إسرائيل و"ضربتا" الفقر وإعلام الأغنياء

بالتزامن مع عيد الفصح العبري نشر موقع "واينت" الالكتروني، التابع لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، في الأسبوع الماضي عشرة مقالات متنوعة، أسماها الضربات العشر، تيمنًا بالضربات العشر التي تلقاها فرعون لإجباره على السماح لليهود بمغادرة مصر. لكن ضربات اليوم تتعلق بأزمات يعيشها المجتمع الإسرائيلي. واختار "المشهد الإسرائيلي" من هذه الضربات "ضربتين"، الواحدة مكملة للأخرى، تتحدثان عن تفاصيل دقيقة في داخل المجتمع الإسرائيلي. الضربة الأولى لأحد جوانب الفقر في اسرائيل، ومعاناة الامهات المعيلات لوحدهن لعائلاتهن، اللاتي كن يحصلن على مخصصات وتسهيلات مقبولة نوعا ما، وعلى الرغم من تواضعها إلا أن السياسة الاقتصادية التي تنتهجها حكومة اريئيل شارون، بقيادة وزير المالية بنيامين نتنياهو، قضت على هذه المخصصات. وفي المقال الأول نقرأ مونولوجا لأم من هؤلاء الامهات حول حياتها ومعاناتها.

أما المقال الثاني فهو بقلم الصحفية التقدمية المعروفة شيلي يحيموفيتش (القناة التلفزيونية الثانية)، التي هاجمت زملاءها الصحفيين بسبب كيفية تعاملهم مع السياسة الاقتصادية، وكيف انهم جعلوا من أنفسهم أبواقا لكبار أصحاب رؤوس الأموال الذين يبلورون الواقع والسياسة في اسرائيل كما تؤكد ذلك يحيموفيتش.

وفي ما يلي نص المقالين:

أعيش ذكريات الماضي لأنه ليس لدي مال الآن

(مونولوج أم معيلة وحيدة لعائلتها)

"يا أمي لمن أضحي ومن أجل ماذا اضحي؟"، تسألني ابنتي التي تسلمت في هذه الأيام أمر تجنيد في الجيش، فهي لن تذهب الى الجيش، نقطة وانتهى. لماذا عليها أن تذهب؟ هل من أحد يساعدنا الآن؟ لو كانت لدينا الامكانيات، لكنا منذ زمن قد طرنا من هنا، وتركنا هذه البلاد.

أنا اورشليمية، ابنة 38 عاما، أم أعيل لوحدي عائلتي، هم في العشرية الثانية من اعمارهم، أعمل موظفة مسؤولة في مؤسسة حكومية، وأنا متعلمة وجامعية، وأعمل الكثير من الساعات الاضافية، وعلى الرغم من هذا فأنا أحصل على 4200 شاقل شهريا غير صافي (التقدير أن راتبها الصافي هو أقل بقليل من هذا، وهو حوالي 900 دولار، وهو أقرب لراتب الحد الادنى لعائلة من اربعة انفار- المحرر)، فأنا لم أكن مليونيرة، ولكن حين كنت اتلقى مخصصات نفقة بقيمة 1500 شاقل شهريا من مؤسسة الضمان الاجتماعي، كأم اعيل لوحدي عائلتي، كان بإمكاني أن ارتب أموري، وكان بإمكاني أن أسدد الحد الأدنى من واجباتي بصعوبة، وعلى الأقل نجحت في هذا. ولكن هذا لم يعد ممكنا بعد ان وجه لنا بيبي (بنيامين) نتنياهو ضربة، وصعّب شروط الحصول على مخصصات النفقة، وحرم كل من تكسب شهريا من عملها 4100 شاقل أن تحصل على هذه النفقة.

