"كسيفة": نموذج لمعاناة البدو في النقب

طبقا لمعطيات البطالة الأخيرة التي نشرها الأسبوع الفائت مكتب الإحصاء المركزي ومصلحة التشغيل، فإن بلدة "كسيفة" البدوية في النقب تحتل المكان الأول في لائحة البطالة، حيث بلغت نسبة البطالة فيها 22%. ولكن رئسي المجلس المحلي، سالم أبو ربيعة، ورئيس دائرة الرفاه المحلية عبد الله أبو شريقي، قالا إن نسبة البطالة في البلدة تبلغ عمليا ضعف النسبة المذكورة، أي ما يقارب نصف قوة العمل..

بقلم: يوسف الغازي

طبقا لمعطيات البطالة الأخيرة التي نشرها الأسبوع الفائت مكتب الإحصاء المركزي ومصلحة التشغيل، فإن بلدة "كسيفة" البدوية في النقب تحتل المكان الأول في لائحة البطالة، حيث بلغت نسبة البطالة فيها 22%. ولكن رئسي المجلس المحلي، سالم أبو ربيعة، ورئيس دائرة الرفاه المحلية عبد الله أبو شريقي، قالا إن نسبة البطالة في البلدة تبلغ عمليا ضعف النسبة المذكورة، أي ما يقارب نصف قوة العمل. وأوضحا أن المعطيات الرسمية تشمل فقط الأشخاص الذين يتسجلون بصورة دائمة في مكتب العمل في "عراد" التي تبعد حوالي 15 كم عن بلدة "كسيفة"، ولا تشمل العاطلين الذين لا يسجلون أنفسهم لإدراكهم بأن ذلك لن يعود عليهم سوى بهدر وقتهم ونقودهم في السفر بلا جدوى. إلى ذلك فإن المعطيات المذكورة لا تشمل معظم النساء البالغات في البلدة، علما أنه لو توفرت لغالبيتهن الإمكانية بالعمل داخل البلدة نفسها لما كن قد تأخرن أو تردن في قبول هذه الفرصة. وتشكل البطالة المتفشية عاملا من ضمن مجموعة تقصيرات في مجالات التخطيط البشري، والمادي والإجتماعي، تجعل بلدة "كسيفة" مكانا يرتبط العيش فيه بالمعاناة الشديدة. ويقول سكان البلدة إن المشكلة تتلخص في أن القرارات المتعلقة بحياتهم لا تتخذ من منطلق مراعاة مصالحهم أو أخذها بنظر الإعتبار.. بل العكس، فإن معظم هذه القرارات تلحق الضرر بهم وتخدم مصالح مناقضة لمصالحهم.

وعلى سبيل المثال فإن الإعلان عن إقامة بلدة الكسيفة جاء نتيجة لإخلاء سكان منطقة "تل الملح" عام 1981 لصالح إقامة المطار العسكري في المنطقة (مطار نبطيم) في نطاق إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي عقب الإنسحاب من سيناء. وقد رحل السكان وقتئذ إلى بلدتين مأهولتين في النقب، هما من ضمن القرى البدوية غير المعترف بها من جانب سلطات الدولة. ويبلغ حاليا مجموع السكان المرحلين إلى القريتين (كسيفة وعرعرة- النقب) حوالي 9 آلاف نسمة. يقول أبو ربيعة: "السلطات التي قررت إقامة كسيفة قبل عشرين عاما عمدت إلى حل المشكلات التي تعنيها فقط، مثل إقامة المطار العسكري، لكنها لم تأبه منذ ذلك الحين بحل العديد من المشاكل التي خلقتها هذه السلطات نفسها خلال مراحل التخطيط المتسرعة".

المشكلة الرئيسية الناجمة عن ذلك التخطيط المتسرع، والتي لا تزال قائمة حتى اليوم، تتمثل في الشبكة الهزيلة والمهلهلة للشوارع والكهرباء والمياه في منطقة نفوذ البلدة الممتدة على مساحة تقدر بـ 14 ألف دونم. ولا تزال نصف بيوت البلدة حتى الآن بدون شبكة مجاري، مما اضطر أصحابها لحفر آبار امتصاصية.

