إلا النكبة

أثار قرار وزيرة التربية والتعليم الإسرائيلية، البروفيسور يولي تامير (العمل)، السماح بأن يشمل كتاب تاريخ للتلاميذ العرب في الصف الثالث الابتدائي مصطلح "النكبة" بدلاً من "حرب التحرير (الإسرائيلية)"، كما كان متبعًا على مدار ستة عقود، عاصفة من الردود الغاضبة في صفوف الوسط واليمين في إسرائيل.

ودعا بعض نواب اليمين رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود أولمرت، إلى إقالة تامير فورًا وأعادوا إلى الأذهان قرارًا سابقًا للوزيرة نفسها بأن تشمل الخرائط التي يستعين بها التلاميذ "الخط الأخضر" الفاصل بين مناطق العام 1948 ومناطق العام 1967.

ورأى نواب اليمين في القرار "تحريضًا على إسرائيل" و"مناهضًا للصهيونية" حتى أن وزيرة التربية والتعليم السابقة ليمور ليفنات (الليكود) رأت أنه "يحمل الطلاب على الاستنتاج أنه ينبغي العمل ضد دولة إسرائيل ويحثهم على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي".

وعزا وزير "الشؤون الإستراتيجية"، أفيغدور ليبرمان (يمين متطرف)، قرار الوزيرة إلى "عقدة اليسار الصهيوني وانهزاميته وبحثه المتواصل عن الأعذار عما كان واجبًا علينا القيام به". ودعا اليسار إلى الكف عن "جلد الذات". واعتبر وزير التعليم السابق، النائب اليميني المتشدّد زبولون أورليف، قرار الوزيرة "نكبة لجهاز التعليم الإسرائيلي" وقال إن تامير "تشطب بقرارها تاريخ الشعب اليهودي وتكفر بإسرائيل كدولة يهودية وتمنح العرب شرعية عدم الاعتراف بإسرائيل دولة للشعب اليهودي".

إذا كان من الصعب، من باب المعقولية السياسية، اعتبار المؤسسة الإسرائيلية بمثابة "صخرة أو كتلة صمّاء"، فإنها في الموقف من ذاكرة النكبة تتصرّف كصخرة/ كتلة صمّاء، وليس من المجازفة القول إنه لا فرق كبيرًا في ذلك بين اليميني واليساريّ الصهيوني، لأن هناك قاسمًا مشتركًا يجمع كل هؤلاء هو إنكار النكبة، وبالتالي ابتذال ذاكرتها الفلسطينية وسِواها.

وقد كنا، في الفترة الأخيرة فقط، شهودًا على نموذجين يؤكدان ما نذهب إليه:

* النموذج الأول- ما كتبه غلعاد شارون، أحد النجلين الفاسدين لأريئيل شارون، في مقاله الذي ظهر في "هآرتس" يوم 25 نيسان 2007 (غداة "يوم الاستقلال" الإسرائيلي). وممّا جاء فيه: هناك قضايا كبرى تواجهها إسرائيل أهم من قضايا الفساد المالي والأخلاقي، وهي قضايا ذات صبغة إستراتيجية محضة. وقد تمحور في قضية واحدة من هذه القضايا الإستراتيجية هي، بحسب تعبيره، "إسرائيل والمواطنون العرب" ليخلص منها إلى نتيجة مؤداها أنه لا ينبغي أن يعلو صوت على صوت يهودية إسرائيل.

وفي عرف شارون الابن فإن حقيقة كون العرب مواطنين في إسرائيل لا مواطنين في دولة عربية، هي خطأ تاريخيّ يقترح تصحيحه باستبدال مواطنة عرب أم الفحم، باقة، الطيبة، جلجولية، كفر برا الخ حتى كفر قاسم، بما يشملها أيضًا.

* النموذج الثاني- ما كتبه الأستاذ الجامعيّ والمدير العام الأسبق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، البروفيسور شلومو أفينيري، أيضًا في "هآرتس"، في 10 أيار 2007، ودعا فيه إلى الإنصات النقديّ إلى ما سيقوله الفلسطينيون عند إحياء يوم النكبة. وممّا قاله في هذا الشأن: إلى جانب الفهم والتعاطف الإنساني مع معاناة الفلسطينيين، يمكن طرح عدة علامات استفهام بشأن الطريقة التي يتمّ بواسطتها عرض النكبة في الرواية التاريخية الفلسطينية والعربية. فهي تعرض كأمر سيء ورهيب حلّ بالفلسطينيين من غير قدر ولو بسيط من التأمل الداخلي والنقد الذاتيّ والجاهزية لمواجهة مساهمة الفلسطينيين أنفسهم في نكبتهم.

