منبر "المشهد": إلى أين انتهى بنا المطاف

في الرابع والعشرين من شهر تموز الفائت (2007)، طلع علينا ملحق "المشهد الإسرائيلي" بمقابلة مطولة مع الدكتور ثابت أبو راس، المحاضر في قسم الجغرافيا في جامعة بن غوريون والخبير في شؤون المواطنين العرب في النقب.

إن المطالع لديباجة المقابلة لا يسعه إلا أن يشعر بانجذاب كبير نحو مضامين المقابلة. فالوارد في هذه المقدمة أمر معروف لجميع من يتابع شؤون المواطنين العرب في النقب وآليات تعامل السلطات الإسرائيلية معهم. خاصة ذلك التحذير من الانفجار القادم الذي لا يشك أحد في حتمية حصوله إذا ما استمرت سياسة السلطات على ما هي عليه الآن. لكن مضامين المقابلة تأتي على النقيض، شبه التام، من مضمون المقدمة بل إن التوجه العام للشخص المقابل والتعابير والتحليلات والتفسيرات التي يعرضها لا تبعد، بل تتجاوز في بعض الأحيان، التوجهات الاستشراقية المعروفة والمستشرية في مؤسسة الاستشراق العالمية. وكي لا نكون ظالمين ومجحفين بحق الدكتور أبو راس، الذي سجلت له حتى الآن مواقف وخبرة ومعرفة في شؤون المواطنين العرب في النقب، سنعمل على عرض بعض الأخطاء التي وقع فيها مدعمين ما نقوله بأدلة مما جاء في أقواله راجين أن يكون ما ورد هو زلة لسان أو "إخراج للنص عن سياقه"، كما يحلو للبعض القول بعد كل مقابلة من هذا القبيل.

من الفقرة الأولى للمقابلة لا يسع القارئ إلا أن يلاحظ التناقض البارز في توظيف الدكتور أبو راس للمصطلحات، خاصة تلك التي تصف المواطنين الفلسطينيين العرب في النقب. ففي بداية الفقرة الأولى يبدأ بالإشارة إلى "المواطنين العرب في النقب" وهو ثم يصفهم بعد ذلك "ببدو النقب" ثم يعرض للمشاكل التي يعانيها أولئك فيخلط بين الحابل والنابل، خاصة عندما أخرج المواطنين العرب في النقب، بقصد أو غير قصد، من قائمة المجتمعات المتمدنة التي نسيت شاكلة مشاكلهم منذ زمن طويل، تاركا للقارئ فهم صعوبة ما يرمي إليه وما إذا كان ذلك مفروضا عليهم أم أنهم مسؤولون عن بعض هذه المشاكل كالزيادة الطبيعية مثلا.

في الفقرة الثانية يورد المقابل بعض الإحصائيات عن المواطنين العرب في النقب ويذهلنا عندما يتحدث عن أن المواطنين العرب يطالبون بتملك نحو 750 ألف دونم وكأنهم لا يملكونها أصلاً. وكل قارئ نبيه يفهم، من أقواله، أن المشكلة تنحصر بمطالبة المواطنين العرب بالتملك وليس بسعي السلطات الإسرائيلية لنزع الملكية عنهم.

في إجابته حول ملكية الأراضي وملابساتها يلج الدكتور أبو راس إلى باب السياق التاريخي الذي يبدو أنه غير متمكّن منه خاصة في كل ما يتعلق بشكل العلاقات التي كانت سائدة في الفترتين العثمانية والبريطانية ولو كان قد طالع كتاب الجغرافي الدكتور غازي فلاح "الفلسطينيون المنسيون" (1) لكان قد اطلع على ماهية وشكل تلك العلاقات بشكل كان يمكن أن يجنبه الوقوع في غائلة التعميم وشرك عدم الدقة. فالتعميم في هذا المجال بالغ الخطورة فكلنا يعرف أن السكان العرب في النقب ما كانوا مرة متجانسين من حيث نظم العيش والأخذ بأساليب الحداثة أو الانتقال من البادية إلى الحضر.