إضافة إلى ذلك فإن معظم العائلات البدوية التي رحلت من "تل الملح" تقيم على أراضٍ في وسط البلدة لم تسوَّ حتى الآن مع السلطات مسألة ملكيتها. فهناك نزاع مضى عليه سنوات طويلة بين السلطات وبين ملاكي معظم أراضي الكسيفة.

ويعيش حول مركز أو وسط البلدة النصف الثاني من سكان كسيفة، وهؤلاء هم السكان الأصليون الذين يعيشون في المكان منذ أجيال عدة. ظاهريا، يعيش هؤلاء في مجال نفوذ البلدة المعترف به، حيث توجد سلطة محلية منتخبة، لكنهم لا زالوا من الناحية العملية يعيشون في ظل نفس الظروف التي عاشوها في الماضي، والتي يصفونها بأنها كظروف الشتات، كما هو الحال في القرى غير المعترف بها. ولا يزال قسم كبير منهم يقيمون في دور من الصفيح والخيم، ويقيم البعض في مبانٍ غير مرخصة، دون بنى تحتية أو خدمات. ولا توجد في هذه الأحياء شوارع معبدة، ولا أرصفة ولا قنوات لتصريف المياه. وبالطبع فهي غير مربوطة بشبكة الكهرباء ناهيكم عن غياب الخدمات الأساسية الأخرى. لذلك فإن سكان هذه الأحياء يرفضون دفع ضريبة الأرنونا التي تطالبهم السلطات بدفعها رغم الظروف المذكورة التي يعيشون في ظلها.

رئيس المجلس المحلي، سالم أبو ربيعة، 39 عاما، الحاصل على اللقب الجامعي الثاني (الماجستير) في الـ "بيوكيمياء" والذي عمل سابقا مديراً لمدرسة، انتخب لرئاسة مجلس الكسيفة التي ولد فيها، في الإنتخابات المحلية الأولى التي نظمت في البلدة عام 2000. وكغالبية بدو النقب، يعتقد أبو ربيعة أن السلطات أقامت القرى الدائمة السبع لبدو النقب، بهدف الإستيلاء على أراضي البدو. أولا وقبل كل شيء، وذلك دون التوصل إلى تسوية عادلة أو منصفة معهم حول موضوع هذه الأراضي. ويقول أبو ربيعة متهما، إن "الحقيقةَ الأمرّ تكمن في أنه وفي نطاق تكريس التخطيط المتسرع والمهلهل منذ البداية، وعلى مدى عشرين عاما من قيام الكسيفة كبلدة دائمة، لم تقم السلطات بتنفيذ أي مشروع أو خطة لإيجاد مصادر رزق (عمل) مستقلة في البلدة أو في البلدات والقرى المجاورة، ولهذا السبب تعاني البلدة من موجة بطالة متفاقمة".

* لا مصادر عمل ولا ميزانيات

في الكسيفة، يشكل الشبان الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما حوالي ثلثي مجموع السكان. وتقتقد البلدة إلى منطقة صناعية أو منطقة مهنية، ولذلك فإن مصدري الدخل الثابتين الوحيدين في البلدة هما المجلس المحلي ومؤسسات التعليم حيث يعمل فيهما نحو 250 مستخدما. ويعمل بضع عشرات من الرجال في الجيش والشرطة (الاسرائيليين)، فيما تعمل باقي الأيدي العاملة في خدمات محلية وأعمال أخرى مختلفة معظمها خارج البلدة. مركز التشغيل في المجلس المحلي، إسماعيل أبو مطير، يقول إن "سكان كسيفة يواجهون صعوبة في الحصول على عمل في المدن، مثل عراد وديمونا، وذلك لسببين رئيسيين: الأول معلن، وهو التحصيل المتدني لدى هؤلاء السكان بصورة عامة، والسبب الثاني غير معلن ويتمثل في حقيقة كونهم بدواً. أمام هذين التبريرين يقف الناس هنا لا حول لهم ولا قوة".

