الاتهامات المتبادلة بين "العاموسين" مالكا وجلعاد تفجر نقاشًا ساخنًا بين اليمين واليسار

كتب بلال ظاهر:

تحولت الاتهامات، التي وجهها قائد شعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية ("أمان") السابق، عاموس مالكا، ضد رئيس وحدة الابحاث السابق في الشعبة نفسها ورئيس الطاقم السياسي- الامني في وزارة الدفاع الاسرائيلية، عاموس جلعاد، حول قيام هذا الاخير بتزييف التقويمات بخصوص الأسباب التي دعت الى اندلاع الانتفاضة، الى نقاش ساخن بين اليمين واليسار في إسرائيل.

وبعدما طالب عدد من أعضاء الكنيست من حزب "العمل" وحركة "ياحد- ميرتس" باجراء تحقيق في الامر، اعتبر وزراء واعضاء كنيست من اليمين ان الحملة ضد جلعاد مصدرها اليسار وغايتها "تقويض التقويمات الصحيحة التي ادلى بها جلعاد" والتي ادعى خلالها بأنه "لا يوجد شريك فلسطيني" للمفاوضات مع اسرائيل.

ويشار بداية الى ان مجمل التقويمات، التي تعدها شعبة الاستخبارات العسكرية، يطلق عليها إسم "المنظور" أو "المفهوم". وأوضح د. أوري بار- يوسف في كتابه "المشاهد الذي نام – حول مفاجأة حرب يوم الغفران وأسبابها" ان هذه الكلمة (CONCEPTION) تعني "اطار الافكار المتعلقة بقضية معينة، وهي توفر نظاما ومعنى لمجمل المعلومات (الاستخباراتية) ذات العلاقة لادراك القضية بالشكل الصحيح".

وأكد مالكا، في تقرير نشرته صحيفة "هآرتس" يوم الجمعة الماضي، على ان جلعاد عرض منظوره الخاص لاسباب اندلاع الانتفاضة في نهاية شهر ايلول/ سبتمبر من العام 2000 أمام الحكومة الاسرائيلية. وقال جلعاد في جلسات الحكومة ان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات "يريد القضاء على اسرائيل من خلال حق العودة والديموغرافية". ومن ذلك توصل الى النتيجة بانه "ليس هناك شريك فلسطيني للمفاوضات مع اسرائيل". من جهته أكد مالكا، ومعه رئيس دائرة فلسطين في وحدة الأبحاث التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية، افرايم لافي، ان لا اساس من الصحة للمنظور الذي عرضه جلعاد كون التقويمات الرسمية المدونة في وحدة الابحاث تقول عكس ذلك تماما وان "وجهة عرفات هي نحو التوصل الى اتفاق مع اسرائيل".

ونشرت صحيفة "هآرتس" شهادة لعضو في الكنيست الاسرائيلي، لم تذكر اسمه، ولكنها اشارت الى انه كان عضوا في لجنة الخارجية والامن البرلمانية ايضا في فترة حكومة ايهود باراك. وقال عضو الكنيست هذا ان "جلعاد قال في جلستين للجنة الخارجية والامن، في 14 ايار/ مايو و11 حزيران/ يونيو 2001، بعد اندلاع الانتفاضة وفشل محادثات طابا، ان غاية رئيس السلطة الفلسطينية، ياسر عرفات، تكمن في التوصل الى اتفاق سياسي، يتم من خلاله اقامة دولة فلسطينية ضمن حدود 67، وبضمنها القدس الشرقية وان يتم ايضا من خلال ذلك وضع حل مناسب لقضية اللاجئين، خصوصا في لبنان. وان يتضمن الحل (بالنسبة لقضية اللاجئين) صدور تصريح اسرائيلي يتم من خلاله الاعتراف بالمسؤولية تجاه لاجئي 48 وصياغات مختلفة بخصوص تحسين اوضاع اللاجئين بشكل فعلي". واضاف عضو الكنيست ايضا ان "تقييمات مشابهة ادلى بها اللواء جلعاد في لجنة الخارجية والامن في 2 كانون ثاني/ يناير 2001، اثناء انعقاد جلسات المحادثات في طابا".

