ما لم تدركه لجنة فينوغراد- الفكر العسكري المسيطر على إسرائيل أهم وأقوى مما يعبّر عنه الجيش!

د. ياغيل ليفي مؤلف كتاب "من جيش الشعب إلى جيش الضواحي": المشكلة في حرب لبنان الثانية لم تكن عملية اتخاذ القرارات في الحكومة وليس رئيس هيئة الأركان العامة دان حالوتس أيضا. إن ما عكسته هذه الحرب هو عمليات اجتماعية عميقة وتغيّر في مكانة الجيش الإسرائيلي

كتب نير برعام:

يصعب التفكير بتوقيت أكثر ملائمًا لصدور كتاب الدكتور ياغيل ليفي "من جيش الشعب إلى جيش الضواحي" (منشورات كرمل)؛ وهو كتاب يعالج التغييرات التي مرّت على الجيش الإسرائيلي في السنوات الأخيرة من زوايا نظر غير متوقعة، وقد تمت طباعة الكتاب بالضبط في الأيام التي صدر فيها تقرير لجنة فينوغراد الذي تضمن انتقادات شديدة لأداء الجيش الإسرائيلي الحالي وقادته، والاستعداد لإحياء الذكرى السنوية الأربعين لحرب الأيام الستة وربما لذكرى النصر الأكثر سطوعا لـ"ذاك" الجيش الإسرائيلي، الذي كان هنا ذات مرة ولم يعد موجودا أكثر.

يطرح كتاب ليفي، الباحث والأستاذ في قسم علوم الإدارة والسياسات العامة في جامعة بن غوريون في النقب، سلسلة من الحقائق اللاذعة والمفاجئة حول المكانة المتغيرة للجيش الإسرائيلي داخل المجتمع الإسرائيلي، وحول تأثير الأيديولوجية الرأسمالية بخصوص "قوى السوق" على ما كان يسمى بـ"جيش الشعب"، وعلى التركيبة العرقية المتغيرة للجيش الإسرائيلي.

وقد التقينا لنتحدث عن الكتاب وعن الجيش الإسرائيلي بعد حرب لبنان الثانية والتقرير الأولي للجنة فينوغراد.

(*) سؤال: يتناول الكتاب "خرق المعادلة الجمهورية في إسرائيل". هل يمكنك شرح ما هي "المعادلة الجمهورية"؟

- د. ياغيل ليفي: "يعني مصطلح المعادلة الجمهورية استبدال التضحية العسكرية بحقوق اجتماعية وسياسية واقتصادية يتم منحها للإنسان الذي يؤدي الخدمة وللشبكات الاجتماعية التي ترسله لأداء الخدمة. وهناك أوضاع تشعر فيها المجموعات المضحية بأنها لا تحصل على مقابل مناسب لقاء التضحية، وعندها تنسحب من التضحية أو أنها تضع مطالب جديدة تؤدي إلى توازن المعادلة من جديد. هذا المبدأ مشترك للدول الغربية في الـ200 عام الأخيرة بأشكال مختلفة. وهناك فروق في حجم التضحية وشكل الحقوق، لكن المبدأ هو مبدأ عالمي".

(*) الإدعاء الذي تطرحه في الكتاب هو أن المعادلة الجمهورية لم تعد سارية المفعول بالنسبة للمجموعات (اليهودية) الأشكنازية من الطبقتين الوسطى والعليا، أي أن هذه الطبقات لم تعد بحاجة إلى الجيش لتحقيق المكانة والحقوق والمال. لم يكن الشعور العام على هذا النحو في حرب لبنان الثانية، فالقتلى (الإسرائيليون) في هذه الحرب كانوا من جميع الشرائح الاجتماعية.