مدير دائرة الرفاة الإجتماعي في كسيفة، أبو شريكي، قال إن دائرته تعالج نحو 450 ملفا في البلدة التي تضم 700 أسرة. وأشار إلى أنه قد سجل خلال السنة الاخيرة ارتفاع في عدد المتوجهين الى مكتب الرفاه المحلي وذلك جراء البطالة وتقليص مخصصات التأمين الوطني. ويؤكد أبو شريكي أن سبب الضائقة التي يعاني منها نصف المتوجهين إلى دائرته هو غياب مصادر الدخل ووسائل المعيشة. وكمثال يشير أبو شريكي إلى النساء اللواتي يُعِلنَ أبناءَهن إثر تزوج أزواجهن من نساء أخريات. ويقول موضحا إن سلطات الرفاه توقفت خلال السنة الأخيرة عن صرف مخصصات لهذه الفئة من النساء البدويات بدعوى أن تحريات هذه السلطات أظهرت أنهن يقمن مع أولادهن في مكان قريب من مكان إقامة أزواجهن وبالتالي يستطعن العيش معهم بصورة مشتركة دون حاجة للحصول على ضمان دخل. هذا الوضع، كما يقول أبو شريكي، يلحق ضررا بالمرأة وأطفالها ويجعلهم في حالة عوز شديد.

وبحسب ما يرى أبو شريكي وأبو ربيعة فإن للبطالة والضائقة الإقتصادية في "كسيفة" انعكاسات اجتماعية خطيرة جدا تضر بشكل أساسي بالفئات الضعيفة والشبان. ويفكر أبو شريكي بصورة جادة بإقامة دار لتقديم الطعام بالمجان للمحتاجين في البلدة، في محاولة لمواجهة المشكلة التي تعاني منها بعض فئات السكان على هذا الصعيد. ويقول: "صحيح أن مطاعم الفقراء ظاهرة غير مألوفة لدى البدو، لكننا سنضطر لاتباعها لعدم وجود حل آخر"، فالمساعدات التي تقدمها للمحتاجين بعض الجمعيات الخيرية العاملة في المنطقة، لا تفي بالغرض.

ويحذر المسؤولون في البلدة من الآثار والإنعكاسات الخطيرة للضائقة الإقتصادية المتفاقمة، منهوهين إلى أن العاطلين عن العمل الذين يواجهون صعوبة في إعالة أنفسهم وعوائلهم قد ينحرفون نحو الأعمال الجنائية، كالسرقة والسطو على الأملاك، وتعاطي المخدرات.

تصل الميزانية السنوية المخصصة للمجلس المحلي في "كسيفة" إلى حوالي 32 مليون شيكل. غير أن رئيس المجلس وزملائه يشكون من أن مجلسهم مجرد من الصلاحيات، فهو لا يستطيع حتى إبداء الرأي في شؤون مثل شق شارع في البلدة أو إصدار رخصة بناء. ويقول أبو ربيعة إن القرار في مثل هذه الشؤون محصور في يد سلطات حكومية كسلطة مديرية البدو واللجنة اللوائية للتنظيم والبناء..

* الميزانيات لتطبيق القانون

خلال الشهور الأخيرة قامت سلطات وزارة الداخلية بتحويل سكان بدو من الشتات الواقع خارج مجال نفوذ الكسيفة، إلى المجلس المحلي كي يحصلوا على أراض للبناء. في ضوء ذلك توجه رئيس المجلس، أبو ربيعة، إلى متصرف اللواء دافيد كوهن لافتاً انتباهه إلى أنه لا توجد في البلدة، رغم وجود مساحات فارغة واسعة، قطع أراض مخصصة للبناء، نظرا لأن معظم مساحة منطقة النفوذ إن لم تكن كلها، تخضع لنزاع حول دعاوي الملكية. ويقول أبو ربيعة إن السلطات تماطل في تسوية مشاكل تنظيم الأراضي مع السكان البدو في النقب على أمل أن يأتي اليوم الذي تستطيع فيه هذه السلطات إرغام الناس على قبول شروطها وإملاءاتها. ويضيف أبو ربيعة موضحا أن السلطات ترهن منح تراخيص البناء للمواطنين في كسيفة بموافقتهم على شروطها لتسوية مسائل ملكية الأرض..