لربما ان الناس لن تفهم الفارق الضخم، فقبل تقليص المخصصات كان بإمكاني ان ارسل ابنائي الى دورات رياضية وفنية وغيرها بعد الدراسة، فابني الكبير يعشق رياضة التنس وهو ناجح جدا فيها، وابنتي اشترت قيثارة مستعملة، ولكن ليس بامكاني ان ارسلهم الى دورات تعليمية، إلا أن الأكثر خطورة كان حين أوقفت برامج التوفير المالي لابنائي من اجل صرفها على تعليمهم الجامعي مستقبلا، وأنا عمليا لا استطيع ان اشتري لهم الحاضر والمستقبل، فنحن كل الوقت نعيش ذكريات الماضي فقط.

أشعر بالانهيار، وكأنني منقطعة عن كل شيء يدور من حولي، فهل عليّ ان ابحث في سلال القمامة لكي الفت انتباههم. كلهم يتحدثون عن الوضع الأمني، ولكن الأمر الوحيد الذي يعنيني هو ان أذهب في كل صباح الى عملي وأن اعود مساء الى بيتي، لكي يكون للاولاد ما يأكلونه، لم يعد بامكاني ان ادفع الرسوم للمدارس، فأولادي يعيشون في ظروف متواضعة جدا، ويخافون أن يطلبوا شيئا.

بامكان وزير المالية (نتنياهو) ان يتحدث عن النمو الاقتصادي، وان يعرض علينا توقعات وردية ورسوما بيانية ملونة، ولكنني لا أفهم من أين يستقي هذه التفاهات التي يتحدث عنها، فهو لم يتعامل معنا كبشر ابدا، وهو لا يعرف عنا شيئا، فبالنسبة له أنا مجرد رقم احصائي.

حين انطلقت "فيكي كنافو" في مسيرتها (لنصرة الامهات اللاتي يعلن عائلاتهن لوحدهن، قبل عام ونصف العام- المحرر)، كنت انا الند لكل ادعاءات نتنياهو بأنه علينا ان نتوجه الى العمل، فها أنا أعمل، ولكنني أشعر أنني مغدورة، لقد فعلت ما قاله، ولكنه لم ينتبه لي، عرضوني عليه كنموذج لأم عاملة وأخذوا منها مخصصات النفقة، ولكن هذا لم يؤثر عليه ابدا، وأنا من جهتي ليس لدي الوقت لهذه المعارك، عليّ ان ابحث عن رزقي، فأنا أشاهد نتنياهو على شاشة التلفزيون، وبنفس الوقت انظر للحضيض الذي يعيشه ابنائي.

لم يعد يحق لي أي شيء، لا سلة غذاء، ولا مساعدة في علاج الاسنان، ولا تخفيضات في الضرائب البلدية وغيرها (تسهيلات للعائلات الفقيرة)، كما انه ليس بامكاني ان أتوجه الى قسم الرفاه الاجتماعي، ولا أن ابكي أمام العامل الاجتماعي، فأنا في نظر القوانين الجافة امرأة عاملة، ولا يمكن إدراجي على قوائم مستحقي المعونات، لقد فقدوا المشاعر والاحساس منذ زمن، فهم يحاولون ارسال ابنائي الى مدارس داخلية، وهذا لن يحدث ولا حتى على جثتي الهامدة، لن أتخلى عن اولادي، فأولادي لي وأنا لاولادي، وليس لدينا أي شخص آخر.

أحاول ان اتستر على الواقع، وأنا لا اتحدث بقسوة على مسمع ابنائي، ولكنهم يفهمون كل شيء، صحيح انهم ابنائي وأنا التي انجبتهم بارادتي، ولكنني لم اختر الطلاق، ولم يخطر ببالي أبدا ان لا أحصل على قرش واحد من والد ابنائي، ولكن الآن مهمتي تربيتهم، وهذا ما افعله، ويظل السؤال على أي مثل وقيم يجب أن أربي ابنائي؟.

