اليهود الشرقيون وعدوى الانغلاق الأشكنازي

كثيراً ما أثار الاستغراب واقع حديث اليهود الشرقيين، كأفراد، عن اندماجهم في الدول العربية التي كانوا يعيشون فيها والانطباع الشائع عنهم، كجماعات، بكراهيتهم لتلك الدول وللمجتمعات العربية. وقد تجلى ذلك في أغلب الأحيان بحنين اليهود العراقيين والمصريين إلى بلاد الرافدين ووادي النيل وتقديس اليهود المغاربة لـ"السلطان" محمد الخامس واعتزاز يهود اليمن بتراثهم العظيم. ولكن ذلك لم يمنع هؤلاء اليهود، في الغالب أيضا، من إظهار العداء للعرب ليس فقط عبر ألفاظ يتفوهون بها أو ممارسات حربية إسرائيلية عامة وإنما كذلك في اصطفافهم حول القوى الأشد يمينية في إسرائيل والتي ترفض السلام مع العرب.

ودأب العديد من الباحثين الإسرائيليين على الإشارة إلى أن هذا التناقض ينبع في الأساس من اختلاف مستوى الحديث في كل منهما. فعند الحديث عن الجانب الفردي يشعر كل يهودي بأنه ابن محيطه وبالتالي يشعر اليهودي العربي بأنه ابن الثقافة العربية التي تتعرض في إسرائيل لاضطهاد بوصفها ثقافة شرقية متخلفة.

ولأن الشرقي، وفق هذا التصور، يشعر أنه ملاحق يبحث عن ملاذ في الحديث عن ماض مشرق كان فيه اليهود في الأقطار العربية ضمن الشرائح الوسطى والعليا وليس كما هي عليه الحال في إسرائيل في الشرائح الدنيا. وثمة بين اليهود الشرقيين من يؤمن حقا بأن المجتمع الإسرائيلي بتقاليده الغربية حطم قواعد الأسرة والأخلاق والتراث الشرقي الذي ترعرعوا في كنفه، وبالتالي يميل هذا البعض لتمجيد الماضي.

غير أن هؤلاء الباحثين يشيرون أيضا إلى أن الشرقيين لم يتماثلوا تماما مع الفكرة الصهيونية وبالتالي شعروا بأنها قادت إلى اقتلاعهم من جذورهم. ولأن الحال كذلك فإن ما لاقوه من عسف في "معسكرات الاستيعاب" من القيادة الصهيونية الأشكنازية التي كانت بإمرة التيار العمالي دفعهم إلى معارضة هذه القيادة. وهكذا صاروا يتماثلون مع اليمين الإسرائيلي الذي كان في المعارضة طوال عقود.

ورغم أن هذا التفسير يتضمن شيئاً من المعقولية في كل ما يتعلق بالفترة، التي كان فيها التيار العمالي سائدا، فإن هذه المعقولية لا تصمد للفترة التي سيطر فيها اليمين على الحكم. فهذه الفترة لم تشهد انتقال الشرقيين من الهامش إلى المركز، بل إن الحكم اليميني بزعامة الليكود خلق كل الظروف لاستمرار وتخليد الضعف الشرقي مقابل الجبروت الأشكنازي في إسرائيل.

وقد ظهرت جهات مثقفة شرقية في إسرائيل حاولت بكل السبل تغيير هذه الصورة وإثبات أن الشرقيين لا يقلون ميلاً للتصالح مع العرب عن الأشكناز. ولكن كل تلك المحاولات باءت بفشل ذريع ولم يتمكن المثقفون الشرقيون هؤلاء من توسيع نفوذهم في شوارع الضواحي الفقيرة أو بلدات الأطراف. وأفلحت حركة شاس في التغلغل في صفوفهم بسرعة قياسية عبر جملة أساليب بينها إثارة الغرائز الطائفية وتعزيز الميل اليميني السياسي إضافة إلى إثارة قضايا الحرمان والتمييز.
وشكلت حركة شاس نوعاً من البديل للقوى الأشكنازية اليمينية سواء الدينية أو العلمانية في تأطير الجمهور الشرقي في إسرائيل. وربما أن ما يجري هذه الأيام من صراع ميداني عنيف بين شاس وكل من الأحزاب الحريدية والليكود على الناخب الشرقي يظهر هذا البديل ويعمق صورته.

