الرؤية السياسية الإسرائيلية هدامة وليست ضيقة الأفق فقط

هذا ما يقوله الصحافي الإسرائيلي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط وطالب الدكتوراه في جامعة كامبردج البريطانية، يوني مندل، في مقابلة خاصة مع المشهد الإسرائيلي * ويضيف: تطورات الحرب على غزة تثبت بالأساس أن معظم الشعب في إسرائيل لا يريد السلام

كتب بلال ضاهـر:

تدخل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، اليوم الجمعة، يومها الحادي والعشرين. ويبدو أنها لم تحقق حتى الآن أهدافها المعلنة، المتمثلة في وقف إطلاق الصواريخ الفلسطينية في اتجاه جنوب إسرائيل، ومنع عمليات تهريب الأسلحة إلى الفصائل الفلسطينية، وأولها حماس.

ولا يظهر أن إسرائيل حققت هذين الهدفين، ويبدو أنها لم تفعل شيئا باستثناء ارتكاب المجازر وقتل نحو 900 فلسطيني وإصابة نحو أربعة آلاف آخرين بجروح.

من جهة أخرى تفرض إسرائيل تعتيما إعلاميا واسعا على مجريات الحرب، من أجل تحقيق هدف مركزي يتمثل في استمرار التأييد الشعبي الإسرائيلي للحرب، إلى حين اتخاذ قرار بوقفها.

ويرى الصحافي الإسرائيلي الذي يعد رسالة الدكتوراه في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة كامبردج البريطانية، يونـي مندل، في حديث لـ "المشهد الإسرائيلي"، أن "إسرائيل حققت أمورا كثيرة من الحرب على غزة. ومن بينها أنها أكدت لحماس أنه لن يكون هناك اتفاق بين الفلسطينيين وإسرائيل، وأوضحت للفلسطينيين في غزة أنه إذا اعتقدوا مرة أن دائرة الكراهية بين الشعبين ضيقة فقد أصبحت الآن أوسع بكثير. كما أن إسرائيل أثبتت للكثيرين في العالم أن الرؤية السياسية الإسرائيلية ليست قصيرة الأمد وحسب، وإنما هي رؤية هدامة. وأثبتت لي شخصيًا أن الأخلاق اليهودية، التي تتفاخر إسرائيل بها بصورة بالغة، هي مجرد كلام. كذلك ثبت بالأساس أن معظم الشعب في إسرائيل لا يريد السلام".

(*) "المشهد الإسرائيلي": ما هي الفائدة التي تريد إسرائيل تحقيقها من العملية العسكرية ضد غزة؟

مندل: "العملية العسكرية في غزة هي قصة نجاح كبيرة جدا لجهاز الدعاية الإسرائيلية. فنحن نعرف أن هناك اعتبارات انتخابية واعتبارات سياسية من وراء هذه العملية العسكرية. وبالتأكيد فإنه بالنسبة لوزير الدفاع ورئيس حزب العمل (الإسرائيلي)، ايهود باراك، ووزيرة الخارجية ورئيسة حزب كديما، تسيبي ليفني، هذه العملية العسكرية تساعدهما على رفع مستوى شعبيتهما لأن الشعب في إسرائيل يؤيدها. فالانتخابات ستجري بعد أقل من أربعة أسابيع، ونحن نرى أنهما يتقدمان بصورة جيدة في استطلاعات الرأي العام. الأمر الآخر هو الدعاية، مرة أخرى. فقد نجح الإعلام الإسرائيلي والسياسة الإسرائيلية في جعل الرسائل التي تدعيها القيادة الإسرائيلية، ورغم أنه لا علاقة لها مع الواقع، تتغلغل لدى الإسرائيليين. لقد نجحت القيادة في تخليد أسطورة أن إسرائيل ضبطت نفسها لسبع سنوات (عن الرد على الصواريخ الفلسطينية). هذه أسطورة بالطبع، لأن إسرائيل كانت تحتل قطاع غزة حتى العام 2005 من الداخل، وبعد العام 2005 استمرت في احتلال القطاع من الخارج. كذلك فإن إسرائيل قتلت خلال السنوات الثماني الماضية 2990 فلسطينيا في القطاع. كما أن المعابر كانت مغلقة طوال الوقت وإذا تمكن جهاز الدعاية الإسرائيلية أن ينسي الشعب الإسرائيلي هذه الحقائق فإنه لا غرابة في أن يؤيد الإسرائيليون هذه العملية العسكرية. فإذا كانت المعطيات التي يعتمدون عليها كاذبة وديماغوغية، فإنهم نجحوا في نهاية المطاف في الحصول على دعم الشعب بشكل واسع للغاية".

