جديد أوراق إسرائيلية: ما بعد الصهيونية، بين الحياة والموت

صدر أخيرًا عن "مدار" (المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية) العدد رقم 21 من سلسلة "أوراق اسرائيلية" بعنوان "ما بعد الصهيونية، بين الحياة والموت"، مشتملا على مجموعة من المقالات في هذا الشأن لعدد من الكتاب والباحثين الاسرائيليين، أنجز ترجمتها سعيد عياش وحلمي موسى. ويضم العدد، بوجه خاص، المقابلة المطولة التي أدلى بها لصحيفة "هآرتس" المؤرخ الاسرائيلي بيني موريس وأعلن فيها عن تخليه عن دور "المؤرخ الجديد" الذي يتصدى لفضح ممارسات الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني.

كتب محرر السلسلة، أنطوان شلحت، مقدمة لهذا العدد جاء فيها:

شكّل السؤال: "هل مات تيار ما بعد الصهيونية أم هو في سبات عميق؟" محور تحقيق مطوّل أجرته الصحافية الاسرائيلية داليا شحوري مؤخرًا ونشرته صحيفة "هآرتس" على مدار حلقات ثلاث. وتكمن أهميته الرئيسة في أن شحوري استمزجت فيه آراء الغالبية الساحقة من "أساطين" ذلك التيار، التي وإن لم تتفق على جواب محدّد بشأن السؤال المطروح أعلاه إلا أنها أجمعت تقريبًا على أن التيار المذكور لم يعد كما كان في السابق، بل أكثر من ذلك يمكن القول إن وجوده كتيار ديناميكي وشبه فاعل في المؤسسة الأكاديمية الاسرائيلية أضحى تحت علامات إستفهام كبرى.

وآية ذلك أن بعض هؤلاء اعترف ببراءته منه وتنكره له لأسباب عديدة، ليس أبسطها أن الفلسطينيين يتحملون وزر ذلك، تساوقًا مع إدعاء رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، الذي افترى على رئيسهم وقيادتهم "مواقف آثمة" في مفاوضات "كامب ديفيد".

ولكي لا يضيع الكلام في وهج التعميم فيما يلي بعض تلك الاعترافات التي اشتمل عليها تحقيق شحوري:

* يقول توم سيغف إن " ما بعد الصهيونية ماتت بسبب الفلسطينيين"، أي بسبب الانتفاضة الثانية، المستمرة منذ ثلاث سنوات ونصف السنة. غير ان سيغف يخفف قليلا من حدة توصيفه هذا بقوله "في الوقت الراهن اصبحت فكرة ما بعد الصهيونية في الثلاجة، وهذا في أحسن الاحوال. فهي لم تعد شيئا حيًا. هذا ليس العصر الذهبي لما بعد الصهيونية" . ويضيف "لقد ارغمتنا الانتفاضة على العودة الى داخل ذاتنا الصهيونية. الارهاب الفلسطيني يعيدنا الى الرحم الصهيوني. فكل الانفتاح الذي لوحظ حصوله عقب توقيع اتفاقيات اوسلو، لم يبرهن على نفسه لغاية الآن، وهذا راجع، حسب رأيي، للارهاب... الشيء الذي تصدر اهتمام التيار الما بعد الصهيوني، كان الجدل حول الكيفية التي يمكن ان تكون فيها الدولة يهودية ودمقراطية .. اليوم لم يعد هناك من يأبه بهذا الموضوع. فنحن نشعر، كما يخيل اليّ، بأننا نحارب ونصارع دفاعا عن حياتنا، وهذا بسبب العرب".

* يعتقد ايلان بابه، الذي يعتبر يساريا وما بعد صهيوني بارزا، ان "ما بعد الصهيونية" أضحت منذ اندلاع الانتفاضة الثانية تيارا وهميا غير فاعل. ويضيف: "لقد عقروا قدرتها على الاخصاب. قد يأتي يوم يكون فيه متاحا، في ظروف مخبرية ملائمة، تلقيح نطفتها في عملية اخصاب اصطناعية". ويؤكد بابه، الذي يعتبر نفسه مناهضا للصهيونية، ان المجتمع الاسرائيلي تخلّص في الوقت الحالي من "ما بعد الصهيونيين". ويمضي فيقول "ابحثوا عنا بعد ثلاث او اربع او خمس سنوات، عندما تصل الحقارة والشناعة والبربرية، التي اضحت اليوم جزءا لا يتجزأ من السياسة الاسرائيلية، الى درك من شأنه ان يدفع الكثير من الناس، حتى داخل البلاد، الى القول: الى هنا! لكننا لم نبلغ بعد هذه اللحظة".