غير أن المشكلة تكمن، ربما، في هذا البديل وتشير إليه. ومن الجائز أن هذه هي القيمة الحقيقية للمقالة التي ظهرت في "هآرتس" وتتعلق بأبحاث البروفيسورة مينا روزين حول "اختراع السفارادية". فقد قدمت هنا تبريراً فكرياً للتناقض بين الموقفين الفردي والجماعي لليهود الشرقيين من ثقافتهم ومحيطهم الأصلي. وفي نظرها فإن القادة الأوائل لليهود الشرقيين وبعدهم حركة شاس تبنوا، بخلاف الوقائع، رؤية أشكنازية للواقع. وتشير إلى أنه، رغم خلو الواقع اليهودي الشرقي، في دول الخلافة العثمانية، من مبررات الانغلاق ونفسية المحاصر التي عاشها اليهود الأشكناز في أوروبا الغربية، فإن الشرقيين أصيبوا بالعدوى من الأشكناز.

وإذا أخذنا في الحسبان أن الحركة الحريدية في أساسها هي حركة أشكنازية وأن شاس نشأت أصلا في حضن حركة "أغودات إسرائيل"، فإن من السهل تبين مقدار العدوى الأشكنازية على صعيد العقلية. فالكثير من الشرقيين اليهود الذين نشأوا وترعرعوا في كنف العرب باتوا يعلنون صبح مساء أنهم يعرفون العرب وأنه لا يمكن التعايش معهم. وهذا ما يثير حفيظة الباحثة الأشكنازية التي ترى أن تاريخ هؤلاء الشرقيين تحديدا يشهد بعكس ما يقولون. وبقدر ما يزداد التفاف الشرقيين حول حركة شاس بقدر ما تتعاظم فرص استمرارهم في التمسك برؤية مخالفة للواقع.

حول "القوس الديمقراطي الشرقي"

في حقيقة الأمر تقع إسرائيل في مركز الاهتمام العربي والعالمي عندما يتعلق الأمر بقضايا سياسية وأمنية. وأحيانا هناك من يشير إلى إسرائيل من النواحي العلمية والاقتصادية. غير أنه من النادر التطرق إلى إسرائيل اجتماعيا. فالشأن الاجتماعي تجمد منذ وقت طويل في نظر المتابعين للشأن الإسرائيلي عند حدود الفوارق والفجوات بين الأشكناز والسفاراديم. وربما أن الهجرة الروسية المكثفة في التسعينيات وفرت، لوقت ما، فرصة للحديث عن الفوارق الاجتماعية بين "قدامى" الإسرائيليين والمهاجرين الجدد. ولكن سرعان ما اختفى هذا الحديث لتحل محله بشكل متقطع بعض الإشارات للفلاشا والفلاشمورا والتمييز ضدهم.

والواقع أن حدة التقلبات والتغيرات السياسية والأمنية لم تجمد عمليا الحراك الاجتماعي والفكري في المجتمع الإسرائيلي. فقد انتقلت شرائح ومواقع سكنية من الهوامش إلى المركز وابتعدت شرائح أخرى عن هذا المركز. وباتت الأنباء تمر من دون دوي حول إغلاق كيبوتسات أو خصخصتها أو حتى حول تحويلها لإقامة المستوطنين الذين تم إخلاؤهم من قطاع غزة. كما أن المستوطنات التي كانت في بداياتها مجرد هوامش للمركز احتلت من الناحية الفكرية دور الطليعة ورأس الحربة لليمين الصاعد. وهي المكانة والدور اللذان كانا للكيبوتس في عهود إسرائيل الأولى.
وفي هذا السياق تنقل قسم من مثقفي اليهود الشرقيين من دائرة الصراخ والاحتجاج الشوارعي الذي مثلته حركة الفهود السود في الستينيات إلى اللعب في ملعب الأشكناز. فعلى الصعيد الثقافي شهدت السبعينيات انتقال الإعلام الإسرائيلي من النخبوية الأشكنازية إلى الانفتاح على الشرقيين.

وصارت أغانيهم وتراثهم الثقافي أمرا مقبولا في الإذاعة والتلفزيون ليس بوصفها مادة للأرشيف وإنما بكونها تعبيرًا واقعيًا عن حياة هؤلاء الناس. وترافق ذلك مع احتلال شرقيين لمناصب سياسية ووظيفية أهم ونشوء أحزاب متحررة من الوصاية الأشكنازية.