(*) لكن هل هذا يبرر قتل نحو 900 فلسطيني وإصابة قرابة أربعة آلاف آخرين بجروح؟ كيف يعقل أن الجمهور الإسرائيلي يؤيد حملة دموية كهذه؟

مندل: "أعتقد أن ثمة أهمية للقول أيضا إنني لا أدافع هنا عن الجمهور الإسرائيلي. كذلك فإنه ينبغي الحديث عن وسائل الإعلام الإسرائيلية وسياسة 'المصفاة' التي تمارسها. فالإسرائيلي المتوسط لم ير صور الأولاد (القتلى والجرحى) في غزة. الإسرائيلي لم ير الصور القاسية التي أراها أنا في وكالة الأنباء الفلسطينية وفي قناة الجزيرة. إذ أن هذه الصور تمر في عملية رقابة جدية ينفذها المراسلون الإسرائيليون للشؤون العربية والعسكرية، والهدف الواضح للغاية من ذلك هو أنه يحظر نشر صور قاسية من أجل عدم المس بمعنويات الجمهور وبوحدته. وتنتج عن ذلك صورة كاذبة للغاية لدى الجانب اليهودي. الأمر الآخر هو أن جهاز الدعاية الإسرائيلية نجح للغاية في جعل الإسرائيليين لدى علمهم بمقتل أطفال يتذرعون بأنهم لا يريدون قتل الأطفال وإنما حماس تتواجد بين الأطفال. وهناك أسطورة هنا في إسرائيل هي أن عناصر حماس يريدون أن يموت الأطفال الفلسطينيون، وأنهم يرسلون أطفالهم ليموتوا وكأن الأطفال في غزة يساوون أقل من غيرهم. وفي المحصلة فإنه إذا نجحت هذه الأكاذيب بالتغلغل في المجتمع الإسرائيلي فإن القلب يصبح أكثر صرامة، والشعور وكأنه لا مفر من ذلك يتعزز لديهم، وفي نهاية الأمر يؤمن الإسرائيليون فعلا أنهم أوشكوا على الانتصار".

(*) عندما يقول الرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريس، إن إسرائيل لا تريد قتل الأطفال الفلسطينيين، فهل يصدقه الإسرائيليون، رغم أن المجتمع الإسرائيلي هو مجتمع نقدي؟

مندل: "نعم. وهذا شبيه بحالة يتم فيها مطالبة الطيار بإلقاء قنبلة زنتها طن، وأن يقرر ما إذا كانت هذه القنبلة ستقتل (القيادي في حماس الذي اغتيل خلال الحرب الحالية) نزار ريان فقط أم أنها ستقتله سوية مع 17 جارا من الأطفال، فإن الطيار يريد أن تقتل القنبلة نزار ريان وحده. لكن المشكلة هي أنه لا يوجد شيء من هذا القبيل، وواضح أن قنبلة زنتها طن وتسقط على بيت في قطاع غزة ستقتل 17 شخصا آخر. وبإمكان الطيار تبرير فعلته ويقول 'ليته لم يُقتل أطفال'. وأنا أصدقه لأنه لا توجد مصلحة لدى طيار إسرائيلي بمقتل أطفال. لكن المشكلة هي أنه يعرف أن قنبلة كهذه ستقتل أطفالا أيضا. وهذا ما يحدث أيضا عندما يطلق الفلسطينيون صاروخ قسام، فإنهم أكثر ما يريدون هو أن يسقط على رأس (رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي) غابي أشكنازي أو (رئيس الحكومة) ايهود أولمرت أو غيرهما من القيادة الإسرائيلية. لكن الواقع هو أن هذه الصواريخ تسقط في أماكن أخرى. وهذا التساذج من جانب الطيارين الإسرائيليين والمجتمع الإسرائيلي وكأننا لا نريد أن يُقتل أطفال، مناقض للواقع. وأعتقد أن هذا التساذج يجب أن يتوقف وأن يتم وضع هذه المرآة البشعة أمام المجتمع الإسرائيلي".

(*) الواقع في مشهد الإعلام الإسرائيلي هو ليس فقط أن الصحافيين يتطوعون لفرض رقابة على الصور من غزة، وإنما أن الرقابة العسكرية ضالعة في الأمر.

مندل: "هذا صحيح. والمشكلة أنه في فترات التوتر الأمني، مثلما هو حاصل الآن، لا تكون هناك رغبة في الاحتجاج على أي قرار صادر عن الرقابة العسكرية. وإذا كان هناك نوع من الحوار في الأيام العادية بين الرقابة العسكرية والقنوات الإخبارية فإن هذا الحوار ليس موجودا في فترة الحرب. وما يقرره الجيش هو الذي يحدث. واللافت للنظر هو أن تصريحات السياسيين والعسكريين تنشر في الإعلام من دون أي تحفظ أو مراجعة. فعندما يقولون إنه لا ينبغي التفاوض لأن حماس هي حركة إرهابية، فإني أتوقع من المراسلين أن يطرحوا سؤالا مثل من الذي قرر أنها حركة إرهابية؟ أو من قال إننا، كدولة محتلة، بإمكاننا أن نفرر أنها حركة إرهابية؟ ألا يجدر التذكير أن حماس انتخبت في انتخابات ديمقراطية صادقت إسرائيل والولايات المتحدة على إجرائها. من جهة ثانية هناك مسألة نشر التقارير حول عدد الفلسطينيين القتلى. وقد اخترعت الإذاعة الإسرائيلية العامة طريقة جميلة فيما يتعلق بهذه التقارير، وهي أن يقولوا في النشرة الإخبارية في الساعة الثالثة، مثلا، أنه 'قُتل خلال الساعة الأخيرة فلسطينيان'، وفي نشرة الساعة السادسة يقولون إنه 'قُتل خلال الساعة الأخيرة ثلاثة فلسطينيين'، وهكذا أيضا في نشرة الساعة التاسعة. وهم يمتنعون عن قول الأعداد الحقيقية وأنه منذ الصباح قُتل 25 فلسطينيا. وهكذا تمتنع وسائل الإعلام الإسرائيلية عن إطلاع الجمهور في إسرائيل على الحقائق. وبالمقابل فإنهم يقولون إنه 'منذ ساعات الصباح تم إطلاق 20 أو 30 صاروخا من قطاع غزة باتجاه إسرائيل'. وقد قمت بتعداد الصور التي نشرتها صحيفة معاريف في اليوم الثاني للحرب. وكان عدد الصور المتعلقة بالحرب 15 صورة، بينها 14 صورة من بلدات ومدن في جنوب إسرائيل وصورة واحدة فقط من غزو، رغم أنه قتل في اليوم الأول أكثر من 150 فلسطينيا بسبب الغارات الإسرائيلية".