جوقة مشجعي أصحاب رأس المال

(مونولوج الصحفية شيلي يحيموفيتش)

"دعك من الأرقام وحدثني عما تراه عيناك"، قالت المذيعة السائلة لمدير عام مؤسسة الضمان الاجتماعي (التأمين الوطني)، يغئال بن شالوم. فهل بن شالوم عرض عليها صيغة حسابية لانشطار الذرة، حتى انها اندفعت لتمنعه من عرض الارقام؟، بالطبع لا، كل ما أراد هذا المسؤول تفسيره هو أن التقليص الحاد في مخصصات الشيخوخة والاولاد والعاطلين عن العمل لم يوفر على خزينة الدولة ستة مليارات شاقل (1,36 مليار دولار)، لأن هذه الأموال تحولت مباشرة الى كبار اصحاب رؤوس المال، من خلال تسهيلات ضريبية.

أهذا معقد؟ بالتأكيد لا، فالغالبية الساحقة من الصحفيين تسمع الارقام وتشعر مباشرة بضغط نفسي، "دعك من الأرقام وحدثني عما تراه عيناك"، حسنا، أنا أرى مسنين يبحثون عن طعامهم في سلال القمامة، وثلاجات فارغة واولاد جوعى، فهل هذا جيد لك؟ نعم انه حسن، الآن بامكاني ان استوعب.

يوجد في وسائل الاعلام الاسرائيلية الكثير من الصحفيين، الذين يجعلون من أنفسهم مع كامل وعيهم وإيمانهم، جوقة متحمسة للسياسة الاقتصادية الخاسرة، وبوقا لاصحاب رأس المال. هؤلاء الصحفيون جعلوا من انفسهم مؤيدين بشكل أعمى لكل خصخصة، ويصفقون لكل موجة فصل جماعي، فهم يصفون هذا بأنه تنجيع للعمل. هؤلاء الصحفيون يهاجمون كل اضراب عمالي، ويدعون انه "ضربة للجمهور"، وكأن المضربين ليسوا من الجمهور، وكأنه محظور على العمال ان ينظموا انفسهم وان يحسنوا اوضاعهم، وهم يبررون كل اشكال تحويل الاموال للمشغلين، والتسهيلات الضريبية التي يتلقونها، ويهاجمون في نفس الوقت مخصصات الاولاد، ويهزأون من أية فكرة لرفع الحد الادنى من الأجر.

وهذه مواقف عدا عن كونها، من وجهة نظري، غير عادلة وليست صحيحة، فإنها ايضا انفعالية، لأن كل التحركات في سوق العمل، من فصل يومي، وفقدان الثقة بثبات العمل، والاجور الزهيدة، كل هذا يمس ايضا بمهنة الصحافة، فحين يسجد زملائي "لقوة السوق"، فهذه القوة ذاتها ترسل لاصدقائها الصحفيين رسائل الفصل من العمل عشية العيد.

ولكن هناك ضربة أقسى من ضربة السجود لاصحاب رأس المال. إنها ضربة الضحالة، وإن عبارة "دعك من الأرقام وحدثني عما تراه عيناك" تعبر عن هذه الضحالة. وهذا توجه يتفشى في وسائل الاعلام، حيث يتم تفضيل سماع أحاديث التعاطف مع الفقراء المساكين، بدلا من معالجة القضايا الاقتصادية الاساسية التي تنتج هذا الفقر. وحتى الآن هناك الكثير من الصحفيين الهامين في الصحافة والذين يُعتبرون محللين، وأصحاب أعمدة ثابتة، ومذيعين يجرون المقابلات ومراسلين كبار، ويظهرون امامنا وكأنهم خبراء في الشؤون الحزبية والسياسية، يتضح انهم يجهلون المعطيات الاساسية والحقيقية في المجال الاقتصادي.

لماذا هذا الأمر هو مشكلتي؟ لأنه في العقد الأخير أصبحت مصالح أصحاب رأس المال تبلور واقعنا أكثر من السياسيين، فأصحاب رأس المال معنا دائما، وهم ينقلون قوتهم الى ابنائهم وأحفادهم، أما السياسيون فإنهم يتبدلون حسب تصويتنا.