هذا إذا أضفنا لذلك التجاهل الغريب من قبل الدكتور أبو راس لوجود مدينة عربية في النقب هي مدينة بئر السبع والتي بناها العثمانيون في بداية القرن العشرين وكانت مثالاً للمدينة الحديثة بل الحاضرة المدنية لمنطقة كاملة وقد سكنها أيضا الكثير من أبناء القبائل البدوية وغيرهم من أبناء منطقتي غزة والخليل والذين بلغ تعدادهم حسب آخر تقرير في 31 كانون أول 1946، 6490 نسمة (فلاح، 1989، ص 89). وهكذا وصف فلاح كيف خططت الحكومة التركية مدينة بئر السبع:

ولقد خططت الحكومة التركية، مدينة بئر السبع، تخطيطا حديثا ليلائم حاجات البدو، مثل بناء بيت كبير، وحوله مساحة كافية توفر الاستقلالية، ففي المرحلة الأولى تم تخطيط مساحة قدرها 500 دونم، وقسمت المساحة الى 60 مترًا، ويفصلها عن بعضها عشرة شوارع متوازية، ذات عرض 15 مترًا (...) سجل بعض الشيوخ البدو قسائم أرض للسكن بأسمائهم. وكان من بين أولئك الشيوخ، الشيخ حماد الصوفي، والشيخ حسن الملطعة، والشيخ علي العطاونة وابنه حسن، والشيخ حسن أبو عبدون، والشيخ أبو غليون، والشيخ حسين أبو كف، والشيخ سويلم بن عرفان وغيرهم (فلاح، 1989، ص. 95-96).

ولم يقتصر ذلك على السكن بل على تملك آلاف الدونمات بشكل ينقض حتى الأساس تلك المقولة الممجوجة التي يرددها أساطنة الاستشراق حول ميل المواطنين في النقب إلى عدم التملك أو اعتماد اتفاقيات شفوية أو حجج احتفظ بها أصحابها ولم يسجلوها في دائرة الطابو.

إننا في ذلك لا نقلل من أهمية تلك الوثائق بل ندعو الدكتور أبو راس وغيره من متجاهليها أن لا توقعهم عدم معرفتهم بوجودها في فخ التعميم وعدم الدقة واستيفاء العبر التي يمكن أن تضر المواطنين في قضيتهم أكثر من حرمانهم الكهرباء والماء والخدمات. إن إيراد بعض المعطيات غير الوافية عن بعض الخطوات الفردية والمجزوءة للسلطات العثمانية والبريطانية والإسرائيلية يمكن أن يسبب تشويهاً للصورة المعروضة ولشكل العبر المستقاة من خلال تحليلها. كما أن عدم التدقيق في إيراد التفاصيل والجزيئات الصغيرة قد يضر هو الآخر بالشكل النهائي للصورة المعروضة عن وضع العرب في النقب. فعلى سبيل المثال ذكر اسم "القديرات" على اعتبار أنه عشيرة والصحيح أن "القديرات" هو صف ائتلاف مجموعة من العشائر وكان الحري بالمقابل أن يوضح للقراء الحقائق كما هي لأن ذكرها ناقصة أو مشوهة يمكن أن يحيد بالقارئ عن الفهم الصحيح والدقيق لحقيقة الأمور. والأشد من ذلك هو عدم الدقة في إيراد تفاصيل ملكية بعض العائلات المختلفة للأراضي فبعض هذه العائلات، التي اعتبرها الدكتور أبو راس "بدوا غير أصليين" لا يملكون أراضي كعائلة النصاصرة، والعمور، وأبو عرار، والزبارقة والسيد والقريناوي (2). إن الدخول بحد ذاته لتعريف "بدو أصليين/ سمران" و"بدو غير أصليين/ حمران" هو أمر في غاية الخطورة، ناهيك عن أنّ عدم الدقة في تسجيل ملكية هؤلاء لآلاف الدونمات التي أثبت بعضها في السندات الرسمية هو أمر أنكى وأمر.

والأمر المثير للغرابة والدهشة ذلك الفصل الذي يقوم به الدكتور أبو راس بين " بدو الجنوب" حسب رأيه و"فلسطينيي الشمال" وكأن بدو الجنوب لا يتحلّون بدائرة الانتماء الفلسطيني. والأغرب من ذلك كله الادعاء بعدم امتلاك عائلات كثيرة من عشائر أبو سريحان، أبو ربيعة، والعقبي، والصانع، والأسد وغيرهم لأوراق ثبوتية وهو أمر يمكن نقضه بسهولة من خلال إيراد الوثائق الموجودة بأيدي بعض أبناء هذه القبائل.