وأضاف: ليس من المبالغة القول إنه لن يتم التوصل إلى تسوية حقيقية بين إسرائيل والفلسطينيين دون أن يكون لدى الأخيرين استعداد، ولو جزئي، للاعتراف بأنه كان لهم قسط في المسؤولية عما حدث معهم في العام 1948.

إنّ ما كتبه غلعاد شارون ينطوي على استبطان لإرث شارون الأب السياسي.

وسبق لتوم سيغف، المؤرخ والصحافي الإسرائيلي، أن كتب فور دخول أريئيل شارون في غيبوبته التي لم يستفق منها أن "ابن المزارعين من كفار ملال (يقصد شارون الأب) لم ير في الجيوش العربية خطرًا على إسرائيل، فالخطر الأكبر كان يتبدّى له من العرب المقيمين في أرض إسرائيل". ووفقًا لسيغف فقد قال شارون ذات مرّة: "إنني لا أكره العرب، ولكنني على وجه اليقين أؤمن عميق الإيمان بحقوقنا التاريخية على أرض إسرائيل، وهذا يفاقم بشكل طبيعيّ من موقفي تجاه العرب".

شارون لا يختلف في ذلك عن غيره من القادة الصهاينة الذين تساجلوا حول ما سمي بـ"المشكلة العربية" ودرسوا عدة احتمالات لـ"حلّها" لكنهم أجمعوا على مبدأ أساس، هو أرض أكثر وعرب أقلّ!

ونحن نعيش، هذه الأيام حصرًا، ذروة جديدة في هذا العداء المتأصل لعرب البلاد.

في العدد الأخير من مجلة "الأمة" (آذار 2007) الصادرة عن مَحفِل (أو مَجْمَع) زئيف جابوتنسكي، عاد وصف العرب بأنهم قنبلة موقوتة، وهي أخطر أضعافًا مضاعفة من القنبلة التي يعدها حاكم إيران أو من الصواريخ التي يطلقها ويسقطها نصر الله من لبنان واسماعيل هنية من غزة.

وهذه المجلة هي لحزب (الليكود) مرشح لأن يصبح حزب سلطة.

ونصادف فيما كتبه شلومو أفينيري نصّا كلاسيكيًا لمحاولة إسرائيل أن تلقي عن كاهلها المسؤولية الرئيسة عن النكبة (لا يعني هذا انتفاء ضرورة التوقف النقدي أمام أحداث النكبة).

ويطرح السؤال: ما الذي يقف وراء هذا الموقف الإسرائيلي الإجماعي الأصّم من النكبة وذاكرتها؟ وكذلك من القضايا التي ترتبت عليها؟.

تقف وراء هذا الموقف عوامل عديدة، لعل أهمها عامل المحورية القومية، أو التمركز حول الذات... ونتيجة له فإن الحديث عن النكبة لا يتمّ تحت إغراء السؤال بشأن الآثار التي تركتها على الشعب الفلسطيني؟ وإنما حول ما يمكن أن تلحقه ذاكرتها من أذى بصورة إسرائيل والمشروع الصهيوني برمته...

وعامل المحورية القومية راسخ في الممارسة الصهيونية، منذ وجدت، وفي ممارسة إسرائيل. وهو يحيل إلى ما يعرف بـ"تقنية المرآة"، أي إنعام النظر في الآخر كما لو أنه "صورة طبق الأصل عن الذات"، ما يفتح المجال واسعًا أمام التخيّل والإسقاط اللذين تعوزهما الصدقية.

وإن التخيّل والإسقاط لا يزالان "سيّد الموقف" في التعامل الإسرائيليّ مع ذاكرة النكبة.

وفي القضية الأخيرة التي تتعلق بالتلميذ العربي ثمة ما يستدعي التوكيد، إضافة إلى ما تقدّم. وهو على صلة بمسألة عنصري التذكر والنسيان وضرورة أن يكونا مشتركين للجميع داخل إسرائيل.

إنّ العاصفة ضد قرار تامير هي في العمق محاولة لترسيخ هدف التعليم الصهيوني الخاص بالطالب الفلسطيني، الذي لا ينفك سائرًا في وجهة تعميق سيرورة بلورة ذاكرة مشتركة إسرائيلية الشكل والمضمون، المبنى والمعنى، وفي موازاة ذلك في وجهة تكريس سيرورة نسيان مشترك للذاكرة "المضادة" والتاريخ "المضاد" في القراءة الإسرائيلية (الذاكرة الفلسطينية والتاريخ الفلسطيني).

وفي واقع الأمر فإن النسيان هنا هو نسيان حصري يخصّ الأجيال الفلسطينية فحسب، نظرًا لأن مثل هذا النسيان لا يعدو كونه أكثر من تحصيل حاصل الذاكرة المشتركة بالنسبة للأجيال اليهودية الإسرائيلية.