وقال مالكا للصحيفة ذاتها: "انني أقول، وأتحمل كامل المسؤولية عن ذلك، انه طوال الفترة التي ترأست فيها شعبة الاستخبارات العسكرية لم يكن هناك حتى ولو مستند واحد في وحدة الابحاث (التابعة للشعبة) يعبر عن التقييم (بعدم وجود شريك فلسطيني) الذي ادعى جلعاد بأنه عرضه امام رئيس الحكومة. وتنص أنظمة العمل (في شعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية) على عدم وجود اية امكانية لاخراج مستند ما من وحدة الابحاث من دون الحصول على اذن من رئيسها (عاموس جلعاد). ولذلك، فانه من غير الجائز ان يكون الموقف المدوّن لجلعاد على عكس موقف المسؤول عن الدائرة الفلسطينية في الوحدة (افرايم لافي). واذا كانت هناك فجوة بين التقويمات، فلا تعريف لذلك باستثناء كلمة مؤامرة. ولكن لان جلعاد يعي تماما السيرورة التاريخية، فلا يمكن الافتراض، ايضا، بان وجهة النظر التي قالها شفهيا كانت مختلفة عن تلك التي صاغها القسم كتابيا. ولذلك فانني ادعي انه فقط بعد وقف محادثات طابا، عشية انتخابات 2001 (في اسرائيل)، بدأ جلعاد باعادة تدوين تقويمات شعبة الاستخبارات العسكرية".

انطلاقا من ذلك قال مالكا ان جلعاد أقنع القيادة السياسية بافكار خاطئة، وان جلعاد كان "مسؤولا هاما للغاية وله تأثير على عدد كبير جدا من الاشخاص (في القيادة السياسية)". وأضاف مالكا: "كذلك فإنه طوال فترة رئاستي لشعبة الاستخبارات العسكرية لم يكن هناك ولو مستند واحد في وحدة الابحاث يعبر عن تقويمات جلعاد الذي يدعي انه عرضها امام رئيس الحكومة. وأنا ادعي انه فقط بعد محادثات طابا، عشية انتخابات 2001، بدأ جلعاد باعادة كتابة تقويمات الاستخبارات العسكرية".

وبحسب تقييمات جلعاد، "التي اصبحت مقبولة على القيادة السياسية-الامنية"، فان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات "لم يتوقف ابدا عن حلمه بتطبيق حق العودة وان مخططه (أي مخطط عرفات) هو القضاء على دولة اسرائيل بوسائل ديموغرافية". واشار الصحفي عكيفا إلدار، الذي كشف عن القضية في "هآرتس"، الى ان قائد شعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية الحالي، اهارون زئيفي (فركش) ورئيس جهاز "الموساد" السابق، افرايم هليفي، يحملان الافكار ذاتها التي يحملها جلعاد.

لكن مالكا ومسؤولين كبار آخرين في اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية يختلفون مع تقويمات جلعاد، بحسب "هآرتس"، ويؤكدون ان لا اساس للتقويمات التي عممها جلعاد في أي مستند صدر عن اجهزة الاستخبارات في اسرائيل. غير ان جلعاد ادعى ان للتقييمات الشفهية اهمية كبيرة. واضاف: "اذا وضعت في كفة الميزان التصريحات الشفهية وفي الكفة الثانية التقويمات المكتوبة، فان الكفة الراجحة تكون كفة التقويمات الشفهية. فالقادة (السياسيون) يتأثرون بالاساس من الاقوال الشفهية لانهم لا يقرأون".

وافادت "هآرتس" بان هناك عددا من المسؤولين في اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية الذين يشاركون مالكا الرأي، بينهم لافي المذكور اعلاه. وكان لافي يعمل في وحدة الابحاث التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية وتحت رئاسة جلعاد. ومن اقوال لافي وكتاباته، بعد ان خرج من الخدمة العسكرية، يظهر ان افكارا خاطئة تجذرت في اسرائيل فيما يتعلق بالخطوات التي سبقت اندلاع المواجهة بين اسرائيل والفلسطينيين. واحد هذه الافكار الخاطئة كانت ان عرفات يسعى الى "ابادة اسرائيل"...

واشارت الصحيفة الى ان رئيس جهاز "الشاباك" السابق، عامي ايلون، والمستشرق ماتي شطاينبرغ، الذي انهى قبل سنة عمله كمستشار خاص لرئيس "الشاباك" للشؤون الفلسطينية، يحملان الافكار ذاتها التي عبر عنها مالكا.

اما عاموس جلعاد فقد قال: "لا مشكلة لدي في ان الف شخص لا يفكرون مثلي. فهذا لا يعني انهم على حق".

وقال الباحث في الشؤون العسكرية والامنية، د. رؤوبين بدهتسور، في حديث لـ"المشهد الاسرائيلي" حول هذه القضية، ان "آراء عاموس جلعاد معروفة لي منذ سنوات طويلة. ومنظوره تجاه الفلسطينيين معروف. ولا شك ان ذلك أثرّ على افكاره من الناحية الاستخباراتية ايضا. هذا مؤكد. وقد كان تأثير ذلك كبيرا على السياسة الاسرائيلية. وهذه قضية خطيرة للغاية واعتقد انه يتوجب فحص الامر. لست واثقا انهم سيقومون بذلك، لكن اذا وصلت الامور الى هذا الحد فان الامر جد خطير. ولا اعرف لماذا اختار عاموس مالكا قول هذه الامور الآن. فاذا كان يعرف ذلك منذ سنوات كان يتوجب عليه التحدث في الامر في حينه. لكن ربما هو نفسه علم بالموضوع الآن".

