وسائل الإعلام الإسرائيلية والتغطية النمطية للنزاع

في ذكرى "يوم الاستقلال" الأخير (24 نيسان 2007) أطلقت المنظمات الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة وابلاً كثيفاً من صواريخ "القسّام" وقذائف "الهاون" في اتجاه الأراضي الإسرائيلية. وقد بُرِّرت هذه الهجمة بالقول إنها جاءت رداً على مقتل ستة فلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة برصاص الجيش الإسرائيلي. في مساء اليوم المذكور تحدثت نشرات الأخبار في محطات التلفزة الإسرائيلية عن محاولة لاختطاف جندي إسرائيلي قيل أنها جرت تحت ستار وابل قذائف "الهاون" وصواريخ "القسّام".. عنوان نشرة الأخبار المركزية في محطة "القناة الثانية" ذكر بأنه "تم إحباط اختطاف جندي في غزة". وقد أذيع هذا النبأ على خلفية بث صور فيديو لنشطاء مسلحين من حركة "حماس"، يرتدون ملابس عسكرية، يخرجون من نفق وينقضون. لم يكن باستطاعة المشاهدين معرفة ما إذا كان الأمر يتعلق بصور أرشيفية لتدريب النشطاء، بثتها المنظمات الفلسطينية في قطاع غزة أم أنها صور لمحاولة الاختطاف التي قيل إنها وقعت في ذلك اليوم.

كذلك ذكر في عنوان نشرة أخبار محطة "القناة العاشرة" في اليوم ذاته: "في الجيش الإسرائيلي يقدرون: الفلسطينيون حاولوا صباح اليوم اختطاف جندي في غزة"، وقد عرضت هنا أيضاً صور فيديو لنشطاء مسلحين من "حماس" في قطاع غزة أثناء انقضاضهم من داخل أحد الأنفاق. وأوضح المراسل العسكري للمحطة شاي حزكاني قائلاً: "لقد بدأت العملية بإطلاق تمويهي لعشرات قذائف الهاون باتجاه معبري صوفا وكيرم شالوم، حيث كان من المقرر أن يقوم "المخربون" تحت غطاء القصف باجتياز الحدود إلى إسرائيل على ما يبدو بهدف اختطاف جندي... غير أن جيش الدفاع الإسرائيلي استعد على الجدار وقام بعدة مناورات تمويهية بغية تضليل المخربين.. يبدو أن هذه المناورات نجحت، على الأقل لغاية الآن، في إحباط محاولة الاعتداء". وأضاف حزكاني أثناء إيجازه حيثية مهمة حينما قال: "جيش الدفاع الإسرائيلي يضغط مجدداً من أجل القيام بعملية عسكرية كبيرة" (أي في قطاع غزة).

في اليوم التالي (25 نيسان 2007)، تحدثت عناوين الصحف الكبرى الثلاث (يديعوت أحرونوت، معاريف، هآرتس) عن الحادث بصورة جازمة، على غرار نشرات الأخبار في محطات التلفزيون:

"أحبطت محاولة "حماس" لاختطاف جندي" (معاريف). "حماس قصفت المنطقة الحدودية بأكملها بوابل من الصواريخ من أجل التمويه على محاولة لاختطاف جندي" (يديعوت أحرونوت). "جيش الدفاع الإسرائيلي: تم إحباط عملية اختطاف في غزة" (هآرتس).

بعد مرور خمسة أيام، في 30 نيسان، ظهرت في "يديعوت أحرونوت" معلومة مهمة، دُحِرَت في هامش النص، حيث أوردت في نهاية معلومة إخبارية، حيثية تبدو وكأنها وردت بصورة عفوية غير مقصودة ذكر فيها: "في هذه الأثناء صرح نائب رئيس جهاز مخابرات الشاباك في جلسة الحكومة انه وخلافاً لبيان جيش الدفاع الإسرائيلي، لم تحدث خلال "يوم الاستقلال" محاولة لاختطاف جندي إلى مناطق قطاع غزة، ولا يوجد أي مؤشر استخباري يشير إلى أن الإطلاق المكثف للصواريخ من جانب "حماس" باتجاه إسرائيل في "يوم الاستقلال" كان غطاء لمحاولة اختطاف".

غير أن الصلاحية الأمنية التي يتمتع بها نائب رئيس جهاز "الشاباك" لم تقنع وسائل الإعلام الإسرائيلية بضرورة تحديث تقاريرها الإخبارية. مراسل الشؤون العسكرية لمحطة "القناة الثانية"، روني دانيئيل، واصل التشبث بالإدعاء حول محاولة الاختطاف بعد أسبوع كامل من تأكيدات نائب رئيس "الشاباك" أمام جلسة الحكومة. في السادس من أيار، وعلى أثر هجوم آخر بالصواريخ من قطاع غزة، وقع في أعقاب سقوط ثلاثة قتلى فلسطينيين آخرين برصاص الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية في اليوم السابق، أوضح المراسل ذاته (دانيئيل) في مستهل نشرة الأخبار قائلاً: "في يوم الاستقلال وقعت عملية كبيرة قامت بها فتح وآخرون أطلقت خلالها قذائف هاون وصواريخ قسّام على إسرائيل، وجرت محاولة لتنفيذ اختطاف. في أعقاب ذلك أجريت مشاورات أمنية خاصة لدى رئيس الحكومة، خرجوا من هناك بعدد من التوجهات العامة.. عملياً لم يسمحوا لجيش الدفاع الإسرائيلي بتغيير السياسة المتبعة، بدون رد، أو جباية ثمن".

