إسرائيل إذ "تخونها" قوتها

بطبيعة الحال لا قبل لإسرائيل أن تتخذ موقف الحياد إزاء ما يحدث في لبنان في الآونة الأخيرة. لكن بمتابعة ما نُشر في هذا الشأن، خلال الأيام القليلة الفائتة، من الصعب أن نتحرّر من انطباع فحواه أن هناك، في العمق، إقرارًا علنيًا بشعور العاجز، أو "خيانة" القوة. وبكلمات أخرى- مباشرة وصافية أكثر- الإقرار أنه ليس في وسع إسرائيل أن تفعل ما كانت ترغب في فعله، لا على المستوى العسكري ولا على المستوى السياسي، بحسب ما أكدت صحيفة هآرتس، في مقالها الافتتاحي يوم الاثنين- 12/5/2008.

واعتبر محلل الشؤون العسكرية في صحيفة يديعوت أحرونوت، أليكس فيشمان، يوم الأحد- 11/5/2008- أن الأحداث، التي شهدها لبنان في نهاية الأسبوع الفائت، "تُعدّ تذكيرًا موجعًا بأن إيران ستصبح، بصورة رسمية، بعد عام واحد، جالسةً على حدودنا الشمالية. ويجب أن نعتاد على ذلك".

وأضاف أنه "إذا لم تحدث مفاجآت، فبعد نحو عام ستسفر الانتخابات في لبنان عن سقوطه في قبضة حزب الله، وسيصبح مستعمرة إيرانية". غير أن الأهم من هذه الأحكام يبقى توكيده "أننا سنكون مجرّد مشاهدين، لأن الفترة الحالية ليست سنة 1982 [في إبان الاجتياح الإسرائيلي]، ولأنه ليست لدينا رغبة أو قدرة على التدخل، كما أنه ليس لدينا حلفاء أقوياء في لبنان".

وبينما أكدت هآرتس أنه "ليس في إمكان إسرائيل أن تفعل الشيء الكثير في مقابل الواقع المستجدّ في لبنان، لا على المستوى العسكري ولا على المستوى السياسي"، أشارت إلى أن لدى إسرائيل خيارًا آخر، "هو أن تدفع المفاوضات السياسية مع سورية قدمًا، بصورة جادّة وفورية".

أمّا فيشمان فقال إن هناك مصلحتين لإسرائيل في الوقت الحالي: الأولى استقرار حدودها مع لبنان، والثانية عدم تحوله إلى قاعدة إيرانية. وتابع: "يمكن تحقيق هاتين المصلحتين من خلال الطريق السياسية، مثلاً بواسطة محادثات مع السوريين، غير أن الأميركيين لا يسمحون لنا بأن نتحدث مع السوريين بشأن لبنان. وهناك، بطبيعة الحال، طريق عسكرية، لكن من المشكوك فيه أن يكون هناك مسؤول إسرائيلي واحد يرغب في أن يقضي على القاعدة الإيرانية بواسطة القوة العسكرية".

ولا يحتاج المرء إلى عناء كبير كي يدرك أن النتيجة، التي يتوصل إليها الطرفان، بغضّ النظر عن منطلقات كل منهما ودوافعه، هي واحدة، ومؤداها أن لجوء إسرائيل إلى القوة، لن يكون في وسعه أن يسعفها في ... الحسم. في حين أن في إمكان الطريق السياسية أن تؤدي إلى نتائج أفضل، حتى من ناحية "الأهداف الإسرائيلية الخالصة".

[تجدر الإشارة هنا إلى أن المقال الافتتاحي لهآرتس دعا، في الوقت ذاته، إلى إتباع النهج السياسي نفسه مع السلطة الوطنية الفلسطينية. وسبق أن وجه "المجلس الإسرائيلي من أجل السلام والأمن"، مؤخرًا، مذكرة إلى كل من رئيس الحكومة الإسرائيلية، ووزير الدفاع، ووزيرة الخارجية، وحذّر فيها من مغبة تهديد المستقبل برؤية أمنية ضيقة الأفق].

لا تهدف طريقة عرض الأمور على هذا النحو إلى الاستخفاف بقوة إسرائيل، أو بما لديها من قدرات عسكرية، وإنما إلى وضع الأمور في نصابها.

ويبدو لي أن أهمية الأقوال المقبوسة أعلاه [ويوجد مثلها الكثير] راجعة، أكثر شيء، إلى ما تنطوي عليه من تشخيص جوهري لحالة إسرائيل في الوقت الراهن، وبالأساس من ناحية المنظور الأمني الذي أدمنت عليه. ولا شيء أبعد من هذا، لأنه حتى عندما يدرك القائلون بها ما يفشل مساعيهم، وما ينبغي أن يفعلوه من أجل مواجهة الواقع الجديد، فإنهم ينأون بأنفسهم عن الإدلاء بآراء صريحة في هذا الشأن.

وربما يندرج في هذا الإطار أيضًا ما يقوله المؤرخ العسكري الإسرائيلي والجنرال في الاحتياط، د. مائير بعيل، في سياق المقابلة الخاصة مع "المشهد الإسرائيلي"، بشأن التغيير الإستراتيجي الذي طرأ مؤخرًا على التفكير الإسرائيلي [اقرأ نص المقابلة في مكان آخر].

أين تقف المؤسسة الإسرائيلية، السياسية والعسكرية، من هذا؟.

إن الذي بالإمكان ملاحظته هو أن إسرائيل لم تصل إلى حالة أمست معها ترتدع من شنّ حروب، أو حتى من القيام بعمليات عسكرية واجتياحات، وإنما أصبحت تدرك أن الحرب ليست نزهة خلوية، وأن قوتها قد تخونها، وهي خانتها فعلاً.

لقد رأى وزير الدفاع الإسرائيلي، إيهود باراك، في ثنايا مقابلة مطولة أجرتها معه صحيفة يديعوت أحرونوت، ونشرتها يوم 2 أيار الجاري، أن على إسرائيل الامتناع عن خوض حروب أو على الأقل إرجائها إذا أمكن، لأن "الجانب الآخر"، سيوجه ضربات صاروخية في اتجاه الجبهة الداخلية الإسرائيلية. وأضاف "إننا مستعدون بصورة أفضل من أي مرة في الماضي، وحتى لاحتمال اشتعال بضع جبهات قتالية في آن واحد. على الرغم من ذلك، فإن الجانب الآخر اكتشف في الأعوام الأخيرة القدرة على ضرب جبهتنا الداخلية".

وليس بغير دلالة أنه في أعقاب حرب لبنان في صيف 2006، أضاف المسؤولون الإسرائيليون عنصرًا آخر- هو الدفاع- على العناصر التقليدية، التي شكلت العصب الرئيس لمفهوم الأمن الإسرائيلي، وهي الردع، الإنذار والحسم.

قد لا يعني هذا التقويم أن إسرائيل باتت أضعف عسكريًا من أي وقت مضى، بقدر ما يعني أن هناك ما هو أقوى حتى... من القوة العسكرية نفسها.