دوافع الجدل بين اليمين الإسرائيلي العقائدي واليمين المتطرف

*اليمين العقائدي الأيديولوجي يتمسك بقوة بمبدأ "أرض إسرائيل الكاملة" ويعتبر أن سياسته مطبّقة على الأرض *قلقه نابع من أن المتطرفين خاصة من المستوطنين يصعدون لهجة خطابهم ويبادرون إلى خطوات ضد الفلسطينيين في إسرائيل وعلى صعيد الاستيطان وحتى ضد أسس الديمقراطية بشكل قد يُعرّض إسرائيل لضغوط دولية تضعف مكانتها عالميا*

كتب برهوم جرايسي:

اتسع في الأشهر الأخيرة الجدل غير المسبوق بطبيعته ووضوحه بين من يمكن تسميتهم أقطاب اليمين الإسرائيلي المتشدد، بمعنى العقائديين الأيديولوجيين، وبين اليمين المتطرف المتمثل بالأساس في قطاع المستوطنين وممثليهم أو المتماثلين معهم في سدة الحكم، فعلى الرغم من التلاقي السياسي الجوهري بين الفريقين، إلا أن فريق المتشددين قلق من دفع المتطرفين الأوضاع نحو تفجيرات متعددة، لا يرى المتشددون "حاجة لها".

وقد برز هذا الجدل في الآونة الأخيرة في موضوعين، وهما التعديل على قانون المواطنة، وسلسلة قوانين عنصرية تبادر لها الحكومة، أو أنها بمبادرة فردية من أعضاء كنيست، وقررت الحكومة دعمها، وموجهة بالأساس ضد الفلسطينيين في إسرائيل، والموضوع الثاني هو الإجراءات "العقابية" التي أقرتها الهيئة العامة للكنيست ضد النائبة حنين زعبي من كتلة التجمع الوطني الديمقراطي، والجلسات الصاخبة التي شهدها الكنيست في هذه القضية، والمؤشرات تقول إن هذا الجدل هو مؤشر لحراك ما في معسكر اليمين، سعيا منه إلى إعادة ترتيب الأوراق، وإعادة زمام المبادرة للتيار الأيديولوجي، بدلا من قوى المستوطنين.

ففي الأسابيع القليلة الماضية شهدت جلسات حكومة بنيامين نتنياهو نقاشا حول اقتراح تعديل على قانون المواطنة، يطلب من كل من يسعى للحصول على الجنسية الإسرائيلية، في إطار لم شمل العائلات، وبالأساس الفلسطينية، أن يتعهد بـ "ولائه لدولة إسرائيل- دولة يهودية ديمقراطية".

والشق الثاني من هذه العبارة لم يكن موجودا ويطلب وزراء متطرفون إضافته، كي يكون عائقا إضافيا في حال طلب فلسطيني أو فلسطينية من الضفة الغربية وقطاع غزة الجنسية الإسرائيلية في إطار لم الشمل مع عائلته إما في القدس المحتلة أو في داخل إسرائيل، وهذا على الرغم من أن أنظمة الطوارئ المعمول بها منذ العام 2002 تمنع لم الشمل هذا.

ورأينا مثلا أن وزير الشؤون الاستخباراتية دان مريدور الذي يعتبر من "أمراء" حزب الليكود، وهو مصطلح يُنسب لأبناء قادة سابقين في الحزب، يحذر من خطورة التعديل، ويعتبره "استفزازا لا حاجة له" للفلسطينيين في إسرائيل، وإن كان أحد ما يرى في مريدور يمينيا معتدلا، فإن الملفت للنظر أن من يوافقه في هذا الموقف "أمير" آخر، هو بنيامين مناحيم بيغن، والذي يُعتبر من أكثر المتشددين العقائديين في الحزب، ويتمسك كليا بما يسمى "أرض إسرائيل الكاملة"، أي فلسطين التاريخية، ويرفض أي نوع من المفاوضات والحلول التي ستفضي إلى ما يراه "تنازلا عن أجزاء من أرض إسرائيل"، وينضم لهذين الوزيرين عدد من وزراء الحزب، وأيضا رئيس الكنيست رؤوفين ريفلين، اليميني المتشدد، والمشترك بينهم أنهم نشأوا منذ سنوات شبابهم الأولى في حزب "حيروت"، الذي أسس في العام 1974 حزب الليكود، ويعتبرون أنفسهم أنهم يتبعون طريق جابوتينسكي، الذي شكل في سنوات الثلاثين عصابة الإيتسل وغيرها، والتي تحولت بعد العام 1948 إلى حزب حيروت.