اسمعوا هذه الحكاية الجميلة حول الأرقام: عشية التصويت على الميزانية، انفجرت عاصفة في لجنة الشؤون المالية البرلمانية، فأعضاء الكنيست الذين كانت أصواتهم مضمونة كمؤيدة للميزانية اكتشفوا فجأة انه مطلوب منهم المصادقة على صفقة مخجلة بين أصحاب العمل ووزارة المالية، ولدت بخطأ كبير من موظف في وزارة المالية. وحسب الصفقة، فإن المشغلين وافقوا على طلب وزارة المالية "لانقاذ" صناديق التقاعد، وعلى أن يرفعوا النسبة التي يدفعونها عن العاملين لديهم بنصف بالمئة، وفي المقابل فإنهم حصلوا من الدولة على تعويض يتمثل بتخفيض بنسبة نصف بالمئة في الرسوم التي يدفعونها لمؤسسة الضمان الاجتماعي، بمعنى نصف بالمئة مقابل نصف بالمئة، ويخيل ان هذا منطقي، أليس كذلك؟ ولكن الذكي الذي أقدم على هذه الخطوة نسي عما يجري الحديث، فالنصف في المئة التي سيدفعها أصحاب العمل زيادة في رسوم التقاعد يبلغ حجمها الاجمالي 300 مليون شاقل، بينما النصف بالمئة التي سيحصل عليها المشغلون كتخفيض في رسوم التأمين تساوي ثلاثة مليارات وثلاثمائة مليون شاقل.

وهكذا بجرة قلم اختفت ثلاثة مليارات شاقل. صحيح أنها قصة بسيطة، وواضحة وفضيحة؟ وصحيح أنه لم نكن بحاجة الى تفكير كبير لاستيعابها وفهمها؟. مع ذلك ففي ذلك الأسبوع تحدث ثلاثة صحفيين فقط عن هذا الأمر، روت سيناي في "هآرتس" وجال جباي في برنامج "برلمان"، وأنا (شيلي يحيموفيتش) في "ستوديو الجمعة".

لربما أن الصحفيين الذي أموا الكنيست في ذلك اليوم، وكان عليهم ان يلتقطوا القصة الساخنة ويركضوا حاملينها الى هيئات التحرير، أو المحررين الذين وصلت هذه القصة إلى أياديهم، لم يروا سوى رقمين، فأصابتهم ضربة خوف، لأنه "دعك من الأرقام وحدثني عما تراه عيناك".

سمعت قبل فترة قصيرة محللا كبيرا، وحتى أنه اصدر كتبا عن الصراعات السياسية، يستنكر موقف وزير المالية بنيامين نتنياهو لأنه يعارض خطة الفصل عن قطاع غزة، ويقول: "ليس كل ما يفعله بيبي نتنياهو هو سيء، إذ يقولون لي إنه في الاقتصاد يفعل أمورا ممتازة، أنا لا أفهم بهذه الأمور ولكنهم هكذا يقولون لي". عفوا، بأي حق انت لا تفهم بهذه الأمور؟ بأي حق تسمح لنفسك بأن تقدم تحليلات عن أمور تتعلق بحياتنا، وتحلل سياسة مصيرية وحاسمة؟ فما تدعي انك لا تفهمه هو مصيري أكثر من خطة الفصل؟.

وهذا يقودنا إلى ضربة أخرى، تستحق معالجة منفردة: ضربة الحماس لخطة الفصل، التجند الكامل لوسائل الإعلام للدفاع عن رئيس الحكومة الملوّث بالفساد. إن وسائل الاعلام، اليسارية بمعظمها، تتجند الآن لطرد المستوطنين. وفي نهاية اليوم سنبقى هنا من دون بضع بلدات في قطاع غزة، ولكن مع الكثير من الأرقام التي لم يكن لدينا وقت لدراستها، وسنغرق في دولة تسيطر عليها الميزتان الأبرز لجمهورية الموز: مستوى مترد لنزاهة الحكم، وفجوات ضخمة بين الفقراء والأغنياء. فلتحيا خطة الفصل.