أبعاد التغيرات السياسية الإسرائيلية

يبدو أن إسرائيل باتت على عتبة انقلاب سياسي، وعلى تغييرات في الخريطة السياسية والحزبية، لم تشهد مثيلا لهما منذ صعود حزب الليكود، بزعامة مناحيم بيغن، إلى سدة الحكم في إسرائيل في العام 1977، وكسره احتكار حزب مباي (العمل) لنادي رؤساء حكومات إسرائيل.

لكن التغير الحاصل في هذه المرة ربما يكون أكثر عمقا، وأبعد دلالة، وأكثر تأثيرا، على الأرجح، وذلك لأسباب عدة أهمها:

أولا، أن التغير السابق حصل، على الأغلب، في المجال السياسي/الحزبي/التنافسي، بين حزبي العمل والليكود، وإن اكتسى إلى حد ما نوعا من صبغة طوائفية؛ إذا احتسبنا جذب حزب الليكود لأصوات قطاعات واسعة من اليهود الشرقيين (السفاراديم)، الذين عاقبوا بنمط تصويتهم حزب العمل (المعروف بنخبه الأشكنازية) على تجاهله لهم.

وكان الإخفاق العسكري الإسرائيلي (التقصير) في حرب أكتوبر (1973) هو الذي يكمن وراء تدهور مكانة حزب العمل، وصعود الليكود، في حينها. لكن في حالتنا الراهنة فإنه ثمة عوامل متعددة: سياسية واقتصادية وثقافية، تكمن وراء التغيرات في الخريطة السياسية، وضمن ذلك الموقف من عملية التسوية، وصعود اليهود الشرقيين في سلم القيادة الإسرائيلية في مختلف الأحزاب، والوضعين الاقتصادي والأمني.

لكن من الواضح أن عملية التسوية بالذات هي التي ساهمت في تعزيز الحراك بين مختلف الأطراف الإسرائيلية، فهي التي ساهمت بانقسام حزب الليكود، بالذات. وهكذا فإن شارون ترك زعامة حزبه الليكود بعد الصعوبات والممانعات التي واجهها في حزبه، ومن قبل منافسيه (نتنياهو ولانداو)، إزاء خطته المتعلقة بالانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة (+ أربعة مستوطنات من الضفة)، برغم كل المآخذ الفلسطينية على هذه الخطة الأحادية.

ثانيا، أن التغير السياسي الحالي في إسرائيل لم يقتصر على حزب بعينه بل إنه شمل معظم الأحزاب الرئيسية، هكذا حصل التغير في حزب العمل باختيار عمير بيرتس، الشرقي والمتحدّر من بلدات التطوير (سديروت)، زعيما له، وحصل التغيير في الليكود بانقسامه إلى حزبين، مع خروج شارون وتشكيله حزبا جديدا (كديما- إلى الأمام).

هكذا بات في مركز الخريطة الحزبية الإسرائيلية، ثلاثة أحزاب رئيسية، هي العمل والليكود وكديما، وذلك لأول مرة في تاريخ إسرائيل، بعد أن كانت اللعبة في السابق تتم أساسا بين حزبين (العمل والليكود) أو خيارين (اليسار واليمين).

فوق ذلك فإنه من الطبيعي أن تتأثر باقي الأحزاب الإسرائيلية بهذا التغيير. وعلى سبيل المثال فإن وضع حزب شينوي، وهو ثالث الأحزاب في إسرائيل (مع 17 عضو في الكنيست المنحل)، بات جد حرجا، وباتت قيادته في حيرة من أمرها، وهي تقف بين التوجه نحو الانخراط في حزب شارون الجديد، أو بين إمكانية خسارة عدد كبير من ناخبيها، الذين سيغادرون حزبهم ويعطون أصواتهم إما إلى حزب العمل أو إلى حزب شارون. والأمر كذلك بالنسبة لحزب شاس (لليهود الشرقيين المتدينين)، وله 11 مقعدا في الكنيست، إذ أن قطاعا واسعا من ناخبيه ربما يصوتون لصالح حزب العمل بزعامة عمير بيرتس، فهو يهودي شرقي مثلهم، وهو يداعب آمالهم بالنسبة للمطالب الاقتصادية والاجتماعية. كذلك يمكن أن تشهد الساحة الإسرائيلية نوعا من الاستقطاب بين اليمين واليسار بحيث يتحد حزب الاتحاد الوطني المتطرف مع حزب الليكود، مثلما ثمة إمكانية لنوع من التوحد أو التوافق بين حزب ياحد (ميرتس) اليساري وحزب العمل، في ظل قيادته الجديدة المعتدلة.

