الأساطير المؤسسة للمشروع الصهيوني

منذ بدايته تأسّس المشروع الصهيوني على الأساطير، ثم جاءت إسرائيل لتعمل على ترسيخ هذه الأساطير في الثقافة الإسرائيلية، كما لدى الرأي العام العالمي، بتحويلها إلى نوع من الأيديولوجيا والقيم المطلقة، التي يحرّم المساس بها.

الأساطير التي فبركتها الصهيونية تمحورت حول ضرورة قيام "وطن قومي لليهود"، وتم اختيار فلسطين، بين مجموعة خيارات، على أساس أسطورة أخرى مفادها أن فلسطين هي بمثابة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وباعتبارها "أرض الميعاد"، حسب الرواية التوراتية.

أما بالنسبة للشعب فقد انطلقت الصهيونية من رفض اندماج اليهود في مجتمعاتهم، بدعوى الاستثناء اليهودي، كما انطلقت من أسطورة نفي المنفى، التي تفترض عودة اليهود إلى فلسطين، عبر تهجيرهم للاستيطان فيها، بدعوى أنهم يعودون لأرضهم التاريخية، التي ظلوا يحلمون بها!

المفارقة أن الصهيونية تذرعت ببعض وقائع اضطهاد اليهود في أوروبا، متناسية تحالفها مع أوروبا (أي مضطهديها) لإنشاء كيانها السياسي، على شكل دولة وظيفية، في منطقة لم تشهد قط اضطهادا لليهود لكونهم يهودا، سيما أن هذه المنطقة هي مهد الأديان السماوية، وهي شكلت عبر تاريخها نموذجا لتعايش الأديان، في وقت كانت فيه الكثير من الدول الأوروبية تشهد مظاهر اللاسامية ومحاكم التفتيش.

ما يؤكد هشاشة هذه الأساطير عدم رواجها بين اليهود أنفسهم بدليل أن بضعة ألوف من اليهود فقط، هم الذين استطاعت الحركة الصهيونية جلبهم إلى فلسطين قبل الحرب العالمية الأولى، وقبل وعد بلفور (1917) الذي قطعته الحكومة المنتدبة على فلسطين (بريطانيا) آنذاك.

فقط في ظروف الحرب العالمية الأولى بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين في الازدياد، ثم تصاعدت في ظروف الحرب العالمية الثانية؛ ومع كل ذلك فإن عدد اليهود في فلسطين في العام 1948، أي لدى قيام دولة إسرائيل، لم يتجاوز 700 ألف شخص، برغم جهود نصف قرن من الزمن، وبرغم كل المعطيات الدولية والإقليمية المواتية! وطبيعي أن الصهيونية استغلت عمليات الاضطهاد النازي لليهود وحولتها إلى أسطورة جديدة، برغم أن النازية كبدت الأوروبيين عموما عشرات ملايين الضحايا من البشر.

هكذا فإن إسرائيل بدورها، بعد قيامها، عملت على صياغة أساطيرها الخاصة، مع استمرار استغلالها لأساطير حاضنتها الصهيونية. ومن هذه الأساطير، مثلا، أنها قامت كثمرة لكفاح حركة التحرر القومي للشعب اليهودي، للتخلص من الانتداب البريطاني، وأنها استطاعت هزيمة سبعة جيوش عربية في حرب 1948، وأن العرب فوتوا الفرص التي قدمت لهم للسلام معها، وأنها مجرد دولة صغيرة وضعيفة يتهددها الأعداء من كل جانب للقضاء عليها بسبب انتمائها للغرب وتبينها الديمقراطية والحداثة!

اللافت أن إسرائيل هذه باتت تصدق الأساطير التي قامت على أساسها، والتي فبركتها، وهذا طبيعي لدولة قامت بفضل جهود مجموعات المهاجرين المستوطنين، وبفضل الدعم السياسي والمادي الخارجي، وتأسّست على أيديولوجيا عنصرية وغيبية واستعمارية تقدّس القوّة الغاشمة وترى في ذاتها قيمة عليا، تجعلها لا تعترف بضحاياها ولا باحتلالها، وبالتالي لا تعترف بمعاناتهم الناجمة عن سياساتها.

في هذا السياق لا تبدو أسطورة التحرر الوطني مقنعة البتة، فإسرائيل أصلا قامت بفضل وعد بلفور البريطاني، ثم إن الحركة الصهيونية جلبت اليهود عبر الهجرة في ظل الانتداب البريطاني. والمعروف أن حكومة الانتداب هذه شجعت على تنمية المؤسسات التمثيلية والخدماتية لمجتمع المستوطنين اليهود في "الييشوف"، كما شجعت على تنمية مؤسساتهم السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية.