- "إن الفرق الوحيد والمهم بين الانتفاضة الثانية وحرب لبنان الثانية هو أنك تلحظ حضورا أكبر خصوصا لأبناء الكيبوتسات. وحتى أن حضور هذه المجموعة في خارطة الثكل خلال حرب لبنان الثانية أكبر مما كان عليه في حرب لبنان الأولى. وهذا المعطى لم يأت صدفة، إذ أنه ثمة عودة لحركة الكيبوتسات في السنوات الأخيرة إلى الخدمة في الجيش.


"وقد تمت مهاجمة حركة الكيبوتسات بسبب غياب المحفز لدى أبنائها، وبدأت في أعقاب ذلك تجمعات داخلية تدعو الشبان إلى التجنيد وتم إنشاء دورات تحضيرية علمانية. كذلك فإن خطة فك الارتباط بثت داخل حركة الكيبوتسات الشعور بضرورة وجود قوة مضادة أمام سيطرة الصهيونية الدينية على الجيش. وأنا أبيّن في الكتاب تجسيدا واضحا لهذا التفسير: في الانتفاضة الثانية، وعلى الرغم من سقوط ضحايا كثيرين من سلاح المدرعات، فإنك ترى أنه لا يوجد قتلى تعود أصولهم إلى حركة الكيبوتسات، فيما هناك تغير ملموس في حرب لبنان الثانية".

(*) ربما هذا هو من قبيل المصادفة؟

- "يصعب افتراض ذلك. أعتقد أنه يوجد هنا تجسيد لمشكلة حركة الكيبوتسات، فهذه حركة مرّت خلال السنوات الأخيرة بتطورات نقلتها إلى الهوامش ولم تعد في مركز المسرح السياسي والاقتصادي وأصبحت تحتاج إلى شرعية بديلة. إنّ حركة الكيبوتسات، خلافا للطبقة الوسطى الأشكنازية، ليست جزءا ساطعا من اقتصاد السوق، أي أنه لا يمكنها الانضمام إلى القطاع الخاص الذي فقد الاهتمام بالدولة ومؤسساتها. ومن جهة ثانية، فإنهم لم يعودوا جزءا من نخب الخدمات. إنها حركة تحتاج إلى شرعية متجددة. وأفترض أن هذا هو السبب في أن الحركة تقترب مجددا من الجيش".


(*) ربما تكمن المشكلة هنا في نظريتك: جائز أن حركة الكيبوتسات تقترب من الجيش لأسباب أيديولوجية ولرغبة في روح جديدة. وجائز أن قسما من الطبقة الوسطى الأشكنازية، المعدودة على اليسار، فقدت اهتمامها بالجيش ليس بسبب المعادلة الجمهورية، وإنما أيضا لأسباب أيديولوجية- حرب لبنان الأولى والانتفاضتان؟


- "الحقيقة هي أنه بينما تستخلص هذه المجموعات عبرا كهذه، فإن المجموعات المسماة عرقية- قومية، مثل المهاجرين من الاتحاد السوفييتي السابق والشرقيين من الطبقة الوسطى وما دون ذلك وأصحاب "القلنسوات المنسوجة" (المتدينون القوميون)، تستخلص عبرا مختلفة تماما. بإمكان اليسار أن يقول اليوم: "إسرائيل لم تعد الآن تحت تهديد وجودي ولذلك فإننا نبتعد عن الجيش". وأنا أعتقد أننا اليوم تحت تهديد وجودي أكبر من سنوات الخمسين. وعموما، فإن السنوات التي كانت فيها إسرائيل في وضع أفضل هي سنوات الخمسين، عندها سيطرت الطبقة الوسطى الأشكنازية على الجيش بالكامل وتماثلت مع أهدافه القتالية.

"وتفسيري هو أنه في سنوات الخمسين كانت هناك صفقة بين الطبقة الوسطى الأشكنازية والدولة، وهكذا تم منح هذه الطبقة ثمار الحرب والمقابل المناسب لقاء الخدمة العسكرية، الأمر الذي لم يؤد إلى نشوء معضلة. غير أنّ المعضلات تصبح أكثر حدّة في حالة وجود ثمن: عندما لا يوجد ثمن، تكون المعضلة ضعيفة أكثر".

