والدة أحد رافضي الخدمة العسكرية ل"المشهد الاسرائيلي": أحترم اختياره ومقتنعة بما فعل

تقرير: فراس خطيب

حاولت د. عنات مطر، والدة حجاي مطر، أحد رافضي الخدمة العسكرية في المناطق المحتلة، جاهدة إظهار الصورة بأجمل تجلياتها، عندما تحدثنا معها من "المشهد الاسرائيلي" حول الموضوع، ولم تأخذ في حديثها حيزا عاطفياً، وإكتفت بوصف حياتها اليومية بأنها على ما يرام. ويأتي هذا الحديث بعد مرور عامين على سجن إبنها حجاي وزملائه الاربعة على خلفية رفضهم الخدمة العسكرية لأسباب ضميرية، هذه القضية التي هزّت أرجاء الدولة قاطبة، الامر الذي أحدث عراكاً سياسياً وفاتحة لحراك سياسي مؤثر بمجمله على حياة الشبان الاسرئيليين عامة قبل تجنيدهم، سواء تقبل الشبان او لم يتقبلوا إلا ان شيئاً بالأفق لاح.

لا شك في ان اوضاع السجناء الرافضين للخدمة ليست سهلة، ونهاية القضية ما زالت مفتوحة، فقد حكمت المحكمة عليهم بالسجن الفعلي لمدة عام يضاف الى ما عانوه في "السجن العسكري"، لكن كل شيء من الممكن ان ينقلب الى الأسوأ في حالة ارادت الدولة ملاحقتهم بعد نهاية هذا العام أيضاً.

كيف تشعرين تجاه الموضوع؟. سألت د. عنات، فأجابت: "ممتازة". كررت السؤال: "هل تحاولين تجميل الصورة؟ ابنك شاب في الثامنة عشرة من عمره، هل تعتقدينه حملاً لهذه المتاهات؟". فكررت هي مرة أخرى: "هو بخير، المصاعب اليومية تمر .. لا عليك، الاحداث السياسية جزء منا وانا متقبلة لموقف ابني جداً وأحترم اختياره ومقتنعة بما فعل. أنا معتادة على مواجهة هذه الظروف السياسية كوني ناشطة في حركة "تعايش"، ربما زوجي ليس ناشطاً مثلي لكنه هو أيضاً يتفهمها الى حد كبير".

(*) "المشهد الاسرائيلي": هل تؤيدين ما فعله حجاي ام انك تفضلين إختياراً آخر له؟.

(*) "لا، هذا هو الاختيار الصحيح، كان إختياراً موفقاً، فلم ينضم حجاي الى صفوف الجيش الاسرائيلي نتيجة لما يمارسه هذا الجيش من جرائم في المناطق المحتلة، وهو لا يريد ان يكون جزءاً من هذه الممارسات، كان عليه ان يختار ما بين الانضمام الى هذا الجيش وممارسة كل ما يريده الجيش وبين عدم الانضمام وتجنب كل ما يمارسه الجيش".

ولكنهم خمسة، وهذا أيضا ما تدعيه السلطات المختصة، هؤلاء خمسة من مئات الآلاف بين المجندين. د. عنات مطر لا تعير هذا الطرح إهتماماً وتعتبر ان الأهمية القصوى لا تكمن في التحليلات. وتعقب: "انا لا اهتم بالأعداد، ولا يمكن اليوم حصر العدد، انظر الى ضباط الإحتياط، هناك الأعداد أكبر بكثير من رافضي "التجنيد الإجباري"، المهم ان الظاهرة بدأت تنتشر، واذا تجاهل المختصون هؤلاء الشبان فلا يمكن ان يتجاهلوا الظاهرة نفسها، لقد نجح هؤلاء "القليلون" في تغيير الصورة المألوفة".

تعمل د. عنات محاضرة في قسم الفلسفة في جامعة تل ابيب، وللسلك الأكاديمي في البلاد موقف من هذا. ف"كيف تتقبل الأكاديمية رفض ابنك في ظل ما تعانيه الظاهرة من الإنتقاد؟"، سألنا د.عنات فأجابت: "انت تعلم ان أقسام "علوم الآداب " في الجامعات الإسرائيلية فيها الكثير من اليساريين، وهؤلاء يتقبلون ما فعله حجاي، ليس جميعهم ولكن الأغلبية. ينعكس هذا أيضا على طلاب الأقسام انفسهم، الوضع جيد في الاكاديمية".