واكد بدهتسور ان مثل هذا الامر لم يحدث في الماضي ابدا. وقال ان "الاستخبارات العسكرية هي تنظيم هرمي وله قائد وما يقرره القائد يعتبر موقفا. فعلى سبيل المثال، فإنه عشية حرب أكتوبر 1973 صاغ رئيس شعبة الاستخبارات الموقف (بأن الجيوش العربية لن تشن حربا على اسرائيل)، ورغم ان عددا من الضباط في الشعبة كان لهم رأي مختلف لكن الموقف الذي تم التعبير عنه امام الحكومة كان موقف قائد الاستخبارات العسكرية. ومن هنا، فاذا كانت اقوال مالكا صحيحة فان الامر خطير للغاية".

واردف قائلا انه "من الجائز انه (جلعاد) عرض منظور الشعبة المدوّن ولكنه عبر عن رأيه الشخصي بصورة شفهية. لكن في هذه الحالة يتوجب على جلعاد ان يقول بشكل واضح ان هذا رأيه الشخصي وما يلزم الحكومة هو منظور شعبة الاستخبارات المدوّن. واعتقد ان السؤال المركزي هنا هو: هل عبر جلعاد عن رأيه الشخصي امام الحكومة وادعى ان هذا موقف شعبة الاستخبارات العسكرية؟".

يشار، عند هذا الحد، الى ان وزير الدفاع، شاؤول موفاز، دافع عن جلعاد واعتبر ان تقويماته صحيحة. وقال موفاز، في اول تعقيب له على اتهامات مالكا، بانها غير صحيحة وان تقويمات جلعاد هي الصحيحة، خصوصا تلك التي ادلى بها في العام 1999 (!) والتي أدت "الى ان يستعد الجيش الاسرائيلي للانتفاضة والاعلان عن سنة 2000 انها سنة التأهب". ويرى بدهتسور ان الجيش الاسرائيلي لم يكن مستعدا لاندلاع الانتفاضة. وقال ان "الجيش لم يكن حاضرًا ولو بسلاح واحد لا يؤدي الى سقوط قتلى، ولذلك سقط عدد كبير من القتلى في بداية الانتفاضة. فهل يسمى هذا استعدادًا؟".

* "المشهد الاسرائيلي": ثمة أمر غير واضح هنا. موفاز يدعي ان تقويمات جلعاد في العام 1999 أشارت الى الانتفاضة في نهاية ايلول العام 2000. ولكن في هذه الفترة، في العام 1999، كانت المفاوضات بين اسرائيل والفلسطينيين في أوجها. ولم يتوقع أحد في حينه اندلاع الانتفاضة بعد أكثر من سنة. كيف تفسر أقوال موفاز في ضوء ذلك؟

* بدهتسور: "هناك اشخاص في الجيش، بينهم عاموس جلعاد، يدعون انه من غير الممكن التوصل الى اتفاق مع الفلسطينيين وانه لا يمكن الاعتماد على الفلسطينيين وان الامور ستتفجر في مرحلة ما. وجلعاد يعتقد ذلك من دون علاقة بأي شيء ولا حتى بالمفاوضات. لقد رأى ان الامور ستنفجر. وهو لم يغير رأيه هذا حتى يومنا هذا. ومن الجائز انه قال رأيه امام الحكومة بصورة شفهية".

ولكن، على الرغم من كل ما تقدم، فان الامور ما زالت غير واضحة تماما وقد تتكشف في الايام القادمة تفاصيل أخرى في هذه القضية. فجلعاد لوحده غير قادر على بث افكاره بشكل يؤدي الى تبني الحكومة الاسرائيلية لهذه الافكار. والأهم من ذلك ان اقواله لاقت آذانًا صاغية لدى القيادة العسكرية الاسرائيلية، خصوصا قائد هيئة الاركان في حينه شاؤول موفاز ونائبه (قائد اركان الجيش الاسرائيلي الحالي) موشيه يعلون.

والسؤال هنا هو: هل هناك اشخاص في القيادة الاسرائيلية، وليس العسكرية فقط، قادوا الامور نحو التصعيد؟.

عن ذلك يجيب بدهتسور، في ختام حديثه، انه "بالتأكيد هناك جهات، لديها مواقف شبيهة بمواقف عاموس جلعاد، وهناك جهات داخل الجيش قررت في مرحلة ما بأن استخدام القوة بشكل اكبر سيؤدي الى وضع نهاية للانتفاضة، وهذا يعني انه يتوجب ممارسة قوة اكبر ضد الفلسطينيين. وهؤلاء يعتقدون انه من خلال توجيه ضربات قوية للفلسطينيين سيتوقفون عن المقاومة. ولا تزال هذه الافكار قائمة حتى الان لدى جهات في الجيش. انظر الى ما جرى في رفح مؤخرا".