(*) ما هي أهمية ابتعاد الطبقات الميسورة عن الخدمة العسكرية؟

- "هذا الابتعاد لا يساعد الجيش. كما أنّ هذا الابتعاد ينشئ كتلة تتبلور خارج الجيش: تنتقده بشدة وتقوض شرعيته. والجيش يخسر في هذه النقطة. وحقيقة أن التحالف العرقي- القومي احتل مكان الطبقة الوسطى منح الجيش قوى بشرية موالية أكثر، وتتماثل مع قيمه. لكن من الواضح تماما أن الجيش كان يفضل الحفاظ على المجموعات القوية في داخله، من دون شروط وعقود جديدة".

(*) إن الثمن الأكبر للخدمة العسكرية هو الموت. وأنت تدعي في الكتاب أن حقيقة أن القتلى في العقد الأخير هم في الغالب من الضواحي يغيّر شكل الاحتجاج.

- "ثمة أهمية، لا يمكن تجاهلها، لتزايد كمية القتلى. ففي الانتفاضة الثانية قُتل 244 جنديا خلال حوالي أربع سنوات. وغالبية الجنود والمواطنين الذين قتلوا خلال هذه الفترة كانوا من المجموعة العرقية- القومية، أي من الضواحي والوسط الديني. وهذه مجموعة تؤدي دورا بالغ الأهمية حيال الشرعية السياسية لعمليات الجيش الإسرائيلي ولا تؤسس كتلة كبيرة من الاحتجاج. ورغم أن المجموعات التي أخذت تضعف تسربت إلى الجيش، إلا أنها عززت مكانتها في تنظيم ضعفت مكانته. أي أن مجموعات الضواحي تكاد لا تربح من الخدمة العسكرية لأن الجيش، خلافا لما كان عليه في الماضي، لم يعد قادرا على منحها إنجازات حقيقية إلا في الهوامش.

"لكن هذه المجموعات ما زالت تعتقد بأن مجرد الخدمة العسكرية يمنحها خشبة قفز، وهذا الاعتقاد يندمج مع توجه عرقي- قومي قوي. وهذا الدمج يولد استسلاما للثكل وعدم الرغبة في الاحتجاج على سياسة الجيش. وأنا ألاحظ بكل تأكيد لدى المجموعة العرقية- القومية وجود نوع معين من "فخر الثكل"، أي أنّ الثكل بالنسبة لها يعتبر جزءا من الاندماج في المجتمع الإسرائيلي.

"من جهة ثانية، فإن الشك والابتعاد عن الجيش لدى الطبقة الوسطى يولد احتجاجا سريعا جدا. لماذا بدأت المعارضة لحرب لبنان الثانية مباشرة بعد أول موجة من القتلى؟ لأنه كان هناك بين مجموعة القتلى الأولى وزن كبير للمجموعة القوية في المجتمع الإسرائيلي، وعندها فإن الحراك الناشئ هو أن ثمن الثكل تحول إلى ثمن يتجه بسرعة نحو القيادة السياسية ويؤدي دورًا مركزيًا في التردد بشأن عملية برية شاملة. وقد قال (رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، دان) حالوتس إن عملية برية معناها سقوط عشرات القتلى ولن نعرف كيف سنفسر ذلك".

(*) هذا يعني أن المجتمع الإسرائيلي أيد الحرب من جهة، ولم يكن مستعدا لدفع ثمنها من الجهة الثانية.

