غايداماك وعلاقة المال بالسلطة في إسرائيل

يصعب العثور في الآونة الأخيرة على اسم أكثر تعبيراً عن واقع إسرائيل الراهن من اسم أركادي غايداماك. فالاسم يتكرر يومياً ليس فقط في وسائل الإعلام وعلى شفاه البسطاء من الإسرائيليين، وإنما كذلك على ألسنة كبار الشخصيات السياسية من رئيس الحكومة إيهود أولمرت إلى وزير الدفاع عمير بيرتس. ورغم أن هذا الاسم دخل الميدان الإسرائيلي العام من بوابة الصفحة القضائية حينا وهوامش الصفحات الرياضية حيناً آخر إلا أنه نال أهميته من امتزاجه بالموضوع السياسي وبواباته الأسخن.

فقد برز الاسم بشكل واسع مؤخراً أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان وفي المواجهة التي تخوضها بلدة سديروت في ظل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. ومثل الصواريخ المستخدمة في الحربين انطلق أركادي غايداماك، رجل الأعمال الغامض، ليغدو الحل في مواجهة إخفاقات الحكومة. فالكثير مما تعجز عن تحقيقه للإسرائيليين حكومة أولمرت- بيرتس- ليبرمان يمكن لغايداماك تحقيقه بسهولة.

وعندما لم تفعل الحكومة الإسرائيلية شيئاً لجمهرة كبيرة من الإسرائيليين الذين صاروا يتلقون رد المقاومة اللبنانية الصاروخي على الحرب الوحشية على لبنان كان غايداماك حاضراً. وقد فتح بوابات أكثر من منتجع يملكه لتقديم خدمة الإيواء للفارين من لهيب صواريخ الكاتيوشا. وبالمقابل عندما تبدّى العجز العسكري الإسرائيلي عن توفير الهدوء لسكان سديروت وصار هؤلاء يفرون من المدينة كان غايداماك هو من أرسل على حسابه المئات من تلاميذ البلدة للاستجمام في إيلات على شاطئ البحر الأحمر.

وفي الحالتين كان "نجاح" غايداماك يقابل إخفاق المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية مما جعل هذا الرجل يغدو نداً لكبار القادة السياسيين. ففي سديروت، حيث يعيش وزير الدفاع عمير بيرتس، كانت الصورة واضحة: تقارب بين غايداماك والجمهور وابتعاد هذا الجمهور عن بيرتس. وفي الصورة الأعم كان الجمهور يقترب من غايداماك ويبتعد عن الحكومة ورئيسها إيهود أولمرت. ولم يكن في ذلك ما يروق للرجلين خصوصاً وللحلبة السياسية الإسرائيلية على وجه العموم. فالقادم الجديد إلى هذه الحلبة مؤهل لأن يغيّر قواعد اللعبة فيها سواء بمشاركته المباشرة أو بالدور الذي يمكن أن يلعبه من وراء الكواليس. فالكثيرون يشيرون إلى أن غايداماك متحالف في واقع الأمر مع زعيم الليكود بنيامين نتنياهو.

غير أن هذا التحالف ليس وحده ما يشغل بال الجمهور والنخبة الإسرائيلية. فصعود غايداماك يشير إلى هبوط وتدني المستويات الأخلاقية والسياسية في المجتمع الإسرائيلي. وهذا الأمر في نظر الكثيرين لا يختلف عن الاتهامات الموجّهة للرئيس الإسرائيلي ولوزير العدل وآخرين بالتحرش الجنسي مثلما لا يختلف عن الاتهامات لرئيس الحكومة وسياسيين آخرين بالفساد ولا عن الاتهامات ضد القادة العسكريين بالفشل والإخفاق.

فالجمهور الخائف من استمرار الإخفاقات الحالية يبحث عن نجاح. ومن الجائز أن هذا يجد تعبيراً واقعياً عنه في نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة التي نشرت في الصحف الإسرائيلية. فقد أشار استطلاع نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى أن 57 في المائة من الإسرائيليين يخشون على وجود دولة إسرائيل وأن غايداماك وأولمرت ينالان النسبة ذاتها من التأييد لتولي رئاسة الحكومة.

وإذا كان أكثر من نصف الإسرائيليين يخشون على وجود الدولة اليهودية بعد أكثر من خمسين سنة على قيامها فإن في ذلك ما يستدعي التساؤل عن الكثيرين من أعضاء النخبة. وقد حاول زعيم حركة ميرتس السابق يوسي سريد تفسير الواقع الجديد الذي باتت فيه شخصية غامضة مثل غايداماك تحتل كل هذا الحيز من الاهتمام العام. وكتب في "هآرتس" أن الإهانة التي وجهها أركادي للسائقين عندما أشار إلى أن بيرتس لا يصلح إلا ليكون سائق سيارة أجرة هي إهانة للجميع، "لأن أركادي غايداماك يقصدنا جميعاً، وما السائقون إلا مثال فقط: كلنا سائقون عنده، وكلنا نادلون لديه. ولماذا لا يحق له أن لا يفكر بهذه الطريقة؟ هو يستنتج بسهولة كبيرة أن المال هو رد على كل شيء في إسرائيل، وأنه لا يرغب أحد في الوقوف في وجه مال الملياردير. بعد فترة قصيرة نسبياً من وجود غايداماك في البلاد أدرك: أنه لا يوجد إسرائيلي لا يمكن شراؤه، والثمن في العادة متدنٍ جداً".

ويعتبر سريد أن إسرائيل، "دولة غايداماك"، باتت ذات رأس صغير فهي تخرج للحرب من دون تفكير وتحت قيادة هي "عقلية الإصبع" المنفوخة. ويشير إلى أن الشعار الشائع في العقلية الراهنة هو أن "غايداماك سيشتري": "أركادي يشتري كل شيء: فريق كرة السلة وفريق كرة القدم والكليات، الجمعيات والسلطات والمواطنين المثخنين في الشمال والجنوب، وهو بدوره يشتري القلوب ويرسخ مواقعه، وفي سياق ذلك كازينو وراء الآخر يكسب دنياه. وفي خضم هذه يسهل جداً الحصول على ماركة مسجلة مفتخرة على اسمه. هناك أثرياء كبار جمعوا ثروتهم من عمليات الإفلاس، هذا مجال اختصاصهم الأساسي: يشترون بثمن بخس، وفي يوم من الأيام يبيعون ما اشتروه بثمن باهظ. بعد قليل سيتم بيع ألوية وفرق عسكرية لا تملك زياً ملائماً وقبعات فولاذية مناسبة، ولكنها تنجح بصعوبة في التزود بإبر حادة من التكنولوجيا الدقيقة. وإن كان المبدأ هو أن غايداماك ينقضّ على كل مكان تتراجع الدولة فيه وتنسحب فسيصل سريعاً إلى الجيش أيضاً".

وفي ظل نمط كالسائد الآن يخلص سريد للقول بأنه "في ظل القتلى والجرحى والفقراء والضعفاء والمرضى أخذ سبب الوجود السيادي للشعب القابع في صهيون، بالتلاشي هو أيضاً... لقد أسست دولة اليهود في بازل، وهم يقومون بتدميرها حتى أساسها في سديروت، ووزراؤها مارقون وأصدقاء للصوص بشتى أصنافهم وأشكالهم".