القضاء والرافضون

الرافضون الخمسة كانوا يعرفون بالضبط ما يفعلون، وهم مصممون على خوض غمار قضية صعبة ومعقدة الى حد كبير، فالسلطات الاسرائيلية ستعاقبهم على موقفهم كونهم في طليعة الظاهرة، ورفض الخدمة العسكرية اليوم لا يتوقف عند رغبة الشبان الخمسة فقط، لا بل هو أكبر بكثير مما نعتقده نحن، القضية قضية دولة تحارب ظاهرة وصفها البعض بالإنقلابية. ويقسم الرافضون الى قسمين، الاول: من يرفض الخدمة في المناطق المحتلة، وغالبية هؤلاء من جنود الإحتياط إذ إعتبرت المحكمة قضية رفضهم على أنها "إنتقائية" ورفضت توجهاتهم. وعدد هؤلاء اكبر بكثير ممن يصنفون في القسم الثاني من الرافضين، الا وهو قسم "الرافضين من منطلق دوافع ضميرية". وحتى الآن هم خمسة فقط، وتعتبرهم الدولة أخطر بكثير من هؤلاء "الإنتقائيين"، فمن "ينتقي" اليوم، على حد قول المسئولين، خدم في السابق، اما "الرافضون" لأساب ضميرية فإنهم لم يخدموا أبداً.

واذا سألنا لماذا القضية معقدة، فالإجابة عن هذا السؤال ستكون في سياق صعوبة الحجج والمبررات التي من الممكن طرحها، وهنا يكمن "ضعف الرافضين" أمام القضاء، لماذا؟ لأن المبررات شمولية ولا تقتصر على أمر واقعي واحد وتحتاج إلى طرح موضوع الاحتلال كله والممارسات على طاولة المحكمة، والصراع فضفاض، فهل ستسمح المحكمة بهذا الطرح السياسي الكبير؟.

في حديث خاص لـ"المشهد الاسرائيلي"، لم يعتبر دوف حنين (محامي الدفاع عن الخمسة) القضية فضفاضة، "بل على العكس تماما"، كما قال لنا. وأضاف: "هذه المحاكمة خاصة جداً، هذه هي المرة الاولى التي تطرح فيها قضية الاحتلال وإسقاطاته داخل محاكم عسكرية ومدنية في البلاد، بالمناسبة كل مادة المحكمة صدرت في كتاب تحت عنوان: محاكمة الرافضين".

لا يعتبر دوف حنين نفسه محامياً فقط، فهو يعايش القضية منذ زمن، وهو من اوائل رافضي الخدمة العسكرية بشكل فعلي اذ كان هذا قبل 25 عاماً. لم يتوسع حنين في هذا الموضوع، وقال: "القضية ما زالت نفسها، وانا رفضت لنفس الاسباب".

(*) "المشهد الإسرائيلي": هل توجد ثمرة لجهودكم ضد التجنيد؟ كيف ترى تقبل الشبان لهذه الظاهرة؟.

(*) "قبل فترة ليست طويلة عرضت على خشبة مسرح "تسافتا" في تل ابيب مسرحية تناولت قضية "محاكمة الرافضين"، امتلأت القاعة كلها حتى اضطر القائمون إلى ان ينقلوا المسرحية عن طريق مشع الى قاعة أخرى، كان الجمهور غفيراً، ولا بد من ان هؤلاء كلهم يؤيدون الرافضين.

"تعتبر نسبة كبيرة من الشعب الاسرائيلي نفسها تخدم في الجيش من أجل الحفاظ على أمن الدولة، وهم يعتبرون كل من يرفض الخدمة العسكرية خائناً، بالمقابل ثمة نسبة لا بأس بها من الشباب تعيد النظر في الموضوع وتكتشف ان الدفاع هنا ليس عن امن الدولة وإنما هو دفاع عن الإحتلال".

(*) "المشهد الاسرائيلي": هل يتوجه اليك شبان فيما يخص هذا الموضوع؟.

(*) "طبعاً، هنالك الكثير من الشبان الذين ينوون رفض الخدمة العسكرية، والظاهرة في ازدياد، ولكن يجب علينا معرفة ان الثمن الذي يدفعه الرافضون ليس سهلاً، خذ على سبيل المثال الشبان الخمسة، فهم قابعون في السجون الاسرائيلية منذ سنتين، وحتى الآن لا نعرف نهاية لهذه الحكاية، ونسأل دائماً، هل ستنتهي؟...تخيل، الحديث جار عن شبان في سن الثامنة عشرة والتاسعة عشرة".

