذا الإيجاز.

"دولة خارج الجدار"

تحت هذا العنوان، اعتبرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" في مقالها الإفتتاحي (11/7/2004) أن "الرسالة – التي ينطوي عليها قرار محكمة العدل الدولية بشأن "جدار الفصل" – كانت أشبه بعاصفة رعدية في يوم صافٍ". واضافت:

" بعد ما يقارب من أربعة أعوام على إندلاع الإنتفاضة، وجدت إسرائيل نفسها يوم الجمعة الماضي، في قاعة محكمة العدل الدولية في لاهاي، متهمة بانتهاك خطير لا مثيل له للقوانين والقواعد والمبادىء الإنسانية والدولية ... وقد أكد قضاة المحكمة بذلك، من ناحية عملية، أن إسرائيل دولة شريرة مارقة، تقيم في أراضٍ محتلة سوراً يشكل جريمة ضد الشعب الفلسطيني وضد الإنسانية جمعاء".

واتهمت الصحيفة في إفتتاحيتها قضاة محكمة العدل الدولية (باستثناء القاضي الأمريكي بطبيعة الحال) باتخاذ موقف مسبق (منحاز للفلسطينيين) من النزاع حول "الجدار" ومن إسرائيل ذاتها، كدولة، ثم أردفت تقول: مبدئياً "جدار الفصل" ينقذ أرواحاً ويكبَح الإرهاب ... لكن من ناحية عملية، وبغية تفادي المس بحقوق الفلسطينيين، يجب (على إسرائيل) بناءه بمحاذاة الخط الأخضر، كما قضت المحكمة الإسرائيلية العليا.

واستطردت الصحيفة في تعليقها مستنتجة: "كيف يجب أن يكون الرد الصهيوني الملائم على القرار الخطير في لاهاي؟ أولاً، يجب عدم ترك القرار دون رد إسرائيلي مكتوب. على إسرائيل أن تشكل فريقاً من خبراء القانون المرموقين عالمياً ليقوموا بصياغة تفنيد مفصّل ومعّلل لوجهة نظر – قرار – محكمة العدل الدولية.

ثانياً، لا يجوز الإعتماد أكثر من اللازم علىالدعم الأمريكي، لا سيما وأن الولايات المتحدة غير مؤهلة حالياً لتوفير غطاء وشرعية لأي طرف إذ أن شرعية كل السياسة الخارجية والأمنية الأمريكية ذاتها أضحت الآن محل شكوك خطيرة، حسب الصحيفة التي لخصت رأيها بالقول: يجب عدم مواصلة بناء جدار الفصل وفق المسار الحالي، فتغيير هذا المسار لجهة تقريبه إلى أقصى حد من الخط الأخضر بات أمراً ضرورياً الآن، حتى ولو تفادياً لدمغ إسرائيل بوصمة عار بكونها دولة تدوس القانون.

وختمت تعليقها قائلة: إن قرار محكمة لاهاي "يضع إسرائيل كلياً خارج جدار أسرة الشعوب الشرعية ... وفي ذلك تكمن خطورة الأمر".

وتحت عنوان "بين القدس ولاهاي" كتبت صحيفة "هآرتس" في تعليقها الإفتتاحي:

" باستطاعة الحكومة – الإسرائيلية – مهاجمة استنتاجات محكمة لاهاي، لكنها – الحكومة – هي التي جلبت على نفسها الصفعة القانونية المزدوجة التي تلقتها في قضية جدار الفصل". وواصلت الصحيفة معتبرة أن مسؤولية ما حصل تقع على "التخطيط الفاشل" لمسار الجدار الذي توغل في عمق الضفة الغربية في محاولة لتوسيع "الخاصرة الضيقة" للدولة – أي إسرائيل – وضم أكبر عدد ممكن من المستوطنات والمستوطنين إلى "المجال المحمي". وعلى غرار موقف صحيفة "يديعوت"، رأت "هآرتس" في ختام مقالها الإفتتاحي أن فكرة بناء الجدار في حد ذاتها، "مبررة" وسليمة، سواء كوسيلة أمنية أو كوسيلة ملائمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وبالتالي فإن مأخذ الصحيفة على الجدار ينحصر "في التخطيط الخاطىء لمساره" والذي " أقحم إسرائيل في ورطة سياسية ضارة تضعف التأييد الدولي لها في محاربتها للإرهاب، وتصوره كحرب إحتلال".

