ما هي المتغيرات التي طرأت على الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية ليهود العالم

التقرير الرابع لـ "معهد تخطيط سياسة الشعب اليهودي" يعالج الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية لليهود في العالم * الأغنياء وصلوا إلى القمة ويطمحون للحفاظ على ما هو موجود * تراجع نسبة العاملين كمستقلين مقابل ازدياد نسبة الأجيرين * مصدر "القلق": تقلص الفجوة بين قدرات اليهود الاقتصادية وقدرات أبناء باقي الشعوب في الدول المختلفة

كتب برهوم جرايسي:

استعرض التقرير السنوي الرابع لـ "معهد تخطيط سياسة الشعب اليهودي" (في العالم) التابع للوكالة اليهودية، والذي يرأسه المساعد الأسبق لوزير الخارجية الأميركية دينيس روس، الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية لليهود في العالم، بمن فيهم اليهود في إسرائيل.

ويقول المعهد إن تقريره هذا هو نتائج لسلسلة أبحاث وإحصائيات تم جمعها على مستوى محلي في الكثير من الدول، وأيضا من خلال أبحاث بادر لها المعهد.

والعنوان الأبرز الذي بالإمكان استخلاصه من هذا التقرير هو "القلق" الواضح من ظاهرتين أساسيتين، تتعلقان باليهود (يتعامل معهم المعهد كشعب) في العالم خارج إسرائيل:

الأولى هي أن عملية التطور الاقتصادي لدى الغالبية من اليهود وصلت إلى القمة، ولا يظهر ان هناك طموحًا للسعي إلى قمم أعلى، كما سنقرأ، وأن هدف غالبية هؤلاء هو الحفاظ على ما هو موجود.

أما الظاهرة الثانية، التي تبدي الوكالة اليهودية القلق بشأنها، فهي تقلص الفجوة التي كانت قائمة بين مداخيل اليهود في العالم وبين مداخيل أبناء كل واحدة من الدول التي يعيشون فيها، وهذا يحد من ميزة اليهود الاقتصادية، وبالتالي قد يؤثر على مكانتهم في المجتمع، وأيضا على مدى تأثيرهم على المؤسسة الرسمية وسير وتطورات الأمور في تلك الدول، على حد قول التقرير.

كذلك يتوقف التقرير عند ظاهرة تراجع المصالح المتوسطة والصغيرة التي يملكها اليهود في دول العالم، وتراجع نسبة اليهود الذين يعملون كمستقلين، مقابل ارتفاع نسبة الأجيرين.

وجاء في التقرير أنه نتيجة للعولمة فإن الكثير من اليهود نجحوا في تحقيق الغنى المالي، في حين أن الكثير من اليهود عانوا من انعكاسات سلبية جدا من العولمة، ففي غالبية الدول الغربية، وفي ما يتعلق بالعاملين ذوي المداخيل العالية فإن الفجوة تقلصت بين اليهود وغير اليهود، ولهذا فإن "الجاليات" اليهودية بحاجة إلى سياسة جديدة لمواجهة هذه الظاهرة.

كما أنه في الآونة الأخيرة باتت تتضح أكثر العلاقة بين المكانة الاقتصادية الاجتماعية العالية، وبين الارتباط الوثيق بالخدمات التي تقدمها مرافق يهودية في العالم، وبالتالي الشعور بالانتماء والتماثل مع اليهودية، وهذا الأمر يلزم التوقف عند تكلفة المعيشة لدى اليهود، ويطرح حاجة ملحة لفسح المجال أمام وصول هذه الخدمات إلى أوسع جمهور ممكن.

ونستعرض هناك مقاطع مركزية من تقرير هذا المعهد.

توزيع اليهود في العالم من ناحية اقتصادية

إن أحد المقاييس الواضحة لمتغيرات طبيعة العمل لدى القوى العاملة اليهودية، هو تركزها الضخم جدا في المدن الكبرى، التي تطورت بفعل الهجرة الخارجية والداخلية إليها. ويظهر من معطيات سنة 2006، أنه في 18 مركزا سكانيا كبيرا في العالم عاش 100 ألف يهودي وأكثر، وهم نحو 75% من مجمل اليهود في العالم، إذ أن 52% من يهود العالم، 8ر6 مليون نسمة، عاشوا في سنة 2006 في خمس مراكز مدن فقط، وهي: تل أبيب ونيويورك والقدس ولوس أنجلوس وحيفا.

وفي المرتبة الثانية وجدنا 25% من يهود العالم يعيشون في المدن التالية، حسب كبر تواجدهم فيها: جنوب فلوريدا وبئر السبع وباريس وشيكاغو وبوسطن وسان فرانسيسكو ولندن وتورنتو وواشنطن العاصمة وبوينس آيرس وبولتيمور وديترويت.

واحتلت العواصم والمدن التالية موسكو ومونتريال وكليفلاند وأتلانتا مرتبة متأخرة، إذ في كل واحدة منها عاش أقل من 10 آلاف يهودي.

