عن القاضي باراك والمحكمة العليا- مساواة أكثر، في دولة يهودية أكثر

لسنوات طويلة ظل قاضي ومن ثمّ رئيس المحكمة العليا في إسرائيل، أهارون باراك، بمثابة "أيقونة" قضائية لامعة، وذلك بفضل حضوره المميز في المشهد الحقوقي، إسرائيليا ثم دوليا.

وبرز باراك في العقد الأخير من مشواره القضائي كالشخصية القضائية الأولى في البلاد ليس فقط بحكم منصبه الرسمي المرموق كرئيس للعليا وإنما عينيا بفضل القرارات الدستورية التي صدرت عن العليا في هذه الحقبة، حيث ترك باراك من خلال هذه القرارات بصماته الشخصية في نواح عديدة من القضايا الحقوقية.

ويمكن الجزم بأن باراك قد ساهم جديا في بلورة صورة القضاء الدستوري في البلاد لسنوات طويلة قادمة، بحيث سيكون من الصعب على المحكمة العليا، بتركيبتها الجديدة، ان تعكس مجريات القرارات والأسس القضائية التي وضعتها "محكمة باراك". لقد اجتمعت في شخصية باراك عدة مميزات أكسبته موقعا استثنائيا انعكس تدريجيا على المستوى العام بشكل يوطّد لمكانة السلطة القضائية في البلاد في ظل الوهن المتواصل في السلطتين التشريعية والتنفيذية. ومن هذه العوامل أذكر، من باب التشخيص لا التقييم، تجربة باراك القضائية الواسعة (التي امتدت لحوالي ثلاثة عقود)، معرفته المهنية الواسعة وإلمامه في تفاصيل القانون المحلي والقانون المقارن، بالإضافة الى قدرته التحليلية المميزة وإجادته استعمال الأدوات القانونية للوصول إلى مبتغاه في القضايا الماثلة أمامه.

دور تجميلي للسياسات الرسمية


لكن نجومية باراك هذه، وهنا بيت القصيد، لم تصبّ دائما في مصلحة الدفاع عن مبادئ الديمقراطية الحقيقية وعن حقوق الإنسان، لا سيّما في سياق الدفاع عن حقوق الإنسان الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، وحقوق الفلسطينيين عامة. ولا أبالغ بالقول ان نجومية باراك "ذائعة الصيت" في مجال حقوق الإنسان كانت في أحيان عديدة جزءًا من وعي إعلامي مزيّف قام بإبراز الجوانب المضيئة في قراراته وتغافل عن الجوانب القاتمة فيها. ففي حين يجمع العديد من الناقدين الحقوقيين على دور باراك في ترسيخ مكانة محكمة العدل العليا في الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان عامة داخل إسرائيل، فان هناك العديد من الناقدين الذين يجمعون أيضا على فشل باراك في القيام بدور مشابه في القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة. لا بل إن "نجومية" باراك انعكست سلبيا على هذه القضايا بحيث أعطى باراك (ومحكمته) غطاء شرعيا لخروقات حقوق الإنسان هناك. أما في القضايا القليلة التي استجاب فيها باراك للملتمسين الفلسطينيين، مثل منعه لأساليب التعذيب التي يتبعها جهاز الأمن العام (شاباك) ضد المعتقلين، ورغم أهميتها الحقوقية، فإن نظرة نقدية عميقة لهذه القرارات تكشف عن دور تجميلي لعبته هذه القرارات للسياسات الإسرائيلية الرسمية، ساهمت في نهاية المطاف في "حفظ ماء الوجه" للدبلوماسية الإسرائيلية وخدمتها عمليا في المحافل الدولية. وجاءت هذه القرارات لتشكل في مناسبات دولية عديدة الدليل القاطع على تميّز "واحة الديمقراطية" في الشرق الأوسط.