- "بحسب فهمي للأمور، فإنه منذ سنوات الثمانين نشأت فجوة بين شرعية استخدام القوة، التي ما زالت عالية بين النخب أيضًا، وبين الشرعية المتراجعة لدفع ثمن في مقابل تفعيل القوة، خصوصا لدى الطبقة الوسطى. وهذه الفجوة تسبب مشاكل كبيرة جدا للجهازين السياسي والعسكري. إن حرب لبنان الثانية هي تعبير خطير جدا عن هذه الفجوة، أخطر بكثير من الانتفاضة، لأن الحكومة دفعت خلال ساعات قليلة قوة كبيرة للغاية، وذلك في مجتمع دفع قدمًا فقط قبل أسبوع واحد أجندة مدنية تمثل جزء من منطقها في التقليص الحاد في ميزانية الجيش وعبء التجنيد الإلزامي وتجنيد الاحتياط. وهذا تناقض وجّه أداء الحكومة في الحرب".

*******

(*) تدعي في الكتاب أن الجيش يحتاج إلى الحروب لتحقيق شرعية، وأن المجتمع الذي يحكمه اقتصاد السوق يشكل الجيش عبئا اقتصاديا عليه، ولذلك يريدون إجراء تقليصات فيه؛ وعندها فإن الجيش، ومن أجل أن يعزز مكانته وشرعيته، يحتاج إلى ميدان يظهر فيه قوته وأهميته. لكن عمليا فإنه لا أحد في الجيش يفكر عمليا بهذا الشكل.

- "صحيح. أنا أيضا مثلك لست وصيا على نظريات المؤامرة. وبشكل أساس، فإن برنامج استخدام القوة هو الأكثر تداولاً في الجيش، مثلما أن برنامج الجراحين هو إجراء عملية جراحية وليس المداواة فحسب. رغم ذلك، فإن الجيش يعي تماما القيود التي يفرضها عليه محيطه: الحكومة، المجتمع الإسرائيلي، الرغبة في تقليص موارده. والجيش، بحسب مفهومه، يريد استغلال الفرصة. ما هي الفرصة؟ إنها وضع يمكنه من خلالها إظهار برنامجه من دون دفع ثمن، وتحقيق النجاح أيضا، فالجيش، مثله مثل كل تنظيم، يتطلع للنجاح.


"إن الجيش يريد استغلال حيّز العمل الممنوح له، ولذلك فإن السؤال المركزي هو: ما هي الجهات التي تجعل حيّز عمل الجيش متوازنا ولماذا يعتبر هذا التنظيم أن لديه حيّز عمل كبيرًا؟ إن الجيش يعي حقيقة أن عليه إظهار نجاح رخيص، وبالمناسبة، فإن السعي التآمري لـ"نجاح رخيص" لم يكن موجودا قبل ثلاثين عاما. واعتبر الجيش الانتفاضة الثانية وحرب لبنان الثانية على أنهما نجاح رخيص، علما أن الجيش هو أول من يدرك الظروف التي يبدأ فيها الثمن بالارتفاع. وفي الانتفاضة حدث ذلك بعد ثلاث سنين أما في لبنان فقد حدث بعد أسبوعين".

هناك شرعية كبيرة جدا لاستخدام القوّة شرط أن يكون الثمن رخيصا!

(*) بحسب هذا المنطق، فإنه منذ البداية لم تكن هناك إمكانية لأية حملة عسكرية برية في لبنان، لا كبيرة ولا صغيرة، لأن أية حملة برية كانت ستظهر بحدة مسألة الثمن. وقد صدق رئيس هيئة الأركان دان حالوتس، عمليا، عندما فضّل هجمات جوية فقط، فهذا نجاح رخيص وإظهار لبرنامج القوة بثمن سقوط عدد قليل جدا من القتلى.

- "هذا واضح تماما. وفي هذه النقطة فإن المسؤولية على حالوتس صغيرة جدا، أيضا لأني أعتقد بأنه لم تكن هناك حاجة للحرب منذ الطلقة الأولى. والهجوم الجوي كان منطقيا جدا إذا أخذنا بالحسبان شكل ردة فعل المجتمع الإسرائيلي على ثمن سقوط قتلى. لكن هذا الفهم يجب أن ينضفر مع الأجندة السياسية. لقد عرض السياسيون أهدافا طموحة للغاية للحرب: القضاء على حزب الله، فرض نظام سياسي جديد في لبنان، إعادة المخطوفين. وعندها نشأت فجوة كبيرة للغاية بين الأهداف التي وُضعت أمام الجيش وبين قدرته على تحقيقها بثمن بخس. وتوجد هنا مشكلة بنيوية لأن السياسيين لم يدركوا بشكل عميق التناقض بين ذلك الدعم الشعبي الواسع للحرب، الذي أبهرهم في الأسبوعين الأولين، وعدم تحمل الجمهور للثمن.


