مع قرب تسلم ديفيد لانداو لرئاسة تحريرها:"عهد جديد" في صحيفة "هآرتس"؟


من المقرر أن يتسلم ديفيد لانداو، في الخامس عشر من شهر نيسان المقبل، منصب رئيس تحرير صحيفة "هآرتس"، ثالث أكبر الصحف العبرية اليومية في إسرائيل، وذلك خلفاً لـ "حانوخ مرمري" الذي استقال من هذا المنصب قبل عدة أشهر. وقد تمثلت الحجة الظاهرية لاستقالة "مرمري"، الذي أمضى في منصبه زهاء ثلاثة عشر عاماً، بـ: نقل القسم الإقتصادي التابع للصحيفة إلى مسؤولية موقع "ذي ماركر" على شبكة الإنترنت، الأمر الذي اعتبره مرمري مسّاً بمكانته وصلاحياته كرئيس للتحرير. غير أن العالمين ببواطن الأمور يقولون إن استقالة "مرمري" جاءت في أعقاب تعمق حدة الخلاف بينه وبين صاحب الامتياز في الصحيفة، عاموس شوكن.

على أية حال فإن ما يعنينا هنا هو التعرف على هوية رئيس التحرير الجديد للصحيفة (هآرتس) التي تعتبر بلاشك واحداً من أقدم وأهم المنابر الإعلامية التي تلعب دوراً مؤثراً في صنع وتشكيل توجهات الرأي العام في الدولة العبرية، وربما أوسعها انتشاراً وتداولاً في أوساط النخب المثقفة.

فمن هو ديفيد لانداو؟ وما هي خلفيته وتوجهاته الإجتماعية والسياسية والإعلامية؟ وهل يتوقع أن يكون لتعيينه تأثير على توجهات وميول الصحيفة، التي اتسمت على وجه العموم بالجدية العالية والميل باتجاه "الوسط" وأحياناً يسار الوسط في الحركة الصهيونية؟

هذه الأسئلة وغيرها يجيب عليها تقرير نشر مؤخراً في مجلة "هعاين هشفيعيت" ] العين السابعة[ - عدد آذار 2004- وهي مجلة إسرائيلية دورية تصدر مرة كل شهرين عن "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" وهي متخصصة في الإعلام ويرأس تحريرها عوزي بنزيمن، الكاتب والمعلق الصحافي المعروف في صحيفة "هآرتس".

وفيما يلي تلخيص لأهم ما تضمنه تقرير الدورية المذكورة:

على الرغم من أن ديفيد لانداو، شخصية معروفة في الوسط الصحافي والإعلامي في إسرائيل، حيث يتولى تحرير الطبعة الإنجليزية لصحيفة "هآرتس" ويتمتع بمكانة مرموقة في هيئة تحرير الصحيفة، إلا أن تعيينه رئيساً للتحرير، خلفاً لـ "حانوخ مرمري"، فاجأ الكثيرين في هذا الوسط، بمن في ذلك العديد من العارفين والمقربين من ناشر الصحيفة عاموس شوكن.

هناك من يعتقد بأن اختيار لانداو يؤشر إلى "عهد جديد"، مختلف بعض الشيء في التوجهات، تقف الصحيفة القديمة المملوكة لعائلة شوكن، على أبوابه، ويعزو هؤلاء هذا التقدير إلى خلفية وأصول رئيس التحرير الجديد لصحيفة "هآرتس". فـ "ديفيد لانداو"، البالغ 57 عاماً، يعتبر من نواح عدة "شاذاً" بين بقية أعضاء هيئة تحرير الصحيفة، فهو أولاً رجل متدين ملتح يعتمر قلنسوة سوداء كحال المتدينين اليهود المتشددين، ويواظب على الصلاة في الكنيس التابعة للطائفة الحريدية بالقدس. ومع ذلك لايشار إلى "لانداو" كمتدين حريدي، وإنما كصهيوني غيور، حيث كان قد هاجر إلى إسرائيل قبل 34 عاماً من انجلترا وذلك بدوافع صهيونية، وبعد قدومه إلى البلاد تعلم لمدة سنتين في مدرسة دينية (يشيفا) والتحق بالخدمة العسكرية في سلاح المدفعية.

ورغم أن "لانداو" هاجر إلى البلاد كمتدين صهيوني، ورغم أن أحد أبنائه الثلاثة مستوطن يقيم في مستوطنة "ألون شبوت" ] في "غوش عتصيون" جنوب بيت لحم [ إلا أنه لا يعد "متديناً وطنياً" بالمعنى الدارج للإصطلاح، كما أنه ليس علمانياً ولا تقليدياً (...) إنه صهيوني من مدرسة مؤسس الصهيونية ثيودور هرتسل، وليس من مدرسة مؤسس التيار الديني القومي المتشدد، الحاخام كوك. فالشخصية الدينية التي يقال أن لانداو يتماثل معها هي شخصية البروفيسور المتوفي يشعياهو ليفوفيتش. ويمكن القول إن لانداو، وبحكم هذه المكونات المتباينة في شخصيته، شخص بلا طائفة أو مجموعة انتماء دينية محددة وواضحة المعالم، وهو باختصار نتاج اليهودية الكلاسيكية التي نمت وسط أوروبا.