لم يتطرق دانيئيل نهائياً لوجهة نظر أو صيغة نائب رئيس "الشاباك". وقد جرى الحوار التالي بين دانيئيل ومقدمة نشرة الأخبار:

يونيت ليفي (مقدمة نشرة الأخبار): وكرد على ذلك، روني، سنرى في هذه المرة أيضاً ضبط نفس؟

روني دانيئيل: على ما يبدو يا رونيت.. هذا هو الوضع... يجلسون ولا يفعلون شيئاً أكثر من اللازم. ينتظرون وقوع اعتداء كبير لا سمح الله.. هذه سياسة مفلسة. لا يمكن الجلوس والانتظار هكذا... بصراحة إنها سياسة الاحتواء التي ينتقدها فينوغراد فيما يتعلق بلبنان، ليس هناك ما يبرر سحب هذه السياسة على قطاع غزة أيضاً.

يونيت: يمكن ملاحظة أن الحكومة التي تعمل في ظل (تقرير) فينوغراد ربما لن تسارع إلى الرد في جميع الحالات؟

دانيئيل: يجب عمل شيء رغم كل ذلك. لا يعقل ترك الوضع بهذا الشكل.

يعتقد دانيئيل إذن أنه يتعين على الجيش الإسرائيلي عمل "شيء ما"، هو نفسه لا يحدد ماهيته. ويستشف من أقواله (أي دانيئيل) أنه يدفع باتجاه عملية عسكرية، العملية التي يطالب الجيش الإسرائيلي بها. والحال فقد اشتملت ديناميكية تغطية أحداث "يوم الاستقلال" في قطاع غزة على روايتين مختلفتين، خرجتا من أروقة المؤسسة الأمنية، لكن كل واحدة منهما نالت تضخيماً في التغطية واهتماماً إعلامياً مختلفين تماماً: الأولى، التي نالت درجة بروز أعلى، أكدت بصورة جازمة أن الإطلاق المكثف للصواريخ والقذائف وقع أثناء محاولة لاختطاف جندي. في حين أن الرواية الثانية، التي استبعدت هذه الإمكانية، أُخفيت بشكل سافر ولم تظهر سوى كقول عابر اقتبس في مكان هامشي لا يلفت انتباه القراء (أو المشاهدين). معظم وسائل الإعلام التي أبرزت خبر "محاولة الاختطاف" لم تكلف نفسها عناء نقل أقوال نائب رئيس جهاز "الشاباك" الذي استبعد هذه الإمكانية كلياً. كان يمكن للأغلبية الساحقة من المشاهدين لنشرات الأخبار في محطات التلفزة الإسرائيلية ومن قراء الصحف العبرية، الاقتناع بأن نشطاء "حماس" حاولوا في "يوم الاستقلال" اختطاف جندي من داخل المنطقة الإسرائيلية تحت ستار هجوم بالصورايخ والقذائف.

في ظل هذا الوضع لا يمكن أن يجري نقاش إعلامي/ جماهيري حول السياق الأوسع للواقع في الأراضي الفلسطينية، كالسياسة العسكرية الهجومية التي يتبعها الجيش الإسرائيلي في الأشهر الأخيرة، والتي أدت إلى قتل 68 فلسطينياً، معظمهم في الضفة الغربية، منذ 26 تشرين الثاني الماضي (وهو الموعد الذي دخلت فيه "التهدئة" حيز التنفيذ) وحتى كتابة هذه السطور في منتصف شهر أيار 2007. كذلك لم تطرح على بساط البحث نهائياً إمكانية أن تكون هذه السياسة العسكرية هي التي أدت وتؤدي إلى التصعيد.

مناقشة تغطية هذا الحدث (محاولة الاختطاف المزعومة) لا تنحصر إذن، في مسألة ما إذا كانت هناك محاولة اختطاف جندي (في قطاع غزة) في "يوم الاستقلال" وحسب، ولا في مسألة إذا ما كانت المنظمات المسلحة في غزة معنية بتنفيذ مثل هذا الاختطاف (وهي معنية على الأرجح). فطابع التغطية يلقي الضوء على عدد من أنماط العمل الإشكالية في وسائل الإعلام الإسرائيلية المركزية أثناء روايتها لقصة النزاع بشكل عام. ويمكن القول إن الاحتلال أفسد أيضاً- وبدرجة لا تقل عن إفساده للجيش- وسائل الإعلام الإسرائيلية.

لقد خلقت أنماط التغطية الإعلامية الإشكالية هذه خطاباً عقيماً، جزئياً وتبريرياً في الكثير من الأحيان، ساهم في طمس وتبهيت وعي المراسلين والمحررين بدرجة لا تقل عن الجمهور المستهلك لوسائل الإعلام هذه. الإخفاقات المستمرة في تغطية النزاع خلقت أحياناً صورة زائفة للواقع العنيف الذي يجري بمسؤولية طرف واحد فقط، هو الطرف الثاني(؟!).

إلى ذلك فقد أثرت أيضاً أنماط التغطية، المتبعة في شؤون الأراضي الفلسطينية، على إطار الوعي الذي ولد داخله الفشل في حرب لبنان الثانية. لقد كان من الجدير أن يجري نقاش معمق في هذا الموضوع، غير أن مثل هذا النقاش لم يجر حتى الآن (ولا حتى في إطار مجلس الصحافة الذي انشغل في صغائر الأمور).

ولعل ذلك هو السبب الذي يمكنها (أي يمكن أنماط التغطية) من البقاء حتى الآن، وبالتالي الإعلان على رؤوس الأشهاد: لا جديد تحت الشمس.

______________________________________

* يزهار بئير- مدير "كيشف"- مركز حماية الديمقراطية في إسرائيل. هذا المقال ظهر في مجلة "هعاين هشفيعيت"- العين السابعة- المتخصصة في شؤون الإعلام والتي تصدر عن "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، عدد حزيران 2007. ترجمة خاصة بـ "المشهد الإسرائيلي".