وفي هذه الأجواء برزت حركة "كيدما" الشرقية التي رأت أن الرد على استهانة المؤسسة الأشكنازية بالتراث الشرقي لليهود يتمثل في ترسيخ الاعتزاز بهذا التراث. وعمدت هذه الحركة إلى إقامة مدارس ونواد لتعزيز الإيمان بأن التراث الشرقي يضاهي بل يتفوق في العديد من الجوانب الروحية على التراث الغربي المادي. وقد أثارت فعاليات هذه الحركة سجالا لا يستهان به حاول إخراج الشرقيين من دائرة التبعية السياسية لليمين.

غير أن النقلة النوعية الأهم على الصعيد الفكري للنخب الشرقية في إسرائيل تمثلت بتشكيل "القوس الديمقراطي الشرقي" في عام 1996. وقد اعتبر هذا التيار نفسه حركة اجتماعية تعمل لتغيير المجتمع الإسرائيلي بشكل شامل على أسس ديمقراطية ومن أجل مجتمع عادل ومتضامن متعدد الثقافات. ولأن هذه حركة ثقافية نابعة من مشاعر الاضطهاد فإنها أخذت على عاتقها العمل على محاربة الأفكار المسبقة التي توجه مؤسسات الحكم والتعليم والثقافة في إسرائيل. وقالت هذه الحركة عن نفسها إنها شرقية الغايات كونية القيم وهي منفتحة على الجميع.

ومن إطلالة على موقع هذا التيار على شبكة الإنترنت يمكن ملاحظة الاهتمامات الاجتماعية والتاريخية لأعضاء هذه الحركة. فالتركيز بارز على حق السكن وعلى سلب المؤسسة السلطوية الإسرائيلية للأراضي والتحكم بتوزيعها لأغراض تخليد الفوارق. كما يهتم الكتاب بالشأنين الاقتصادي والتعليمي من مواقع نقدية متقدمة. وأخيرا التركيز على تاريخ اليهود العرب وثقافتهم.

ولأن كل مؤسسي هذا التيار كانوا من الأكاديميين والكتاب ذوي الميول اليسارية فإنهم ركزوا على أن انتماءهم الشرقي الذي كان لدى بعضهم العربي أيضا هو مصدر افتخارهم. وقد أصدر العديد من هؤلاء المؤسسين كتبا تظهر هذا البعد. ومن بين أبرز كتابات أعضاء هذا التيار كتاب "اليهود العرب، القومية والدين والعرق" للدكتور يهودا شنهاف. ويبحث ذلك الكتاب في السبب الذي جعل المؤسسة الإسرائيلية تركز على شرقية اليهود العرب بدلا من الإشارة لعروبتهم.

بل أن شنهاف كرس جهدا كبيرا لإظهار الظلم الذي لحق باليهود الشرقيين جراء المشروع الصهيوني. وفي مقالة له في "هآرتس" عام 98 كتب عن أن اعتقال السلطات العراقية عام 52 لنشيطين صهيونيين وإعدامهما في بغداد لم يثر تعاطفا لدى اليهود العراقيين في إسرائيل. وأشار إلى وثيقة هي عبارة عن رسالة موجهة من أحد المسؤولين إلى وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك موشيه شاريت توضح أن المهاجرين العراقيين "تملكتهم الشماتة في الصهيونيين المعدومين". فقد ردوا على الإعدام بالقول "هذا انتقام الرب من الحركة التي قادتنا إلى الخراب".

ويعتبر كتاب "بفضل الفارق" للبروفيسور يوسي يونا مرجعا في بلورة فكرة التعددية الثقافية التي يطالب بها هذا التيار. وحسب الإشارات التي أعطيت للكتاب الجديد في الصحف الإسرائيلية فإن الكتاب يعرض طريقا جديدا لتحليل معطيات المجتمع الإسرائيلي وسبل إعادة تنظيمه على أسس أكثر عدالة ومساواة. ويركز الكتاب على ثلاثة ميادين هي التعليم والهجرة وتخصيص الأراضي للسكن. ومع ذلك فإن العنصر الأهم في الكتاب تركيزه على الآليات المستخدمة التي تخلد التمايزات داخل المجتمع الإسرائيلي وتغلفها بشكل مضلل أحيانا.

ومن الواجب عند التعامل مع تيار "القوس الديمقراطي الشرقي" ملاحظة التغييرات التي طرأت على رموزه خلال هذه الفترة القصيرة. وهناك من يعزو ذلك إلى الحراك الاجتماعي الواسع الذي دفع في أعقاب اتفاقات أوسلو إلى التصريح بهوية عربية لهؤلاء اليهود. وها هو يدفع في ظل تعمق الصراع إلى إثارة الغموض حول هذه الهوية.