"كانت هناك شرعية جماهيرية للخطوة الأولى للحرب: هاجمونا، نفذنا هجوما مضادا؛ ونبع الحماس من حقيقة أن الثمن في الأسبوع الأول كان رخيصا، لكن في اللحظة التي ارتفع فيها الثمن، فإن المجتمع الإسرائيلي ارتدع. هناك شرعية كبيرة جدا لاستخدام القوة شرط أن يكون الثمن رخيصا، ويجب أن يكون أداء الجيش والحكومة في إطار هذه المعادلة".

(*) حتى الآن تحدثنا عن الثمن في كل ما يتعلق بالقتلى، لكن في كتابك يخيم أيضا السؤال حول تأقلم الجيش مع اقتصاد السوق. والآن يطالبون الجيش بنجاحات بثمن اقتصادي رخيص.

- "إن النقطة المفصلية في هذا الموضوع كانت في سنوات الثمانين، عندما تم إجراء التقليص الأعمق في ميزانية الجيش ونشأ وضع تم فيه إرفاق ثمن بكل عملية ينفذها الجيش. ومثال إخضاع أيام خدمة قوات الاحتياط، وهذه أحد الموارد الرمزية الكبرى في الجيش، للميزانية هو المثال الأفضل: فجأة تم إرفاق تجنيد الاحتياط بثمن. وهذه هي اللحظة التي بدأ فيها مصطلح "جيش الشعب" يفقد فاعليته.


"وأخذ هذا المركب في اقتصاد السوق، الذي من خلاله فإنّ كل عملية يتم وضع ثمن لها والتنظيم مطالب بوضع صورة واضحة للتكلفة مقابل النجاعة أمام زبائنه، يتسرب تدريجيا إلى الجيش. وفيما يلي مثال مثير: نشر (المعلق الاقتصادي) سيفر بلوتسكر في "يديعوت أحرونوت" مؤخرًا مقالا سعّر، بطريقته، حجم الملايين التي يكلفها قتل مقاتل من حزب الله. وهذا يعبر عن روح لم تكن موجودة حتى سنوات الثمانين.

"واضح أن هذه العملية تضع قيودا في اتجاهين متناقضين: من جهة، الجيش مطالب بتقوية أدائه الاقتصادي، بأن يكون أكثر نجاعة وأن يقلص تكاليف لا ضرورة لها؛ من الجهة الأخرى، الجيش يريد تبرير شرعية الموارد الممنوحة له، وعندها فإنه يُبرز مخاطر موجودة. في حرب لبنان الثانية لم يكن هناك تصعيد تدريجي، إذ اندلعت الحرب خلال ساعات معدودة، وهنا أدعي بأنه عندما يتوجب على التنظيم تجنيد مجتمع متوجس للحرب فإن النتيجة هي تصعيد سريع".

(*) أي أن إيهود أولمرت كان صادقًا عندما قال للجنة فينوغراد إنه لو لم نخرج للحرب في المساء الأول (بعد هجوم حزب الله) لما كنا سنخرج للحرب أبدا.


- "بالتأكيد. تخيل كيف سيكون الجدل الشعبي الإسرائيلي بعد الخطف، لو منحوا حزب الله مهلة تحذيرية ليومين؟. كانوا سيقولون: هناك غرف سياحية في الشمال، الاقتصاد سيتضرر، وتدريج اعتماد إسرائيل (في العالم) قد يصبح في خطر. وكانوا سيبحثون فورا في مسألة الضحايا ويطرحون نتائج حرب لبنان الأولى، وفي أجواء كهذه لن يكون بالإمكان تجنيد الجماهير".