وهذا الأمر لمسناه أيضا في الموقف من قانون آخر، بادر إليه حزب "إسرائيل بيتنا" العنصري، ويطالب بمنح أولوية في العمل والدراسة العليا لمن خدم في الجيش أو أدى ما يسمى "الخدمة المدنية"، فهذا القانون قررت اللجنة الوزارية لشؤون التشريعات تبنيه، وكاد أن يطرح على الهيئة العامة للكنيست، وتحفظ منه بعض نواب اليمين، وسارع وزير الرفاه إسحاق هيرتسوغ من حزب "العمل" لتقديم استئناف على قرار لجنة التشريعات، ليبحث القانون لاحقا في جلسة الحكومة العادية، وكما يبدو مع بدء الدورة الشتوية المقبلة.

ومن المعروف أن هناك سلسلة من القوانين الموجهة ضد الفلسطينيين في إسرائيل، وهي كلها مطروحة على جدول أعمال الكنيست والحكومة، ومنها ما بات في مسار التشريع البرلماني.

والنموذج الثاني الساطع لهذا الجدل هو ذلك الذي دار حول فرض إجراءات "عقابية" ضد النائبة زعبي، على خلفية مشاركتها في أسطول الحرية، إذ تم سحب بعض الامتيازات الثانوية منها، كنائبة في الكنيست، وكانت المبادرة من عضو الكنيست العنصري عن حركة "كاخ" ميخائيل بن آري، ولكن هذا لم يمنع أن تحصد المبادرة تأييدا من جميع الكتل البرلمانية تقريبا، ما عدا الكتل الثلاث الناشطة في المجتمع الفلسطيني وكتلة ميرتس، فيما قرر حزب "العمل" بزعامة إيهود باراك الابتعاد عن الأضواء وعدم المشاركة في التصويت في الهيئة العامة للكنيست.

وفي تلك الجلسة رأينا الوزير مريدور يصوت علنا ضد الاقتراح، فيما أعلن رئيس الكنيست رؤوفين ريفلين بوضوح رفضه للاقتراح، ولكنه لم يشارك في التصويت رغم حضوره الجلسة، وأعرب عن أسفه لاحقا، وقال للإذاعة إنه كان عليه أن يصوت هذا الاقتراح، ومثله فعل الوزير موشيه يعلون، وفي المقابل فإن الوزير بيغن انسحب من القاعة لحظة التصويت.

وبطبيعة الحال، فإن هذا لا يعني إطلاقا تبدلا في المواقف لدى اليمين العقائدي الأيديولوجي، وإنما هو يرى بالفعل أنه لا حاجة لمثل هذه المبادرات، التي لن تقدم شيئا لمشروع "الدولة الإسرائيلية"، وإنما تضع إسرائيل في مشهد سلبي أكثر في الحلبة الدولية ويتم زجها في خانات الأنظمة المعادية للديمقراطية وما شابه، وتعرّض المؤسسة الإسرائيلية لضغوط دولية، في حين، وكما يرى هذا التيار اليميني، أن ما يريده إستراتيجيا يتم تطبيقه على أرض الواقع منذ عشرات السنين "من دون ضجيج".

ولربما كان أفضل من عبّر عن هذا التوجه زعيمة حزب "كاديما" المعارض، تسيبي ليفني، فهي أيضا "أميرة" سابقة في حزب الليكود، ونشأت كما قالت في الماضي القريب في بيت أحد قادة عصابة "الإيتسل" الصهيونية، كي يدرك سامعوها خلفيتها السياسية، ففي أحد خطاباتها من على منصة الكنيست كرئيس لأكبر حزب معارض هاجمت رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وكأنها تقول "في زمن حكومتي (السابقة) نجحنا في توسيع الاستيطان وفرض حقائق على الأرض، من دون ضجيج ومن دون بيانات دولية تدين إسرائيل".

خلفيات القلق

من الممكن أن نفهم أن اليمين الأيديولوجي يريد الاستمرار في مسك زمام الأمور وكافة خيوط الحكم بيديه، ولكن في السنوات الأخيرة بات يلمس حقيقة أن مجموعات اليمين المتطرف، وخاصة تلك التي مركز قوتها في المستوطنات، باتت تفرض أجندتها حتى على التيار الأيديولوجي، وتفرض "أصول لعبة" أخرى، إن كان على الكنيست أو على الحكومة، ويتمدد المتطرفون في كافة المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية التي تشكل المؤسسة الحاكمة، وإلى جانب هذا هناك الحضور المتنامي في قيادة المؤسسة العسكرية- الجيش.

هذا اليمين المتطرف نشأ أساسا في دفيئة اليمين العقائدي، والأخير استعان طيلة الوقت بمجموعات المتطرفين من أجل الوصول إلى الحكم والتمسك به، وفرض الأجندة السياسية، إلا أن المتطرفين، وكل مجموعة متطرفة، لا تضع لنفسها حواجز وقيودا، ورأت في السنوات الأخيرة أنها باتت مصدر قوة يسمح لها بفرض الأجندة.