أين المفاجأة في القرار ؟

من جهته أكد خبير القانون الدولي في مركز هرتسيليا المتعدد المجالات، نتان ليرنر، "معاريف" 11/7/2004، أن محكمة لاهاي لم تفاجىء أحداً حين قررت أن مسار الجدار ينطوي على ضم غير مباشر وأن وعود إسرائيل بشأن الطابع المؤقت للجدار ليس في مقدورها تبديد المخاوف من أن يحسم الجدار الحدود المستقبلية بينها وبين الدولة الفلسطينية، لافتاً إلى حقيقة أن وزير القضاء الإسرائيلي، يوسف لبيد، سبق أن أعرب عن معارضته لهذا المسار مؤكداً أنه "يخترق مناطق إقليمية يتخذ وجود إسرائيل فيها طابع الإحتلال العسكري".

وفي رأي هذا الخبير فإن المفاجأة في القرار تكمن في أن هذه المحكمة أقرت بحقيقة أن الجدار هو جزء غير منفصل عن موضوع شديد التعقيد، غير أنها لم تتطرق البتة إلى أسباب إقامته. وزاد: استندت المحكمة إلى طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تبحث في النتائج القضائية لبناء الجدار بصورة تكاد تكون مطلقة في تبنيها لوجهة نظر سكان المناطق (الفلسطينية) دون محاولة تفحص الصورة العامة التي تتجاوز التشديد على مبدأ رفض ضم الأراضي.

وختم بقوله إنه على رغم عدم إلزامية قرار المحكمة الدولية، سواء بالنسبة للجمعية العامة أو للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، فإنه من المحظور الإستخفاف بتأثير قرار هذه المحكمة على دول معينة. ويتعين على إسرائيل أن تدفع إلى الأمام جهود البحث عن حلول سياسية للنزاع دون الإستسلام للضغوط الداخلية التي ستكون شديدة الوطأة بكل تأكيد.

"من مشروع قومي إلى عبء معيق"

وكتب المعلق السياسي، ألوف بن، في صحيفة "هآرتس" معتبراً إن إسرائيل "تلقت لطمة معنوية قوية من محكمة العدل الدولية ... على المدى القصير يبدو أن إسرائيل ستنجح في كبح ترجمة الحكم القضائي إلى قرار ملزم يصدر عن الأمم المتحدة، لتمضي في طريقها كالمعتاد.

ولكن قرار قضاة محكمة لاهاي يوجه، على المدى البعيد، ضربة لشرعية إسرائيل ويصورها كدولة خارجة عن القانون، تعمل منذ 37 عاماً في المناطق (الفلسطينية المحتلة) خلافاً للقانون الدولي".

ورأى "بن" في تحليله أن جميع ما ساقته إسرائيل من إدعاءات وحجج ومبررات في شأن "جدار الفصل" سقط في محكمة لاهاي كلياً، إذ أكد قضاة المحكمة بالإجماع أن إسرائيل هي دولة محتلة وأن المستوطنات التي تذرعت بحمايتها، منافية للقانون الدولي، وأنه لا يجوز بناء جدار شرق الخط الأخضر. حتى القاضي الأمريكي توماس بورجنطال (الوحيد الذي عارض القرار) وافق على الإستنتاجات وتحفظ في شكل أساسي على الطريقة التي أُتخذت بها.

وأردف إن "الفلسطينيين ومؤيديهم في المجتمع الدولي حصلوا على هدية ثمينة في لاهاي. فمن الآن وصاعداً سيضطر مبعوثو الدعاية الإسرائيليون للتصدي ليس فقط لقرارات الأمم المتحدة ("الخاربة") – كما وصفها بن غوريون في حينه – وإنما أيضاً لقرار معلل ومنمق صادر عن هيئة قضائية مهنية موقرة أكدت أن إسرائيل تشن حرب إحتلال وضم وتوسع". وتابع "بن" مشيراً إلى أن بعض المسؤولين الإسرائيليين عزّوا أنفسهم، بعد صدور قرار المحكمة، بقولهم إن "القرار ذهب أبعد من اللازم لصالح الفلسطينيين" وإن القضاة " تجاهلوا سبب إقامة الجدار – وهو الإرهاب الفلسطيني".