التحدي الأهم هو كبح جماح الفكر العسكريّ وليس الجيش

(*) كتبت في الكتاب جملة بدت لي هامة جدا، خصوصا بعد حرب لبنان: "إن تعلق السياسيين هو بالتفكير العسكري نفسه، وهو أقل مما بالجيش كمؤسسة، التي تستمد صلاحياتها من المؤسسات العسكرية. إن الجيش، كونه مرجعا للفكر العسكري، هو الوسيط بين السياسيين وهذا الفكر نفسه".

- "أحد انتقاداتي على لجنة فينوغراد يتعلق بخلق مناخ وكأننا جيش لديه دولة؛ وأنا ارفض هذا التشخيص. وقد شاركت مؤخرا في ندوة وتحدث جميع المشاركين فيها حول ضرورة نشوء نظم تخفف من تأثير الجيش. ولا أعتقد أن هذا هو الأمر الهام. لماذا؟ لأن التحدي الأهم هو كبح جماح الفكر العسكري لا الجيش نفسه. يوجد هنا فكر (عسكري) يعتبر أهم وأقوى مما يعبر عنه التنظيم العسكري.


"عندما يكون هناك برنامج عسكري بشأن مشكلة كهذه أو تلك في العلاقات أو الاتصالات بين إسرائيل والدول المحيطة بها، يجب أن نمتلك في مواجهتها أيضًا بديلا يقف في صلبه فكر مدني- سياسي لا عسكري. فكر يستند في أساسه إلى اعتراف عميق بجيراننا، وربما أعدائنا، ويطور القدرة السياسية لإسرائيل على حساب الفكر العسكري. إن الفكر السياسيّ- المدنيّ ضعيف في إسرائيل. حتى اتفاق أوسلو، الذي كان سياسيا، أصبح مع مرور الأيام اتفاقا عسكريا، وأصبح ضمن مسؤولية الجيش وتحت إدارته ووفقا لرؤيته. وأصبحت السلطة الفلسطينية عمليا مطالبة بأن تنفذ لصالحنا أعمال القضاء على الإرهاب "من دون (مراقبة) محكمة العدل العليا ومن دون (متابعة) منظمة بتسيلم"، وفي المقابل حصلت على حكم ذاتي محدود.


"إن الفكر السياسي موجود في صلب الفكر العنيف للتحالف العرقي- القومي، لكن لديه كذلك أساس متين في فكر مواطنين مصدر تجنيدهم السياسي هو الطبقة الوسطى- العلمانية. والفكر العسكري هو ليس فقط فكر الجيش. ولذلك فإن الفكر العسكري ليس قويا لأن الجيش قوي وإنما العكس تماما- لأنه توجد قوة للفكر السياسي فإن للجيش قوة. والتحدي هو كبح جماح الفكر، وليس الجيش".


(*) ألا تدرك لجنة فينوغراد هذا؟

- "اللجنة انشغلت أكثر مما يجب في شكل اتخاذ القرارات، بدلا من المشكلة الكبرى التي في أساس الفكر العسكري. ففي حرب لبنان الأولى اتخذوا قرارات بعد مداولات استمرت شهورًا، تماما وفقا للأصول، وهل هذا غيّر شيئا؟


"في نهاية المطاف، فإن عالم المصطلحات والرموز والأمثلة لدى صناع القرارات وإدراكهم لحدود تجنيد الشرعية لبديل كهذا أو آخر، هو الأمر الذي يرجح شكل اتخاذ القرارات. وقد خرج أولمرت للحرب خلال ساعات لأنه أدرك أنه فقط بهذا الشكل سينجح في تجنيد شرعية واسعة لدى الجمهور الإسرائيلي، لكن من الجهة الأخرى فإنه لا يعرف بدائل سياسية، والجيش ليس بحاجة أبدا لإقناعه بالخروج للحرب.