يتبين من خلال مسح لتوزيعة اليهود الجغرافية التفصيلية في 160 دولة من العالم، أن اليهود يسكنون في 70 منطقة اقتصادية، هي بالأساس في دول الاتحاد الأوروبي وفي الولايات الأميركية الخمسين، وفي أكبر مناطق روسيا.

وحتى سنة 2000، كان 89% من اليهود في العالم يعيشون في دول الخُمس الأعلى اقتصاديا، في الترتيب العالمي، وتشمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإسرائيل.

يذكر في هذا المجال أن هذه الحقيقة هي أحد أهم الأسباب التي أدت إلى تراجع هجرة يهود العالم إلى إسرائيل، بمعنى أن الحافز الاقتصادي لدى هؤلاء كي يهاجروا إلى إسرائيل لم يعد موجودا، ولهذا فإن الوكالة اليهودية ومعها إسرائيل تبحثان عن محفزات جديدة تجعل يهود العالم يهاجرون إلى إسرائيل، لكن حتى الآن لا تظهر مثل هذه المحفزات، في حين أن الهجرة إلى إسرائيل في تراجع مستمر.

وفي العام الماضي وصل إلى إسرائيل حوالي 18 ألف مهاجر، لكن في المقابل فإن حوالي 12 ألف يهودي غادروا إسرائيل كمهاجرين.

تغييرات في البنية الاقتصادية

إن التغير المهم الذي بالإمكان ملاحظته عند يهود الشتات بشكل عام، حسب التقرير، هو الانتقال الدائم من العمل كمستقلين إلى العمل كأجيرين. وعلى الرغم من هذا فإن مكانة المستقلين لا تزال تبرز في تفوقها على المستوى العام بالمقارنة مع الجمهور في كل واحدة من الدول التي يتواجد اليهود فيها.

ومن المتغيرات أيضا أن مشاركة اليهود كموظفين في المؤسسات العامة والمنظمات الوطنية وما شابه في تلك الدول، باتت أكبر بكثير مما كان عليه الوضع في الماضي، إذ كانت تقليديا مشاركة ضعيفة، مما يعني مشاركة أوسع لليهود في الحياة العامة لتلك الدول، وفي دول مركزية هناك بروز واضح للدور الإداري لليهود في هذه المؤسسات، نظرًا للمؤهلات الجامعية التي يحملونها، والمكان الأبرز لهذا هو الولايات المتحدة، بحسب التقرير.

ومن المتغيرات أيضا تراجع المشاركة في أعمال ليست مرتبطة بالضرورة بالكفاءات العلمية، ففي فرنسا انخفضت نسبة اليهود العاملين في قطاع المبيعات من 21% في سنة 1970 إلى 9% في سنة 2002. ونرى انخفاضا مماثلا في الولايات المتحدة، ففي سنة 1990 كانت نسبة الرجال العاملين في قطاع المبيعات 24% ونسبة النساء 41%، وانخفضت هذه النسبة في سنة 2001 إلى 23% بين الرجال، و28% بين النساء.

إن ما كان يميز القوى العاملة اليهودية في العالم هو العمل كمستقلين، فمثلا في المكسيك كان 63% من اليهود في سنة 1991 يعملون كمستقلين، بمن فيهم أصحاب الشركات، لكن هذه الميزة تشهد تراجعا متواصلا، بسبب العولمة التي انعكست سلبيا على ذوي المصالح المتوسطة والصغيرة.

أربعة جوانب أساسية

إلى جانب هذا هناك أربعة جوانب اقتصادية اجتماعية مثيرة للاهتمام تتعلق بالأوضاع الاقتصادية الاجتماعية لليهود في العالم في السنوات الأخيرة.

الجانب الأول، يتعلق بتأثيرات العولمة الاقتصادية، وموجات التحركات الاقتصادية الوطنية في كل واحدة من الدول التي يتواجد فيها اليهود، على الجاليات اليهودية، والضربة الأساسية من هذه التأثيرات تلقاها اليهود أصحاب المصالح الصغيرة والمتوسطة، الذين أثبتوا نجاحهم في الماضي، لكنهم اليوم معرضون لخطر كبير، في أعقاب اشتداد المنافسة في الدول الأقل تطورا من الناحية الاقتصادية.

مثلا حين يحل الاستيراد مكان الصناعة المحلية، فإن على هذه الأخيرة أن تجد بديلا واقعيا لتسويقها، والاقتصاد اليهودي تأثر بشكل كبير في الدول التي كانت تعزز إنتاجها المحلي، ثم فتحت أسواقها دون قيود للإنتاج العالمي، وأكبر نموذج لهذه الظاهرة نجده في دول أميركا اللاتينية، وغيرها من الدول.