دانيئيل سيفان.. رافض من نوع آخر

اذا تحدثنا عن الشبان الخمسة فهنا من لا ينتمي الى صراعهم الحركي، دانيئيل سيفان هو رافض للخدمة مثلهم تماماً ولنفس الاسباب، لكنه نجح في التملص من الخدمة العسكرية بحجة معاناته مما يسمى في القاموس العسكري الاسرائيلي "بروفيل منخفض" (مؤهلات متدنية). وبعدما تم تسريحه، يعيش دانيئيل حياة جديدة، يحاول من خلالها إتباع اساليب ثقافية يظهر فيها الجانب الاسود للإحتلال. آرائه "يسارية متطرفة"، يهزّك من الداخل حتى تقف متعجباً ومتسائلاً، هل هذا اسرائيلي فعلاً؟.

في حديث خاص لـ "المشهد الاسرائيلي" سألنا دانيئيل سيفان محاولين التأكد من أسباب رفضه، فقال: "نحن نعيش في دولة ديمقراطية، واذا كانت الدولة ديمقراطية فلا بد من ان المواطن هو جزء مما تفعله الدولة، نحن لسنا في نظام ملكي، الملك يفعل ما يشاء والشعب يتبعه، نحن نعيش الديمقراطية، واذا نفذت الدولة جرائم حرب فلا بد من ان المواطن العادي هو جزء من هذه الجرائم، انا لست مواطناً يصوت فقط، لدي مواقف، وبرأيي ان الدولة التي انا مواطن فيها تمارس جرائم في إحتلالها وتسيطر على شعب آخر، وتفرض عليه معاناة من الممكن تسميتها "كارثة"، فعلاً "كارثة"، وانا اتحمل مسؤولية هذه الممارسات لذا اخترت الا اكون شريكاً ومسئولاً عن هذا، ماذا يعني ان تقول "انا لست جزءاً من بناء الجدار، مثلاً، ولا من الاحتلال ولا من.. ولا من...انا ارفض هذا التوجه".

(*) "المشهد الاسرائيلي": مع اقتناعك ان هذا موقف قلة قليلة؟.

(*) "فليكن هذا موقف من يكون، انا أعتبر هذا موقفي، ولا يمكن تجاهله، وانا لست بحاجة الى من يرفض موقفي ان يكون الى جانبي، من لا يؤيد رأيي هذا ويعتبرني عدواً أنا لست بحاجة له، ولا الى مواقفه".

قبل شهر واحد عرض دانيئيل فيلماً وثائقيا في تل ابيب، كان قد صوره على مقربة من قرية مسحة التي يقسمها الجدار، وأظهر من خلال ذلك الفيلم الممارسات الاحتلالية. عن هذا الموضوع قال: "هذا فيلم يظهر الفظائع الاسرائيلية ضد الفلسطينيين، فالجدار يعزل اهالي مسحة الفلاحين عن اراضيهم وعن ممتلكاتها. والاحتلال يحاول جاهداً تنفيذ "ترانسفير" بطريقة ذكية، ولا ينقص اسرائيل ذكاءً، فهم يحيطون السكان بالجدار، يعزلونهم عن اراضيهم، الامر الذي يدفعهم (الفلسطيينين، ف.خ) نحو اليأس، يدفعهم نحو التفكير بالهجرة من أراضيهم الى الاردن او لبنان او سوريا، وبعد هذه الممارسات تأتي اسرائيل وتقول، كلا، هذه الجدار من أجل الامن، وكلمة "الامن" هي كلمة الحكومة "السحرية".

"جاء الفيلم- يتابع دانيئيل- ليقول ان هذا الجدار ليس امناً إنما دفيئة لاناس لا يجدون ما يخسرونه، سجن يربي "المخربين" و "الارهاب"، التسمية ليست مهمة لي وتستطيع ان تطلق عليهم اسم "مقاتلي الحرية"، لا مشكلة عندي. هذا الانسان الذي يخرج من هناك لا خيار عنده الا ان يتفجر، الجدار هو الذي يجر الناس الى هذه الوضعية".

(*) "المشهد الاسرائيلي": هل فعلاً يواجه من يشاهد الفيلم الحقيقة التي تعرضها؟ .

(*) "يجب ان تعلم ان الغالبية الساحقة ممن يرون فيلمي هم اناس يساريون، هذا فيلم يصعب تقبله في صفوف الاسرائيليين عمومًا، لان الاعتراف بالجرائم هو صعب أيضاً، لذا قررت عرضه في لاهاي وعرض هناك ولقي ردود فعل بناءة، فقد كان بمثابة مادة للتفكير. سوف اعرضه في اماكن أخرى في اوروبا".

يعيش دانئيل اليوم مع "بروفيل منخفض". سألناه: صعب عليك؟ فقال: "اسهل بكثير من ان تعيش في ظل الجرائم، من ناحيتي استطيع ان اكون مواطناً فاسداً ولكن لن اتنازل عن ان اكون انساناً طيباً".

Terms used:

دوف حنين