"وفيما يتعلق بكل المؤسسات التي يفترض أن تلجم الجيش، هذا مجرّد هراء. سأعرض عليك مثالا جيدا من الولايات المتحدة- يوجد هناك مجلس قوي للأمن القومي وجيش ضعيف جدا. وهذه الحقيقة لم تمنع شن حرب في العراق بشكل متسرّع، من دون خطة معقولة. أي أن الفكر العسكريّ- المدنيّ، الذي يحمله كل أولئك المحافظين الجدد في الإدارة، يتطوّر خارج الجيش كتنظيم".

(*) الفكر العسكري في إسرائيل أنتج دائما مفاهيم سياسية: "إذا أبعدنا عرفات، ستتحسن الأمور"، "إذا ضربنا في لبنان، فسيضعف حزب الله" وما شابه ذلك. هل حقا لا يوجد بديل لهذا الفكر داخل المجتمع الإسرائيلي؟

- "لا يوجد بعد في المجتمع الإسرائيلي مركز قوي ذو أهمية للفكر المدني. يوجد هنا نمو معين لمراكز قوى تعمل في موضوع حقوق الإنسان والعولمة، لكنها ما زالت ضعيفة. والتحدي الأهم ضد الفكر العسكري يأتي من جانب خطاب السوق. فهذا خطاب له تأثير كبير جدا في فهم قيود رصد الموارد لعمليات تتسم بالعنف. ولكن ليست لديه القدرة على إنشاء بديل حقيقي. ولذلك فإن خطاب السوق يقيد الجيش بالأساس في أوضاع تبدأ فيها التكلفة تصبح عالية للغاية.


"لكن يجب أن نتذكر: تفعيل القوة لا يؤدي دائما إلى مشاكل اقتصادية. إحدى العجائب في الانتفاضة الثانية هي أن إسرائيل نجحت في تقليص التكاليف، وتجديد النمو الاقتصادي، وتجديد الاستثمارات، وكل هذا في أثناء القتال. لذلك فإن الإدعاء بأن العولمة والحرب تتناقضان هو على ما يبدو ادعاء غير صحيح. ويبدو أن بإمكان الحرب والعولمة، إلى مستوى معين، العيش سوية. ويجب أن نذكر أنه في الحرب هناك عنصر الاستفادة من الضواحي في الحلبة السياسية- العسكرية بدلا من الحلبة الاجتماعية، التي يمكن أن ينشأ فيها تحد ضد النظام القائم. وثمة شك فيما إذا كان بإمكان (رئيس المعارضة البرلمانية، بنيامين) نتنياهو القيام بإصلاحات نيو- ليبرالية متطرفة إلى هذا الحد من دون حرب في الخلفية".

(*) يتحدثون كثيرا عن ترميم الجيش بعد حرب لبنان. وبحسب نموذجك يمكن ربما ترميم مخزون الأسلحة ومستوى التدريبات، لكن تراجع مكانة الجيش كـ"جيش الشعب" غير قابل للتغيير.

- "إن حرب لبنان الثانية تزيد من إضعاف قدرة الجيش على تجنيد قوى بشرية، لأن المعادلة التي يطرحها الآن بين التضحية والحصول على مقابل تآكلت أكثر فأكثر. إضافة لذلك، علينا أن نذكر أنه باستثناء العام 2007، ستستمر موارد الجيش في التقلص، وهذه الحقيقة ستحدث هزة داخل الجيش بين الاعتراف بمحدودية التقلص وبين استغلال فرص ترميم مكانته وتعزيز شرعيته، أي البحث مجددا عن "نجاح رخيص" آخر".

______________________________

(*) نير برعام- كاتب وصحافي. وهذا الحوار ظهر في عدد 22 أيار 2007 من ملحق "سفاريم" (كتب) الأسبوعي لصحيفة "هآرتس". إعداد وترجمة- "المشهد".