مثلا في المكسيك كان 63% من اليهود في سنة 1991 يعملون كمستقلين، بمن فيهم أصحاب الشركات، ولكن هذه الميزة تشهد تراجعا متواصلا، بسبب العولمة التي انعكست سلبيا على ذوي المصالح المتوسطة والصغيرة.

وهذا الأمر أدى إلى توجه الكثير من اليهود إلى نشاط اقتصادي بديل، وبالتالي انعكس الأمر على مداخيلهم المالية، وفي أعقاب هذا رأينا أن مداخيل حاملي الشهادات والمؤهلات الجامعية العالية باتت أعلى مما كان متوقعا لها، وفي المقابل فإن أصحاب المصالح الإنتاجية المتوسطة، الذين كان يتوقع لهم ازدهار كبير، أصبحت مداخيلهم أقل من المتوقع لها.

وبالتالي فإن الفجوة التي كانت قائمة بين مداخيل اليهود وبين معدل المداخيل في كل واحدة من الدول التي يقيمون فيها، تقلصت في السنوات الأخيرة.

الجانب الثاني، يتعلق بالمراحل الأخيرة، وعلى ما يبدو النهائية، لارتقاء الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية لليهود في دول العالم. في الماضي كانت غالبية المهاجرين اليهود في العالم ذات خلفية فقيرة، وتواجه منافسة شديدة، وبالأساس منافسة اليهود أنفسهم، أما اليوم وبوصول هؤلاء إلى القمة الاقتصادية، فإن الطموح الأساس لدى الكثير من العائلات اليهودية هو ليس زيادة الغنى المالي بل المحافظة على ما هو قائم، والحفاظ على المستوى المعيشي العالي الذي حققوه.

وهذا يتطلب إستراتيجية مخالفة لتلك التي كانت في الماضي، الذي كان فيه اليهود في مكانة وضيعة وملاحقين، ولأن ظاهرة الارتقاء الاقتصادي الاجتماعي نجدها أيضا لدى أقليات أخرى تعيش ضمن مجموعات سكانية كبيرة.

الجانب الثالث، يتعلق بتوزيع الموارد غير المتساوي بين اليهود، فظاهرة الفقر ومعالجتها في الدول النامية وإسرائيل احتلت مكانة مركزية، وإحدى الظواهر الأكثر انتشارا هي الفجوات الاجتماعية، والمستوى المعيشي المستفحل، والناجم عن الفجوات في المداخيل، بين ذوي المداخيل العالية والمتدنية.

لكن اختلاف احتساب خط الفقر في الدول المختلفة، وخاصة في الولايات المتحدة، يخلق صعوبة في التوصل إلى معطيات دقيقة حول مدى الفقر بين اليهود في أماكن كثيرة في العالم. وعلى الرغم من أن الفقر هو نسبي إذ ما قارنا بين الدول المختلفة، فهذا لا يعني عدم وجود فقر فعلي وقاطع بين اليهود، وهذا يتعلق بالأساس بالمهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي السابق وأثيوبيا.

إن السياسة الإسرائيلية التي تقضي بالاستمرار في استقدام أبناء قبيلة الفلاشمورا (التي ترفض المؤسسة الدينية يهوديتها ولكن لها علاقات عائلية مع مهاجرين من قبيلة الفلاشا)، أنقذت آلاف الأثيوبيين من الضائقة، ولكنها أضافت إلى إسرائيل آلاف الأشخاص الذين يعانون من فقر كامل، وهذا يضاف إلى الفقر بين اليهود الحريديم (الأصوليين) والعرب في إسرائيل، بسبب قلة مشاركتهم في سوق العمل.

والجانب الرابع يتعلق بمسألة الشعور بالانتماء اليهودية، وعلاقة هذا بالمستوى الاقتصادي الاجتماعي، إذ أظهرت أبحاث سابقة أنه كلما ارتفع المستوى الاقتصادي الاجتماعي لليهود في دول ما، فإن اندماج هؤلاء في مجتمعات تلك الدول كان أكبر، مقابل ضعف العلاقة والشعور بالانتماء للجاليات اليهودية.

لكن أبحاثا جرت لاحقا أظهرت علاقة معقدة بين المكانة الاقتصادية الاجتماعية وبين الانتماء لليهودية، وهذا بسبب تكلفة الانتماء لجاليات يهودية منظمة، إذ أنها تكلفة باهظة، وهذا يؤدي إلى ابتعاد ذوي المداخيل الأقل عن تلقي خدمات يهودية، إلا إذا تم الحصول على تخفيضات ملائمة في هذا المجال، يتم تمويلها إما من خلال يهود من نفس الجالية أو من جهات خارجية.

ويعني هذا أن المشهد الحالي بالنسبة للشعور بالانتماء لليهودية قد انقلب، أي أن الشعور بالانتماء والتوجه للحصول على الخدمات اليهودية (دينية واجتماعية) أصبح من نصيب ذوي المداخيل العالية وليس العكس، كما كان في الماضي.