* أما فيما يخص بيني موريس فإن قصة نكوصه عن عديد النتائج الناجزة لأبحاثه (عدّت في الماضي "درّة التاج" في المكتبة الما بعد صهيونية، مع ضرورة مراعاة نسبية الأشياء بطبيعة الحال) أضحت من "الأسرار المفضوحة"، بحيث لا نحتاج معها إلى عناء التفاصيل. مع ذلك فإنه في التحقيق الصحفي ذاته لم يضنّ زميله بابه في الكلام عنه. ومن ذلك قوله إن موريس أطلعه، خلال لقائهما الأول في أواخر الثمانينيات، على وجهات نظره الحقيقية التي وصفها بابه بأنها "وجهات نظر عنصرية بغيضة تجاه العرب عامة والفلسطينيين على وجه الخصوص". لهذا السبب نجد بابه يستشيط غضباً إزاء إدعاء موريس "كلانا – أنا وبابه – من أنصار اليسار"، رغم الإختلاف في المنهج والسياسة. ويتهم بابه موريس بأنه "إنتهازي"، مضيفاً أن الأخير أصدر أخيراً باللغة الإنجليزية طبعة جديدة لكتابه عن المشكلة الفلسطينية ليس بسبب توفر مادة جديدة دفعته إلى ذلك، كما كتب موريس في تقديمه للكتاب، وإنما لأن "هذا العاهر" - والمقصود موريس - لاحظ عقب إندلاع الإنتفاضة الثانية بأن " الإتجاه في إسرائيل إنزاح نحو اليمين". ويستطرد بابه مشيراً إلى أن كتاب موريس الأصلي عن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين "كتب تمشياً مع الإتجاه الذي هبت فيه الريح إبان تلك الفترة، وكانت وجهة نظره وقتئذٍ حول التاريخ، بأن التطهير العرقي في فلسطين لم يتم نتيجة لخطة رئيسة".

ولكن - أردف بابه - بعد فوز اليميني بنيامين نتنياهو في انتخابات 1996، "كان من الصعب الحصول على درجة البروفيسورية في جامعة إسرائيلية. من هنا بدأ التحول، حيث وجد – موريس – أنه سيكون من السهل أكثر الحصول على عقد عمل ثابت ودرجة البروفيسور إذا ما قام بتهوية وتلميع وجهات نظره التي آمن بها أصلاً". وتابع بابه: في الطبعة الجديدة (الإنجليزية) لكتاب موريس "تحوّل التطهير العرقي إلى خطة رئيسة، انتقدها موريس لأنها لم تكن ناجعة بدرجة كافية!".

تحقيق شحوري هو أحد قسمي هذا العدد من "أوراق إسرائيلية". أما القسم الثاني فيشتمل على مقابلة فضائحية مطوّلة أدلى بها المؤرخ الاسرائيلي بيني موريس للصحافي آري شفيط من "هآرتس" وعلى مجموعة مختارة من التعقيبات عليها والصادرة تحديدًا عن كتاب وباحثين إسرائيليين.

في واقع الأمر تعتبر هذه المقابلة نقطة مفصلية هامة في الحكم على الظاهرة المسماة "المؤرخين الاسرائيليين الجدد"، التي كان ظهورها، في أواخر الثمانينيات، مرتبطًا بعدة عوامل موضوعية وذاتية ليس هنا مكان الغوص عليها، زد على كونها أشبعت بحثًا واستقصاءً، غير أنها العوامل ذاتها التي وقفت أيضًا خلف ظهور تيار "ما بعد الصهيونية"، الذي كانت تلك الظاهرة بمثابة آصرة عضوية في جسده المتكامل.

في المقابلة أعلن موريس، بملء الفم، ما سبق أن قاله إلماحًا لدى تسويغه إتخاذ موقف يتضاد جملة وتفصيلا مع الرواية الفلسطينية للإنتفاضة الفلسطينية الثانية، لناحية تحميل الفلسطينيين وقيادتهم الشرعية والمنتخبة تبعات عودة النزاع إلى مساره الإنفجاري الدموي. وكان بهذا يتماهى، في الوقت ذاته، مع الرواية الإفترائية الإسرائيلية الرسمية، حين "استفظع" مواقف "نكران الجميل" الفلسطينية حيال "السخاء" الاسرائيلي الذي تمثل، أكثر شيء، بل وبلغ ذروته، في "العرض" الذي قدمه رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق، إيهود باراك، في كامب ديفيد، بموجب تلك الرواية الأحادية الجانب.

صحيح أن موريس سبق أن أشرّ، في مجموعة من المواقف التسلسلية التي أعرب عنها قبل هذه المقابلة وكانت بمنزلة "إرهاص" لها، إلى جوهر الأشياء التي بدرت عنه، بيد أن اللغة الصافية والصريحة التي تكلم بها هنا، ردًا على سائله/ محاوره، جعلت المسألة تتجاوز حدود مقابلة عادية يمكن أن يدلي بها مؤرخ ما لصحيفة محلية. وهذا ما تتطرق إليه، بكيفية ما، التعقيبات عليها التي حاول بعضها أن يستكنه كذلك دلالات أن تبادر صحيفة إسرائيلية "رصينة" مثل "هآرتس" إلى فتح صفحاتها لهذا "الطراز الفاسق من حرية التعبير".

ولعلّ في ما كان موريس يمثله، قبل هذه الانكفاءة الحادّة، من "رمزية" لما اصطلح على إعتباره "تأريخًا إسرائيليًا جديدًا" للنزاع يتناءى عن الأساطير والمسلمات الصنمية الصهيونية التقليدية، ما يبرّر هذا الاهتمام به وبمسار تحولاته. فضلاً عن ذلك تحيل هذه التحولات إلى سياق إسرائيلي راهن، في السياسة والفكر وغيرهما، من غير الممكن التغاضي عنه في أي مسعى لقراءة المشهد الاسرائيلي برؤية يكرثها استقراء إحالاته المقبلة.