الخطة الجديدة التي اعتمدتها الحكومة بشأن بدو النقب مطلع العام الحالي أقرت دون التشاور مع المعنيين بالأمر - البدو. ويقول أعضاء مجلس محلي كسيفة أن الخطة الحكومية التي علموا بها من خلال وسائل الإعلام تهدف إلى تصعيد وتشديد تطبيق السياسة المتبعة وفي صلبها إخلاء البدو من القرى غير المعترف بها إلى بلدات دائمة تقر الدولة ذاتها بفشل مخطاتها (أي البلدات الحضرية الدائمة)، والإستيلاء على أراضيهم.

وقد حصلت الخطة الحكومية الجديدة على موازنة خاصة من وزارة المالية، تهدف إلى تعزيز وزيادة فرض حقوق ملكية الدولة للأراضي وتطبيق قوانين التنظيم والبناء... ومن بين الأوجه التي ستنفق عليها هذه الميزانية تشكيل وحدات دورية خاصة للشرطة وما يسمى بـ "الدورية الخضراء"، وتوسيع الأجهزة التابعة لجهاز القضاء الحكومي في النقب إضافة إلى تسريع تنفيذ الهدم. وتحذر أوساط السكان في كسيفة وسائر التجمعات البدوية في النقب مغبة وعواقب تنفيذ الخطة الحكومية الجديدة، مشيرة إلى أن العديد من بنود هذه الخطة من شأنها فقط أن تعمق القطيعة القائمة بين المواطنين البدو وسلطات الدولة.

وكانت المحامية بانه بدرانة، من جمعية حقوق المواطن، قد وجهت رسالة إلى رئيس الوزراء أرئيل شارون دعته فيها إلى التخلي عن الخطة بصيغتها الحالية والشروع بإجراءات تعزز التخطيط المشترك الذي يتيح مساهمة ممثلي المواطنين البدو في وضع مثل هذه الخطط، ويضمن حقوقهم في مجالات التخطيط والتطوير والخدمات لصالح جميع سكان النقب، يهودا وعربا.

رئيس مديرية تطوير البدو، يعقوب كاتس، أقر الأسبوع الماضي أن "القدر أجحف بحق كسيفة" وقال أن سكان البلدة يعانون من بطالة قاسية. وأضاف أن التشغيل ليس في نطاق صلاحياته، لكنه يرى بأن الإسراع في إقامة عدد من البلدات الجديدة للبدو في النقب سيساعد في حل بعض المعضلات والمشاكل المؤلمة التي يعاني منها السكان البدو. ووعد بأن مديريته ستعمل من أجل المصادقة على المخططات الهيكلية ومخططات البناء في البلدات الجديدة المزمع إقامتها، وقال كاتس، إن إقامة البنى التحتية للبلدات الجديدة وبداية البناء فيها سيوفران مصادر عمل لسكان المنطقة ويخلقا فيها أجواء إيجابية، على حد تعبيره.

غير أن وجهاء البلدة غير متفائلين مثل رئيس المديرية، كذلك فقد أعربوا عن استيائهم إزاء حملة التحريض والإساءة التي يتعرضون لها في وسائل الإعلام الإسرائيلية، والتي تزعم بأن البدو يسعون للإستيلاء على النقب بأكمله. وحذروا من أن حملة التحريض ضد البدو قد تخرج عن السيطرة لتتطور إلى صدام ومواجهة. وأجمل رئيس مجلس محلي كسيفة قائلا: "أعتقد أنه ستقوم في المستقبل غير البعيد حركة احتجاج في النقب على غرار حركة الفهود السود، التي انخرط فيها العديد من سكان النقب البدو واليهود من بئر السبع وعراد وديمونا وبلدات التطوير، ليناضلوا معا من أجل مصالحهم المشتركة في إيجاد حياة أفضل".

(هآرتس، 30 كانون الثاني)

ترجمة: "مدار"