الناصرة 2003: عين على فلسطين والأخرى على العراق...

في منتصف مسيرة الناصرة الاحتجاجية على العدوان الامريكي على العراق، هطل رذاذ خفيف. كان هناك من قال: إن الدنيا تبكي على العراق. الأرجح أنها كانت تبكي علينا، نحن العرب في إسرائيل، لأننا نخرج للتظاهر ضد كل الحروب، وننسى في خضم ذلك أننا بحاجة لمن يتظاهر من أجلنا، في وضعنا المأساوي على كل الصُعُد.

بقلم: علاء حليحل

تناقش المتظاهرون والصحفيون، يوم السبت (22/3)، بشأن عدد المتظاهرين الذين ساروا في شارع الناصرة الرئيسي، ضد الحرب على العراق، بدعوة وتنظيم من "التجمع الوطني الديمقراطي". البعض قال 500 والبعض قال ألفًا والبعض ألفًا وخمسمئة وكان هناك من قال ألفين ونيّفًا. في كل الحالات لم يكن من الممكن أبدًا الجنوح نحو أكثر من ثلاثة آلاف متظاهر (في البيان الرسمي الذي أصدره "التجمع" ورد حضور ثلاثة آلاف مشترك). بحسب كل المعايير، وفي ضوء أن هذه المظاهرة هي الأولى التي تُنظم بعد اندلاع الحرب، يبدو العدد صغيرًا جدًا.

في هذا العدد دلائل عديدة، ولكنه لا يشير إلى فشل "التجمع" في تنظيم مظاهرة حاشدة وأكبر، أو إلى فشل مستقبلي لأي حزب آخر، في تنظيم مظاهرات حاشدة. الحضور القليل في المظاهرة كان مرده إلى أسباب أخرى.

النائب عزمي بشارة تطرق في خطابه في نهاية المظاهرة إلى أهم هذه الأسباب: "لا تبقوا أمام التلفزيون طول النهار.. يمكن مشاهدة الأخبار مرة أو مرتين.. عليكم الخروج إلى الشوارع والتظاهر وتسجيل الموقف".

إذن فالتلفزيون هو العلة، وهذا صحيح. التلفزيون والشعور بالعجز هما السبب. الاحساس بالعجز الخانق الذي يسيطر على العرب الفلسطينيين في إسرائيل، منذ إندلاع الانتفاضة الثانية وإجتياح المدن الفلسطينية، مرورًا بالحرب الحالية، ما زال مستمرًا. أخالُ العرب مواطني إسرائيل يهزّون أكتافهم بارتباك ويقولون بينهم وبين أنفسهم: "وشو طالع بأيدنا؟".

وهنا الشّرَك الكبير: المواطن الفلسطيني "العاجز" في إسرائيل يجد ملاذه في شاشة "الجزيرة" أو "العربية" أو "أبو ظبي" أو "المستقبل" والقائمة تطول. التلفزيون تحول منذ مدة إلى "أفيون الحروب". تحولت المشاهدة إلى أضعف الأيمان، ومشاهد القتل والدمار الآتية من العراق تثبت ما يفكر به العرب في صالوناتهم بالسر والعلن: لا شيء ينفع!

بشارة توجه للناس، إعتمادًا على هذه النقطة: "من المهم جدًا تسجيل موقف الآن، تحسبًا من الحروب الآتية بعد هذه الحرب، التي بدأت إسرائيل بالدعوة لها ضد سوريا وإيران.. علينا نحن هنا واجب مضاعف، لأن إسرائيل خالية من أية حركة يسارية حقيقية.. علينا واجبات كعرب وكمواطنين".. ثم توجه إلى الذين يجلسون في بيوتهم، مع كثير من التوبيخ: "إذًا في سان فرانسيسكو ونيويورك عم بخرجوا وبنحبسوا، وإحنا قاعدين في البيوت.. مش عيب هذا الكلام"؟..

على الرصيف الكبير المقابل لمحطة باصات العفيفي (الجليل)، وقف شابان مع شعارات كبيرة. منذ بداية التحضير للعدوان اجتمع عشرة شبان عرب من الناصرة وصاروا يعلقون صور الضحايا العراقيين من الحرب السابقة، على الأعمدة والجدران في نفس الموقع، في نهاية كل أسبوع. إسمهم: "شباب من أجل العراق". الشاب الذي كان يفتح الشعار الكبير ("إشهد يا عالم علينا وعلى العراق") قال لي إن الفلسطينيين والعراقيين يُقتلون بنفس الأسلحة، وما يفعلونه في إعتصامهم الأسبوعي هو من أجل الشعبين. الناصرة 2003: عين على فلسطين والأخرى على العراق...

منذ بداية كلمة بشارة وحتى نهايتها، حوّمت فوق الجمع الكثيف طائرة هليكوبتر صغيرة، ليس عليها أية إِشارة أو كلمة رسمية. المروحية حلقت على إرتفاع منخفض وكان بالامكان رؤية المصور وهو يحمل الكاميرا، ويرتدي الجينز الأزرق والكنزة الكحلية. الجميع أجمع على أنهم من قوات الأمن العام ("شين بيت")، وفقط بشارة لم يكترث بها وطلب من الجميع ألا يعيروا المروحية الاهتمام، بالهتف ورفع إشارة النصر صوبها، "لأنه لا يسمعكم" (بعد نجاة "التجمع" وبشارة من براثن إلغاء مشاركتهما في الانتخابات الأخيرة، من الممكن الافتراض أن "الشاباك" الذي سعى من أجل ذلك المنع، سيسعى في المستقبل أيضًا، ومن هنا إهتمامه بتوثيق كل كلمة وحركة لبشارة و"التجمع").

ووسط هذا الاجماع كان هناك من اقترح عدم الانجراف في التكهنات، وقال إن هذه المروحية تصور لصالح قناة تلفزيونية. يجوز. أثناء ذلك استمر بشارة ساخرًا: "جريدة ‘يديعوت أحرونوت‘ خرجت بعنوان قبل الحرب بأيام تقول فيه ‘إطمئنّوا.. توجد حرب‘!! هذه الدولة الوحيدة في العالم التي تُطمئن فيها مواطنيها بإعلان الحروب"!...

الشعارات في المظاهرة كانت مكتوبة ومعدة مسبقًا، وأُخمِدت فورًا محاولة بعض المتحمسين الانطلاق بشعارات إشكالية غير متفق عليها. أمثلة لبعض الهتافات: "إحنا تجمُّع إحنا ضاد، إحنا شعبك يا بغداد"؛ "... يا بن الأيه، يا عميل السي آي أيه"؛ "شو ما انحكى وشو ما انقال، حكام العرب أنذال"؛ بالاضافة طبعًا إلى الشعارات "الفلسطينية" التي جُيّرت لصالح العراق. في منتصف المسيرة هطل رذاذ خفيف. كان هناك من قال إن الدنيا تبكي على العراق. الأرجح أنها كانت تبكي علينا، نحن العرب في إسرائيل، لأننا نخرج للتظاهر ضد كل الحروب، وننسى في خضم ذلك أننا بحاجة لمن يتظاهر من أجلنا، في وضعنا المأساوي على كل الصُعُد. المواطن العربي في إسرائيل يعيش كل قضايا العرب ويعبر عنها بصوته وجسده، ولكن يبدو مع الوقت أن هذا الصوت قد بُحّ بعض الشيء وأن هذا الجسد قد تعب البعض الآخر. في الحالتين، نأمل أن يكون الأمران جرثومةً عابرةً يغسلها المطر!

(حيفا)