(*) هل تعتقد أن وسائل الإعلام الإسرائيلية بالغت بشأن قوة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى في القطاع من خلال تقارير تم نشرها في الشهور التي سبقت الحرب من أجل تبرير قوة الضربة العسكرية في غزة؟

مندل: "أعتقد أن هذه الحرب في غزة هي حرب تم التخطيط لها منذ وقت طويل. والمؤسسة السياسية انتظرت سقوط صاروخ قسام على مدرسة وأن يؤدي ذلك إلى قتل أولاد إسرائيليين وعندها يكون هذا مبررا لشن الحرب. لكن بسبب عدم حدوث هذا السيناريو، وكنا قبل الانتخابات بستة أسابيع، فقد قرروا توجيه هذه الضربة العسكرية. وأعتقد أنهم حافظوا على التهدئة عمدا حتى شهر تشرين الثاني وتوغلت القوات في القطاع لنسف نفق. وبالطبع هذا الخرق الإسرائيلي للتهدئة مر من دون أن تكون هناك أية تساؤلات أو انتقاد في الإعلام الإسرائيلي".

(*) كيف ستكون تبعات الحرب الإسرائيلية على غزة، وما هو تأثيرها على الفلسطينيين؟

مندل: "آمل أن توضح هذه الحرب للفلسطينيين أن الانقسام بين حماس وفتح، رغم الخلافات السياسية بينهما، يلحق ضررا بهما. فإذا حدث وتم التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل والفلسطينيين فإنه سيكون بين إسرائيل وقيادة فلسطينية واحدة. وطالما لا توجد قيادة فلسطينية واحدة، وطالما أن الفلسطينيين اختاروا مواصلة المواجهة فيما بينهم، فإنهم سيبقون بعيدين عن الاتفاق. ولذلك أعتقد أن التأثير الأول لهذه الحرب هو أن يحدث تقارب بين فتح وحماس. والتأثير الثاني، وهو أمر أخشاه، هو أن القيادة الإسرائيلية لن تتمكن من النزول عن الشجرة المتمثلة بموقفها القائل إنها لن تتمكن من الحديث مع حماس. فقد صعدت على الشجرة وقالت إنها لا تستطيع التحدث مع حماس لأنها منظمة إرهابية، فكيف ستتمكن من النزول عن هذه الشجرة؟ هل حماس ستتوقف عن كونها منظمة إرهابية؟ هذه الحرب تبعد احتمال التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية. فلو كانت إسرائيل دولة تريد السلام لأعلنت منذ البداية أنها ستوافق على التفاوض مع من ينتخبه الفلسطينيون".

(*) هل قضت هذه الحرب على "العملية السياسية" أو "عملية السلام"، رغم أن المفاوضات كانت متعثرة أصلا؟

مندل: "لا أعتقد أنه كانت هناك عملية سلام قبل الحرب. ربما كانت هناك محادثات، لكن لم يكن لدى إسرائيل الاستعداد للانسحاب من الأراضي التي احتلتها العام 1967. إذا كان بالإمكان أن نكون متفائلين، فإن رياح التغيير قد تأتي من جانب الولايات المتحدة. وربما يدرك الرئيس المنتخب باراك أوباما أن ما هو جيد لليهود ولإسرائيل هو ليس الدعم غير المشروط لها. وآمل أن يدرك أوباما أن من يحب إسرائيل ويريد مصلحتها عليه وضع حدود لها. وإذا أراد أوباما أن تعيش إسرائيل بسلام فعليه أن يوضح لها ضرورة أن تتنازل عن مطالبها الأمنية المبالغ فيها، وأن على إسرائيل أن تدرك أنه يوجد هنا شعب لديه تاريخ خاص ولديه رواية تختلف عن الرواية الإسرائيلية، وأن هذا الشعب عانى من نكبة ترفض إسرائيل الاعتراف بها".