"حماية دستورية"، لكن لمن؟


أما فيما يتعلق بكيفية انعكاس نجومية باراك في القضايا المتعلقة بحقوق الأقلية العربية في إسرائيل، فإن الإجابة (الأولية) على هذا السؤال تستلزم رؤية الصورة الشاملة للدور الذي تلعبه محكمة العدل العليا في العقد الأخير في قضايا المساواة، من ناحية، ولماهية القضايا التي عالجتها هذه المحكمة عينيا، من ناحية أخرى. كما أن السنوات التي مضت منذ صدور بعض قرارات القاضي باراك تمنحنا فرصة تقييمها ميدانيا أيضا، بحيث تستكشف العين الناقدة ليس فقط كلمات باراك في قراراته، وإنما أيضا مدى انعكاسها عمليا في امتحان الواقع.

قد يكون صحيحا ان باراك ساهم، إجمالا، في تعزيز الحماية الدستورية لحقوق الإنسان في إسرائيل، بما في ذلك حقوق المواطنين العرب فيها، وذلك مقارنة بالحماية الدستورية الفقيرة التي توافرت قبل قراراته الهامة. لكن باراك ساهم، في نفس الوقت، في تعزيز الحماية الدستورية ليهودية الدولة أيضا، مما يشكل تصادما مباشرا مع المساواة الحقيقية للجماهير العربية. وهكذا، يمكن القول ان نجومية باراك لعبت دورين متناقضين في التأثير على المكانة الحقوقية للمواطنين العرب: تعزيز لمبدأ المساواة بين المواطنين، من ناحية، وتعزيز لمبدأ فوقية المواطن اليهودي، من ناحية أخرى. وبالتالي، فإن الصيغة القضائية التي طرحها باراك تضمنت (ونادت) باحترام حقوق المواطنين العرب على المستوى الفردي، لكن في ظل دولة يهودية وديمقراطية تحفظ التفوّق القومي لليهود فيها على المستوى الجماعي. وبحسب هذه الصيغة، جاءت طروحات باراك الحقوقية من النوع الليبرالي الفرداني فيما يتعلق بمكانة المواطنين العرب، ومن النوع القومي الجماعي فيما يتعلق بيهودية الدولة. حق المواطنين العرب بالمساواة، بحسب باراك، مشتق من ديمقراطية الدولة ويهوديتها في آن واحد، وفي هذه الرؤية يتجلى بوضوح النقيضان اللذان ميّزا خطاب باراك الحقوقي: مساواة أكثر، في دولة يهودية أكثر.

مساواة في إطار يهودية الدولة!


خطاب باراك حول مساواة المواطنين العرب جاء مجبولا بخطابه الأشمل حول يهودية الدولة. ولعلّ قضية "قعدان" الشهيرة تعكس بوضوح ادعائي هذا. ففي هذه القضية، والتي تعتبر من القرارات الأولى في المحكمة العليا التي استجابت للملتمسين العرب، يغوص باراك في النقاش حول شرعية استثناء عائلة عربية من السكن في بلدة "كتسير" اليهودية في ظل حاجة الدولة اليهودية الى تعزيز الاستيطان اليهودي فيها. باراك يصل الى الاستنتاج أن استثناء عائلة قعدان هو غير قانوني، وبذلك اصدر قرارا يناقض الموقف الحكومي، بل يتحداه. لكن تفسيرات باراك جاءت منقوصة من منظار شامل لحقوق الإنسان: تفسيرات باراك اقتصرت على الحالة الفردية المتمثلة بعائلة قعدان، وفي بلدة "كتسير" تحديدا، تاركا الباب مفتوحا من الناحية الحقوقية لاستنتاجات قضائية مغايرة في قضايا وظروف أخرى. وبذلك يكون باراك قد عزّز حق المواطن العربي في المساواة بالسكن، من ناحية، لكنه عزّز أيضا المكانة الدستورية ليهودية الدولة، من ناحية أخرى، واضعا القاعدة الدستورية التي تتيح، نظريا وعمليا، تغليب يهودية الدولة على ديمقراطيتها.