ويأمل هؤلاء المسؤولون في أن يساعد ذلك جهاز الدعاية الإسرائيلي في مساعيه لتنفيذ ومقارعة قرار المحكمة الدولية، ولكن هذا "العزاء" على رأي ألوف بن، أشبه تماماً بالأمل العقيم – الذي راود المسؤولين الإسرائيليين – وهو أن قرار المحكمة الإسرائيلية العليا في شأن "بعض مقاطع" جدار الفصل، سيساعد في التخفيف إلى حد ما من قرار وموقف قضاة المحكمة الدولية في لاهاي.

وختم "بن" تعليقه معتبراً أن تنفيذ خطة فك الإرتباط، بالإنسحاب من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية من شأنه أن يبرهن على أن إسرائيل لا تسعى إلى تكريس الإحتلال والضم، ومن جهة أخرى، زاد المعلق، فإن قرار محكمة لاهاي سيجعل من الصعب أكثر على إسرائيل التملص من تنفيذ خطة الإنفصال عن الفلسطينيين خلال السنة المقبلة.

إسرائيل مُطْمَئنة للفيتو الأمريكي

وفي تعليق من وجهة قانونية كتبه خبير القانون الدولي د. روبي سايبل، في صحيفة "يديعوت أحرونوت" حاول الكاتب، وهو مستشار قانوني سابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، التقليل من أهمية قرار محكمة العدل الدولية، بقوله إن "الحديث يدور عن رأي إستشاري وليس قرار حكم ملزم" ومع ذلك، أضاف مستدركاً "لكن مؤسسات الأمم المتحدة، بما في ذلك الجمعية العامة، ستتعامل بالتأكيد مع هذا الرأي الإستشاري كقرار ملزم لها، كما أن الكثير من الدول ستنظر إليه كرأي أو موقف يعبِّر عن القانون الدولي".

وتابع الكاتب متوقعاُ أن تنجح الدول العربية في تمرير قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة يطالب بتنفيذ القرار، مع العلم أن قرارات الجمعية العامة ليست ملزمة، في حين أن مجلس الأمن الذي سينعقد لهذا الغرض في أيلول المقبل، مخول بتمرير قرار ملزم...

وطمأن المستشار القانوني الإسرائيلي السابق بقوله "إن مثل هذه المحاولة ستصطدم على الأرجح بالفيتو الأميركي – في مجلس الأمن الدولي" وزاد أن بريطانيا وفرنسا قد تنضمان أيضاً إلى الولايات المتحدة في موقفها المتوقع في مجلس الأمن.

وحول إحتمال أن تنجم عن قرار محكمة لاهاي إنعكاسات على مواضيع ومسائل أخرى، قال الخبير القانوني ذاته إن الجواب على هذا السؤال إيجابي، مشيراً إلى أن محكمة العدل الدولية أكدت فيما أكدت، على أن القدس الشرقية هي أراضٍ محتلة وأن قرار التقسيم من العام 1947 لا زال ذا صلة، وأن جميع المستوطنات (التي بنتها إسرائيل في الضفة الغربية والقطاع) غير قانونية، معتبراً في ختام تعليقه أن محكمة العدل الدولية "تبنت من ناحية عملية بصورة تامة" مواقف الجانب الفلسطيني والدول العربية إزاء جميع القضايا المختلف عليها بين الطرفين.

العالم مَلَّ من إسرائيل

وخلص المحلل السياسي بن كسبيت في تعليق كتبه بصحيفة "معاريف" إلى أن قرار محكمة لاهاي جاء ليؤكد أن العالم بأسره "ضاق ذرعاً" بإسرائيل ولم يعد يحتمل ممارساتها بحق الفلسطينيين، وقال "بن كسبيت" فيما كتبه: القرار يؤكد ظاهرة آخذة بالإنتشار في الآونة الأخيرة وهي أن العالم "مَلَّ" كثيراً مِنّا ... فالكراهية لإسرائيل في تزايد يتخطى الحدود.

وأضاف: هذا القرار سيدخل التاريخ وسيتحول إلى ماركة في الخطاب الدولي، كما أنه سيدمغ أخلاقنا وإنسانيتنا وعالميتنا بعلامة سوداء كبيرة، ولن يستطيع الفيتو الأمريكي إزالة هذه الوصمة عنا.

وتساءل المعلق: "إلى متى سيستطيع الأميركيون وحدهم الوقوف كجدار فاصل بيننا وبين العالم؟".

وختم قائلاً:"إن الوقت لا يعمل لصالحنا ...".