ومن الأصل فإن حركة التحرر المزعومة هذه (الصهيونية) وجدت قبل وجود التجمع الاستيطاني اليهودي في فلسطين. والمعنى أن إسرائيل لم تنشأ بصورة طبيعية وعبر مسار تاريخي، وهي ليست نتاجا للتطور الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي لمجتمع المستوطنين اليهود، بقدر ما هي نتاج لتضافر إرادة سياسية جسدتها الحركة الصهيونية ومؤسساتها، مع المعطيات الدولية (إرادة الدول الاستعمارية الكبرى خاصة بريطانيا ثم الولايات المتحدة) التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن العشرين؛ والتي تواطأت بشكل غير مباشر مع هشاشة الأوضاع في المنطقة العربية.

أما بالنسبة لهزيمة الدول العربية في حرب 48 فهي أسطورة إسرائيلية أخرى، تسعى من ورائها إسرائيل لتعظيم قدراتها من ناحية، ولإظهار نفسها بصورة الضحية التي يحيط بها الأعداء، من ناحية أخرى. وفي الواقع فإنه من الصعب الحديث عن حرب جيوش بمعنى الكلمة، فالدول العربية، التي كانت حينها نالت استقلالها للتو، بالكاد كان لديها جيوش في ذلك الوقت. وللعلم فإن أفراد هذه الجيوش (التي لم تكن موحدة) لم يتجاوز الأربعين ألفا، في حين أن القوات الصهيونية التي جرى توحيدها بلغ عددها زهاء 90 ألفا، من حوالي 700 ألف مستوطن.

وطوال أكثر من نصف قرن من الزمن ظلت إسرائيل تتبجح بأسطورة أنها دولة محاصرة وأن العرب يريدون القضاء عليها ورميها في البحر، في حين أنها هي من تعتدي على العرب وتحتل أراضيهم، ثم أنها تعتبر أقوى دولة في المنطقة من الناحية العسكرية، لا سيما أنها تحتكر التسلح النووي، وتتمتع بضمانة أكبر دولة في العالم لأمنها ولتفوقها الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري. وفي إحصائية إسرائيلية عن عدد قتلى إسرائيل في كل حروبها مع العرب ما يؤكد ذلك، ففي كل الحروب والعمليات الفدائية قتل من الإسرائيليين حوالي 20 ألف شخص بين العام 1948 وحتى الآن، في حين قتل من العرب أضعاف هذا العدد بفعل الآلة الحربية الإسرائيلية، ناهيك عن أعمال التدمير ضد المنشآت المدنية.

يبقى أن إسرائيل تحاول دائما التسلي بأسطورة أن العرب يتحملون المسؤولية عن كل ما يجري، من صراعات وحروب، بدعوى أنهم يضيعون فرصة تلو الأخرى. في حين أن إسرائيل عملت منذ العام 1948 على انتهاك قرار التقسيم، باحتلال جزء من أراضي فلسطين المخصصة للدولة العربية المقترحة، ثم إنها حالت دون تمكين الفلسطينيين من السيادة على الأراضي التي بقيت لهم، وتملصت من مجمل قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية. وإسرائيل هذه عملت على تقويض عملية التسوية التي انطلقت من مؤتمر مدريد (1991) وهي المسؤولة عن انهيار اتفاق أوسلو (1993)، ثم إنها هي التي رفضت المبادرة العربية للسلام (آذار/ مارس 2002) التي أقرتها قمة بيروت، وحتى أنها تعمل الآن على التملص من خطة خريطة الطريق التي تدعمها إدارة بوش.

واضح أن إسرائيل ستظل تواصل نهجها في فبركة الأساطير، وهي تشتغل على ذلك بدأب وببجاحة منقطعة النظير. ولعل أكثر ما يثير السخرية، والمرارة أيضا، ادعاء إسرائيل أنها ضحية! وأن الفلسطينيين الذين تحتل أراضيهم وتغتصب حقوقهم وحياتهم ومستقبلهم هم المسؤولون عن ممارساتها القمعية ضدهم، وهم الذين يتحملون وزر التشوهات الأخلاقية التي تلحق بها!

من كل ذلك يبدو أنه ثمة أهمية كبيرة لتفنيد وتعرية الأساطير الإسرائيلية، ونزع القناع الأخلاقي والحضاري الذي تحاول إسرائيل أن تختبىء خلفه، وإظهار احتلالها على حقيقته باعتباره آخر الظواهر الاستعمارية الباقية من القرن العشرين.