معارفه في "هآرتس" يصفونه بأنه رجل واسع الثقافة والإطلاع، يتمتع بآفاق واسعة، وأنه يعتبر "يسارياً" بالمقارنة مع باقي أعضاء هيئة تحرير الصحيفة، ولعل ذلك ما يفسر الترحيب الحار الذي لاقاه تعيينه من جانب القطب اليساري في "هآرتس" مثل غدعون ليفي وعميرة هيس. كذلك علقت أوريت شوحط، التي كانت قد استقالت من هيئة تحرير الصحيفة لكونها (أي "هآرتس") أصبحت "يمينية أكثر من اللازم" من وجهة نظر شوحط، علقت بقولها "لست متفاجئة بتعيين لانداو. كنت أرغب بشدة في أن يتم تعيينه رئيساً للتحرير، وأنا مسرورة لكون ذلك قد تم بالفعل ... فهو صحافي ممتاز يمتلك وجهة نظر راسخة، وليس من النوع الذي يتأرجح أو يهتز في مواجهة الأحداث وتقلبات الواقع".

وكان لانداو قد انضم إلى هيئة تحرير جريدة "هآرتس" عام 1993، بعدما ترك منصبه كرئيس لقسم الأخبار في صحيفة "جيروزاليم بوست" عام 1990، وذلك عقب بيع الأخيرة لشبكة "هولينغر" الكندية، والميول اليمينية التي طرأت على التوجه العام للصحيفة التي تصدر باللغة الإنجليزية. وعمل لانداو في تلك الفترة أيضاً محللاً سياسياً في صحيفة "معاريف"، وأصدر حتى الأن كتابين من تأليفه أحدهما عن عالم المجتمع الديني - الحريدي والثاني عن شمعون بيرس.

وتستشف من مطالعة مقالات لانداو وجهة نظر مركبة، فهو ينفر من اليمين والمستوطنين، ويساند خطط الإنسحاب من جانب واحد من الضفة الغربية وقطاع غزة، ويقول بأن الوضع الذي تمر به إسرائيل "يحول المستوطنات إلى خطر داهم على أمن الدولة". ويصف لانداو حلم "أرض إسرائيل الكبرى" بأنه "كابوس مرعب" ويقول عن رغبة الإسرائيليين في الإبقاء على مدينة القدس موحدة تحت سيادة إسرائيل، بأنها "مقولة شوفينية جوفاء" أما معسكر السلام الإسرائيلي فيبدو في نظر لانداو "منغمساً في نزاعاته الداخلية منذ انهيار اتفاقيات كامب ديفيد" ... وبسبب خيبة أمله من معسكر السلام المذكور، ينادي لانداو (في مقالاته) بـ "تدخل عسكري أمريكي في المنطقة، يجبر إسرائيل على الإنسحاب من مناطق الضفة والقطاع".

ويقول في أحد مقالاته: "المصلحة الحيوية لإسرائيل تتمثل في العمل الحثيث من جانب الولايات المتحدة في منطقتنا، بحيث تسعى إلى فرض تسوية ضمن مراحل على الأطراف المتنازعة".

وإلى جانب ما يبدو كمواقف يسارية يتبناها لانداو في الشأن السياسي، إلاّ أنه يدافع في الوقت ذاته عما يسميه بحقوق اليهود في "الأماكن الدينية المقدسة" بالأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث كتب في أحد مقالاته: إن "من أبسط الحقوق الأساسية لليهود زيارة أماكنهم المقدسة في يهودا والسامرة، بما في ذلك قبر راحيل ومعرات همكبلاه (المسجد الإبراهيمي في الخليل) وحائط المبكى ..." وتابع يقول: "مثلما أن هناك ما يدعو إلى تجسيد الموقف والمكانة الإسرائيليين في جبل الهيكل – الحرم القدسي الشريف – الذي يعتبر مكان عبادة للمسلمين، فإنه يجب الإصرار أيضاً على استعادة الحقوق اليهودية في قبر يوسف (وسط مدينة نابلس) والكنيس القديم في أريحا، وعلى صون وتكريس هذه الحقوق في قبر راحيل". وختم لانداو في السياق ذاته قائلاً "يخطىء من يعتقد بأن التنازل عن هذه الأماكن والحقوق سيقرب فرصة إحلال السلام".وحول مستقبل عمل وتوجهات الصحيفة في ظل توليه القريب لرئاسة تحريرها قال أحد كبار المسؤولين في هيئة تحرير جريدة "هآرتس": مما لاشك فيه أن الصحيفة، تحت مسؤولية لانداو لتحريرها، ستزيد من اهتمامها ومعالجتها للقضايا والمسائل اليهودية التي تستحوذ على اهتمامه أكثر مما كانت تحظى به من اهتمام لدى سابقيه في المنصب. سيسعى لانداو إلى زيادة مستوى الاهتمام بالمسائل اليهودية كالذوبان واليهودية حسب رؤية الشعب اليهودي وما إلى ذلك". ولخص هذا المسؤول في هيئة تحرير الصحيفة توقعاته على هذا الصعيد بقوله "سوف نشاهد صحيفة يهودية أكثر بكثير من الماضي، ولكن ليس بالمفهوم الديني للكلمة".