ثالثا، إن التغير السياسي في إسرائيل هو أول تغير من نوعه يحمل معه قيادات يهودية شرقية، فهذا عمير بيرتس (اليهودي المغربي) بات زعيما لحزب العمل، وهذه السابقة هي الأولى من نوعها في إسرائيل، أما في حزب الليكود فثمة شاؤول موفاز (اليهودي الإيراني) وزير الدفاع، وسلفان شالوم (اليهودي التونسي) وزير الخارجية، يتنافسان أمام بنيامين نتنياهو وعوزي لانداو على زعامة حزب الليكود.

في كل الأحوال فإن هذا التغير يعني أن اليهود الشرقيين لم يعودوا مجرد طائفة كبيرة في مرتبة دنيا في إسرائيل، بالقياس لليهود الغربيين (الاشكناز) الذين ظلوا يشكلون صفوة النخبة الإسرائيلية منذ قيام إسرائيل. ومن الواضح أن هذا الوضع يعكس تزايد دور اليهود الشرقيين في إسرائيل، في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وبما يتناسب مع قوتهم العددية. علما أن نسبة اليهود الشرقيين في إسرائيل تناهز 50 ـ 55 بالمائة من اليهود في إسرائيل، ولولا هجرة مليون يهودي من بلدان الاتحاد السوفييتي (السابق) في عقد التسعينيات لباتت نسبة اليهود الشرقيين أعلى من ذلك بكثير.

رابعا، إن التغير السياسي الحاصل في إسرائيل يعكس، أيضا، نزوع المجتمع الإسرائيلي نحو التسوية مع الفلسطينيين، بالتوافق معهم عبر المفاوضات أو عبر الانفصال الأحادي عنهم. وتؤكد الإحصاءات الإسرائيلية أن ثمة حوالي 60 ـ 65 بالمائة من الإسرائيليين، تؤيد بشكل أو بآخر قيام دولة فلسطينية وتفكيك المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والانسحاب منها. ويمكن الاشتغال على هذا المزاج لتطويره وإنضاجه في حال تم تبني سياسات فلسطينية مناسبة. لكن ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن هذه التغييرات لن تجلب إسرائيل للتسوية بسهولة أو عن طواعية فهذا الأمر بحاجة إلى تغييرات إسرائيلية جذرية، كما يتطلب ضغوطا دولية وإقليمية، وضمنها مزيد من الصمود من قبل الفلسطينيين، في مواجهة الإملاءات الإسرائيلية. ويبقى أن نتائج الانتخابات للكنيست القادمة (مارس 2006) هي التي ستحدد شكل الخارطة السياسية الإسرائيلية الجديدة، وهي التي ستحسم شكل تعاملها مع التسوية (الأحادية أم المفاوضات أم التجميد).

خامسا، إن التغير السياسي الإسرائيلي، لم يأت صدفة فقد جاء بنتيجة تحولات وتفاعلات في الداخل الإسرائيلي، فثمة نوع من التململ والتذمر من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، مع ازدياد نسبة الطبقات الفقيرة، وثمة وعي متنامي لترابط مسألة التنمية والرخاء الاقتصادي والاجتماعي في إسرائيل بمسألة التسوية مع الفلسطينيين، بعد أن تأكد للإسرائيليين عقم كل الحلول الأمنية، وأن التسوية هي التي يمكن أن تخلق المناخات للاستقرار وللتطور الاقتصادي والاجتماعي وهذا ما يحاول عمير بيرتس توضيحه في خطاباته. في حين يركز شارون على التسوية الأحادية مع الفلسطينيين والانفصال عنهم، للتخلص من الخطر الديمغرافي وكمخرج من الوضع الأمني القلق، وكحل للمتاعب الاقتصادية التي يجلبها الاحتلال على إسرائيل.

أيضا ليس ثمة شك بأن هذه التغييرات (لا سيما خطوة شارون) جاءت في محاولة لتكييف إسرائيل مع الأوضاع الإقليمية والدولية الجديدة، لا سيما للتجاوب مع السياسة الأميركية، وترتيباتها في المنطقة؛ على خلفية المتاعب التي تتعرض لها في العراق، وتدهور صدقيتها بالنسبة لعملية التسوية.

المهم أن إسرائيل دخلت في مرحلة جديدة للتكيّف الداخلي والخارجي، الأمر الذي يتطلب منها تعيين الاصطفافات وتوضيح الانتماءات والتوازنات السياسية الجديدة، للتفكير بالخطوة التالية على مختلف المستويات.