ومن أبرز معالم القوة هذه مضاعفة أعداد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس المحتلة في العقدين الأخيرين خمس مرات، وهذا جمهور مجند سياسيا أكثر من غيره، فمثلا في حين أن نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية تتراجع باستمرار في إسرائيل، فإنها تحافظ على نسبة عالية جدا بين جمهور المستوطنين ومؤيديهم، ولهذا زاد وزنهم السياسي بشكل كبير في الكنيست، وهذا ليس فقط من خلال الكتلتين في الكنيست، بل أيضا من خلال باقي الأحزاب اليمينية، من كاديما والليكود و"إسرائيل بيتنا"، ويضاف لها الأحزاب الدينية الأصولية.

وهنا نذكر مثلا كيف أن المستوطنين، وحركات اليمين المتطرف، عملا في العام 2002 على التغلغل في حزب الليكود، والانتساب له بشكل جماهيري، من أجل الوصول إلى هيئات الحزب الموسعة وحتى العليا، والتأثير على لائحة الحزب في الانتخابات البرلمانية، وهذا ما برز جدا في لائحة الحزب للانتخابات التي جرت في مطلع العام 2003، ومن ثم طبيعة النواب الذين وصلوا إلى الكنيست ضمن كتلة الليكود، وفي المقابل فإن جمهور المنتسبين هذا لم يصوت لحزب الليكود في الانتخابات البرلمانية، كما أكدت الوقائع على الأرض، بل دعم أحزابا وتحالفات تمثل المستوطنين مباشرة، وهكذا فقد جاء تمثيله البرلمانية مضاعفا.

وهذا الأمر قاد إلى زيادة وزن المتطرفين في آلية اتخاذ القرار، خاصة وأن رئيس الحكومة نتنياهو المعروف في الحلبة الداخلية كانتهازي غير ثابت في مواقفه يغازل المتطرفين ويتواطأ معهم، لكونهم الصوت الصارخ المسموع أكثر في الحلبة الإسرائيلية.

من الضروري التوضيح أن معسكر اليمين بتياراته المختلفة موحد تقريبا في الرؤية الإستراتيجية لمستقبل الصراع في المنطقة، ولكن من جهة أخرى فإن هذا الخلاف الداخلي هو مؤشر لطبيعة تطورات داخلية في المجتمع الإسرائيلي الداخلي.

وقد عبر عن ذلك الصحافي والكاتب اليساري التقدمي غدعون ليفي في مقال له في صحيفة "هآرتس" وكتب لجمهور اللامبالين الإسرائيليين إزاء ما يحدث في الشارع الإسرائيلي: "تعلموا من التاريخ أن أنظمة الحكم التي تبدأ بهذا السلوك تنتهي بتحولها إلى ظلامية، وإن المنزلق الذي تنزلق فيه إسرائيل سحيق، لا سيما وأن أجهزة الرقابة قد تم خصيها كلها، وهم لا يفتحون فما. إنهم يشعرون بأن شيئا سيئًا جدا يحدث، لكنهم يوهمون أنفسهم بأن هذا "لن يحدث لهم"، ولهذا لا يهمهم ذلك. إنهم يسمعون كل يوم عن تفاقم الخطر، وهم يفرقعون بألسنتهم، ويتنهدون، ويعيبون ويتخلون عن الساحة".

وتابع ليفي كاتبا "لقد حان الوقت أن نقول لهم (اللامبالين) وهم منطوون على أنفسهم ومنشغلون بحياتهم الخاصة فقط، هذا في الطريق إليكم. وبعد قليل سيحدث هذا لكم أيضا. لن يقف هذا عند أعضاء الكنيست العرب ولا عند الجمعيات ولا عند الجامعات والمتظاهرين، بل لن يقف عند مداخل بيوتكم. سيبلغ حياتكم اليومية. هل الشرطة عنيفة؟ ستصل إلى أبنائكم أيضا. أهي شرطة عقول؟ ستصل إليكم أيضا. ستبدو صحيفتكم وتلفازكم على نحو مختلف، والجامعة والمحكمة والمدرسة ستتغير حتى لا تعرفها. حدث هذا أكثر من مرة في التاريخ وسيحدث هنا أيضا، إن لم يكن اليوم ففي الغد. إن الغول رفع رأسه، وقد أخذ يقترب منا جميعا ولا يوجد من يوقفه، وعندما يصل سيكون الوقت متأخرا، بل متأخراً جداً".

بطبيعة الحال فإن ما يقوله ليفي ليس مقبولا على اليمين العقائدي المتشدد، لأن منطلقاته مختلفة، ولكن على أي حال فإن المرحلة المقبلة ستشهد تصعيدا لهذا الجدل، وليس من المستبعد أن يقود هذا إلى انقسامات ما في المعسكر اليميني، ولكن هذا يبقى حاليا في إطار الفرضيات، التي من الصعب الحكم عليها حاليا، مع أن هذا الجدل مثير ومن المهم متابعة تطوراته.