إننا إذ نوافق الدكتور أبو راس فيما قاله حول قضية عبرنة المجال وإطلاق مسميات عبرية على مناطق وقرى ومجمعات عربية فإننا نعجب لحديثه عن بقايا مساجد دون التطرق للمسجد الكبير في بئر السبع والذي طبقت شهرة قضيته الآفاق.

إن إدعاء الدكتور أبو راس بعدم توثيق التاريخ والمؤرخين الفلسطينيين لقضايا العرب في النقب هو إدعاء صائب وصحيح وهناك حاجة لبذل جهود مضاعفة في هذا المجال ولكن يجب أن لا يكون ذلك مبرراً لاختلاق حوادث تاريخية لم تحصل قطعا أو على الأقل لا تتوفر أية إثباتات دامغة حولها. وهكذا ادعى الدكتور أبو راس "لم يكن صعبًا على السلطات الإسرائيلية أن تدفع بعض المال لشيخ العشيرة مقابل أن يرحل هو وعشيرته إلى الأردن. وقد حدث هذا الأمر فعلا لدى بعض العشائر" (فقرة رقم 5). فالتعميم القائل بأن بعض المشايخ قد باعوا ذممهم لقاء مبالغ من المال وقاموا بالرحيل إلى الأردن لقاء ذلك هو أمر بحاجة إلى إثبات ولا يجوز بأي شكل من الأشكال أن نخبط به خبط عشواء تحت ادعاء عدم توثيق المؤرخين لهذه التفاصيل.

في الفقرات التي عرض فيها الدكتور أبو راس لقضية القرى غير المعترف بها (3) خلط بين الواقع والمصطلح وبدلاً من أن يتحدث عن نشأة المصطلح وانعكاساته وإسقاطاته، وهو أمر جدير بالتقصي، تحدث عن نشأة القرى غير المعترف بها دون أن يذكر من أية جهة جاء عدم الاعتراف لا سيما وأن القرى ناشئة وموجودة قبل وجود منكرها.

إن التعميم الوارد في الأقوال جلها يعطي شعورا لدى القارئ بأن تطور العمليات الجارية لدى السكان العرب في النقب يأتي بشكل واضح وحاسم ومحدد وتزامن بين المكونات المختلفة للمجتمع العربي هناك. علما بأن الأخذ بأسباب الحداثة كأن قد بدأ منذ بداية القرن العشرين مع تأسيس مدينة بئر السبع وجعل العثمانيين لها مركزا إداريا وقضائيا للسكان العرب في النقب. وقد عيّنت الحكومة التركية الرئيس الأول لبلدية بئر السبع، الشيخ الحاج علي العطاونة وبقي رئيسا للبلدية حتى وفاته العام 1922. فالبيوت الحجرية التي يدعي أبو راس أنها بنيت في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات تواجد بعضها منذ بداية القرن العشرين. فالزائر لبقايا بئر السبع العربية ولتلة أبو محفوظ "تل السبع" ولبقايا قرية الشريعة وخربة اللقية وبيوت عائلة أبو سريحان يستطيع أن يشاهد عن كثب ويكتشف عن عملية الأخذ بأسباب التحديث الذي كان على مراحل متفاوتة ولم ينشا فجأة كما نفهم من هذه المقابلة، لا سيما وأنه يشير في بعض اللمحات القليلة لذلك، علما بأن تقسيم البدو إلى "أصليين" و"غير أصليين" أو "بدو سعوديين" أو "بدو أردنيين" أو "بدو سوريين" هو أمر غير دقيق من أساسه فالفوارق بين التجمعات السكانية المختلفة ليس حكرا لفئة عن الأخرى بل إن العرب البدو أينما كانوا هم جزء لا يتجزأ من المحيط العام الذي يعيشون فيه وقد كانت هناك عملية انتقال دائمة في الاتجاهين بين طابع حياة البدو الرحل وبين شبه الرحل الذين يقيمون فصولاً من السنة في أماكن سكن دائمة وفصولا أخرى في بيوت الشعر أو الخيام والعزب.

