الجيش يعيد إثبات أولويته

منذ إعلان الدولة العبرية عام 1948 والجدال يدور حول طبيعة العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري. فمن الوجهة القانونية تخضع المؤسسة العسكرية والأمنية عموماً لإمرة المستوى السياسي. ومن لا يخضع لإمرة وزير الدفاع، وهو كل ما يقع في دائرة المؤسسة العسكرية، يخضع لإمرة كل من رئيس الحكومة ووزير الداخلية أو الأمن الداخلي. وهذا ما يتعلق بجهازي الموساد والشاباك الخاضعين لرئاسة الحكومة أو الشرطة التابعة للأمن الداخلي.

ولكن منذ السنوات الأولى لنشوء الدولة اليهودية كان هناك من آمن بأن العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري ليست على هذه الدرجة من الوضوح. فهذه العلاقة كذلك من الناحية الرسمية والقانونية، لكنها خلاف ذلك من الناحية الفعلية. ويكفي في هذا الصدد استذكار حادثين مهمين في التاريخ الإسرائيلي وهما "فضيحة لافون" و"فترة الانتظار" التي سبقت شن الجيش الإسرائيلي حربه على الدول العربية العام 1967.

ففي فضيحة لافون والتي وقعت العام 1955 دار السؤال حول من أعطى الأوامر لقيام خلية استخبارية من اليهود في مصر بتنفيذ تفجيرات ضد مؤسسات أجنبية بقصد توريط مصر مع كل من بريطانيا وأميركا. وظل من الأسرار غير المعروفة حتى اليوم إن كانت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية تلقت أوامرها من داخل الجيش أو من رئيس الحكومة المستقيل، آنذاك، دافيد بن غوريون وليس من وزير الدفاع حينها، بنحاس لافون.

أما في فترة الانتظار في أواخر أيار ومطلع حزيران العام 1967 فكانت القصة مختلفة حين أجبر قادة الجيش رئيس الحكومة ليفي أشكول على تعيين موشيه ديان وزيراً للدفاع. وقد تبين في وقت لاحق أنه كان هناك في قيادة الجيش من هدّد بتنفيذ انقلاب عسكري أو اعتقال الحكومة إلى ما بعد الانتهاء من الحرب.

ولدى العديد من منتقدي العلاقة القائمة بين المستويين العسكري والسياسي في إسرائيل نظرية تقول بتقاسم خفي للصلاحيات بين الجيش والحكومة. وأن هذا التقاسم تبلور فعلياً في العلاقة التي أنشأها ونظّر لها دافيد بن غوريون عندما صاغ نظرية الأمن الإسرائيلية. ومعروف أن الهاغناه شكلت العمود الفقري للجيش الإسرائيلي وأن الذراع العسكري لـ"الييشوف" كان يريد حصته من غنائم النصر. وحسب هذه النظرية فإن المستوى السياسي أوكل عملياً للجيش تحديد سياسته الأمنية، وبالتالي السياسة العامة لإسرائيل، على الأقل في كل ما يتعلق بالدول العربية والقضية الفلسطينية.
وما يدفع الآن إلى هذه العودة إلى التاريخ حقيقة أنه مع تولي شخص يشهر "نواياه السلمية"، مثل عمير بيرتس، وزارة الدفاع لن يفلح في أن يختلف حتى عن أشدّ الصقور تطرفاً في أدائه. فالجيش قادر على خلق السياقات التي تخضع الحكومة لأمر واقع لا تجد مخرجاً منه. وكان وزير الدفاع موشيه ديان والمؤسسة العسكرية الإٍسرائيلية هما مَن خلقا "الوهم" بعد حرب 1967 بأن على إسرائيل انتظار "أن يرنّ الهاتف" من الجانب العربي معلناً القبول بالاشتراطات الإسرائيلية للسلام. كما أن وزير الدفاع أريئيل شارون والمؤسسة ذاتها عادا وقادا إسرائيل في غزو لم يكن مقرّراً على النحو الذي انتهى إليه للبنان العام 1982. ويمكن القول إن التاريخ يُعيد نفسه اليوم عندما بات وزير الدفاع من خارج المؤسسة العسكرية أيضاً حيث يصوغ الجيش من خلال خطوات ميدانية السياسة العامة لإسرائيل.

والواقع أن الجيش يتمكن من فعل كل ذلك من خلال سيطرته على عنصرين بالغي الأهمية: الأول السيطرة الميدانية والثاني السيطرة على المعلومات. فبوسع الجيش كما كان يحدث في الصدامات مع سوريا قبل حرب 1967 إبقاء الجبهة مشتعلة وتنفيذ سياسة متكاملة على أساس أنه صاحب القرار في الاعتبارات الميدانية. كما أن الجيش يستطيع، من خلال احتكاره لحق "التقدير القومي" عبر شعبة الاستخبارات، أن يحدّد أولويات الحكومة من جهة وأن يقود هذه الحكومة عبر المعلومات التي يضخها لها نحو الوجهة التي يريد من جهة أخرى.

ومن الجائز أن قرار المحكمة الإسرائيلية العليا بشأن مسار الجدار الفاصل قرب قرية عزون بيّن مقدار استعداد الجيش للكذب حتى على المحكمة، وهي حقيقة سبق أن أُدين بها المستوى القيادي في الشاباك. وهذا ما يدفع العديد من المعلقين والمفكرين السياسيين للمطالبة بإعادة النظر في العلاقة بين المؤسستين الأمنية والسياسية وترسيم الحدود من جديد بينهما وفق تعريف حديث لوظيفة كل منهما.

لقد حاول كل من إيهود باراك وأريئيل شارون، العالمين بخفايا العلاقة بين المؤسستين السياسية والأمنية، دخول التاريخ من بوابة الاختلاف مع الجيش في قضايا محدّدة. وقد أجبر الأول عبر تجنيد الرأي العام الجيش على القبول بخطته للانسحاب من لبنان عام 2000. أما الثاني فخالف الجيش وأصرّ على تنفيذ خطة الفصل عن قطاع غزة. ويبدو أن الجيش في الآونة الأخيرة يحاول الانتقام لانتهاك العلاقة معه من خلال خلق كل الظروف المناسبة، إن لم يكن من أجل العودة لاحتلال قطاع غزة فعلى الأقل من أجل إعادة احتلال بعض أجزائه. ومن الجائز أن كل ما يجري هو في بعض هوامشه ضربة وقائية للحيلولة دون إقدام الحكومة الإسرائيلية على تنفيذ ما تسمّيه بـ"خطة الانطواء" في الضفة الغربية. فالجيش الإسرائيلي يريد القول إنه ليس بوسعه تنفيذ مهمته في الدفاع من دون أن يمتلك السيطرة الفعلية على أعدائه.