يكتب باراك في قضية "قعدان" أنه "بوجود الإنسان (في الدولة) كمواطن، فإنه يتمتع بحقوق متساوية كما باقي المواطنين فيها"، ويؤكد أنه "مع قيام الدولة، فإنها تنتهج المساواة بين مواطنيها". لكنه في سياق متصل يحدد تفصيليا (في قرار قضائي آخر) الأسس المركزية التي تقوم عليها يهودية الدولة، مؤكدا أن لهذه الأسس "جوانب صهيونية وتراثية على حد سواء".

وبحسب باراك فإن هذه الأسس تشمل: "حق كل يهودي في الهجرة الى دولة إسرائيل، والتي يشكل فيها اليهود أغلبية، العبرية هي اللغة الرسمية والمركزية للدولة، والأعياد والرموز الرئيسية فيها تعكس النهضة القومية للشعب اليهودي، وتراث إسرائيل هو مركب مركزي في التراث الديني والثقافي للدولة". إن هذا النص "الباراكي" الأصلي لا يترك فسحة حقوقية للمساواة الجوهرية للأقلية العربية في إسرائيل، بل يضع مبدأ المساواة في خانة هامشية لا تتماشى مع مبادئ ديمقراطية أساسية. هذا النص يعزّز حالة الفوقية والسيطرة القومية التي تتمتع بها الأغلبية وذلك على حساب القيم الإنسانية الرفيعة - تلك القيم التي طالما تغنّى بها باراك نفسه في محاضراته الأكاديمية، في الجامعات الأميركية خصوصا.

قضية قعدان- كتسير كمثال


وقد يكون ما آلت إليه قضية قعدان ميدانيا تعكس عمليا حالة الوضعية الحقوقية للمواطنين العرب في ظل "محكمة باراك" وطروحاته. فبعد حوالي ست سنوات ونصف السنة من صدور قرار المحكمة، وبعد ما يقارب إحدى عشرة سنة على تقديم الالتماس، لا تزال عائلة قعدان بدون ذلك البيت الموعود في "كتسير"، بسبب التضييقات المتواصلة من الهيئات المعنية (وغير المعنية).

وفي الوقت الذي ينهي فيه باراك مشواره القضائي ويعود إلى بيته الدافئ ليستعد لخطواته القادمة، فإن عائلة قعدان ما زالت غير قادرة على بناء بيتها الموعود (في حين لا تترك وزارة الخارجية الإسرائيلية مناسبة حقوقية إلا وتتفاخر فيها بكلمات باراك المعسولة في القضية ذاتها!).

إن المساواة التي يتغنّى بها باراك في قراراته هي ليست المساواة التي نقصدها نحن. باراك يتحدث عن مساواة فردانية ضيّقة، ونحن نتحدث عن مساواة جماعية واسعة. باراك يتحدث عن مساواة شكلية ورسمية، ونحن نتحدث عن مساواة فعلية وجوهرية. إن خطاب باراك الحقوقي يتحدث في جوهره عن مساواة ناقصة، هي أقل من المساواة الحقيقية.

يقينا أن التحدي الحقوقي أمامنا في بداية القرن الواحد والعشرين يكمن في صياغة خطاب حقوقي يتجاوز معوّقات القضاء الإسرائيلي، ومحدوديات طروحات باراك. خطاب حقوقي تحرري، يستمد حضوره ليس من الشرعية الإسرائيلية فحسب، بل من القيم والأخلاقيات الإنسانية العالمية... خطاب حقوقي يقوم على المساواة الشراكية المتكافئة لجماهيرنا، أفرادًا وجماعة.

___________________________________________


* د. يوسف تيسير جبارين- باحث حقوقي ومحاضر في كلية الحقوق في جامعتي حيفا وتل أبيب.

Terms used:

باراك, شاباك