يبدو التناقض في أقوال أبو راس واضحا في أكثر من موقع خاصة فيما يتعلق بتوصيفاته لإشكال البداوة المختلفة كما أن الأمثلة التي يسوقها لدعم أقواله تعاني بشكل كبير من عدم الدقة وقد تثبت العكس كما هو الحال في مثال عائلة أبو كشك والتي تركت حالة البداوة في العقد الأول من القرن العشرين وأقامت لها قرى في حوض نهر العوجا وأرض المر في قضاء يافا ومثلهم فعل عرب أبو الفضل من قضاء الرملة.

وفي خلال محاولة الدكتور أبو راس لتوصيف شكل العلاقة بين العرب في النقب والمجتمع الإسرائيلي نراه يتبنى بشكل شبه كامل النظرة الاستعلائية لممثلي السلطات الإسرائيلية التي تتحدث عن نسبة الإنجاب الكبيرة لدى العرب في النقب بقصد الفوز بمخصصات التأمين الوطني أو توصيفه لحالات الارتزاق من الأعمال المخلة بالنظام والسرقة، وهكذا وصف الدكتور أبو راس الوضع الراهن لعرب النقب بشكل يزخر بالمغالطات والتشهير والإدعاءات الباطلة وغير الصحيحة:

"... الكثير من مواشي عرب النقب يصل إليهم بشكل غير قانوني وكذلك بالنسبة لملابسهم والتبغ الذي يدخنونه. كل هذه السلع تصلهم مهربة من سيناء... وما لا تفهمه السلطات في إسرائيل هو أنه لم يعد أمام عرب النقب سوى غزو وسط إسرائيل وأعني منطقة تل أبيب الكبرى. وفعلا هناك مؤشرات لتصاعد أعمال الجنوح في وسط إسرائيل حيث تزايدت السرقات....وواضح أن السرقة هي أحد المجالات التي يعتاشون منها" (فقرة رقم 15).

الدكتور أبو راس يسوق بعض الأمثلة المستقاة من الفولكلور لإثبات جملة من الآراء المسبقة الرائجة في المجتمع الإسرائيلي والتي عادة ما تستخدمها الأغلبية المهيمنة لكسر شوكة الأقليات المهضومة الحقوق. وذلك من خلال نزع صفاتها الأخلاقية والإنسانية. فعلى سبيل المثال جاء على لسانه في ختام المقابلة ما يلي:

"اليهود يمتنعون عن القدوم للنقب للسكن فيه وهناك هجرة سلبية من النقب بسبب صورة النقب في أذهان اليهود وفي صلبها أنه يوجد الكثير من الجانحين. وهذا صحيح إلى حد ما. من جهة ثانية هناك عصابات بدوية تأخذ أتاوة من أكبر ضباط في الشرطة والجيش [الإسرائيلي] ولعرب النقب حضور قوي في مدينة بئر السبع ومحيطها ولا أحد يعرف كيف سيواجه هذا الوضع.... وعندما يقع شجار في بئر السبع تسعى الشرطة إلى الصلح ولا تقوم باعتقال بدو بتاتا. وهناك مناطق في النقب لا تدخلها الشرطة وخصوصا في ساعات الليل لأن أفرادها سيتعرضون لإطلاق النار. هذه المناطق تعتبر مكانا للعشيرة لا تستطيع الشرطة دخولها ولا أحد يدخلها غير أبناء العشيرة... والسلطات [الإسرائيلية] لن تعرف كيف تتعامل مع البدو سوى باستخدام القوة وعندها سيصبح الوضع صعباً للغاية" (فقرة رقم 18).

هذه الأقوال والمفاهيم والمضامين الاستشراقية، الاستعلائية في بعض الأحيان، والتي طرحها د. أبو راس عن عرب النقب تعزز المواقف والآراء المسبقة لجمهور الأغلبية وسلطاته الفاعلة تجاه العرب في النقب ومن المتوقع أن تصعب من عملية إزالة الغبن عنهم .

_____________________________

* البروفيسور إسماعيل أبو سعد- محاضر في "جامعة بن غوريون" في بئر السبع ود. مصطفى كبها- محاضر في "الجامعة المفتوحة".

هوامش:

1- غازي فلاح (1989) الفلسطينيون المنسيون: عرب النقب 1906- 1986، الطيبة: مركز إحياء التراث العربي.

2- في نهاية الستينيات أصبحت هذه العائلات قبائل.

3- هذه القرى لا تظهر على الخرائط الرسمية لدولة إسرائيل ولا تتضمنها أرقام المكتب المركزي للإحصاء.