الأزمة تتعمق

كتب حلمي موسى:

ما يجري في إسرائيل يصعب تصديقه من العرب. فإسرائيل القوية، الباغية، التي يحسدها الكثير من العرب على علاقاتها المتميزة مع الولايات المتحدة تعيش أزمة خطيرة. والأدهى أن حرب لبنان الثانية، التي اختلف العرب عليها بشدة، هي من أظهر عمق هذه الأزمة للعيان، من دون الإدعاء بأنها كانت السبب.

والحقيقة أن إسرائيل تعيش منذ الانتفاضة الأولى، على الأقل، أزمة عميقة لم يسهم في التخفيف منها غير واقع عربي متردّ وظروف إقليمية ودولية مستجدة. فقد انهار الاتحاد السوفييتي ونظام القطبين وتفكك النظام العربي بسبب الغزو العراقي للكويت ووصلت أميركا مباشرة إلى المنطقة لتجعل من العلاقة مع إسرائيل شرطا لكل علاقة معها. فالأزمة البنيوية تمثلت في انكشاف حقيقة إسرائيل أمام نفسها، وبالتالي أمام كثيرين من أنصارها، من أنها ليست "نورا للأغراب" بقدر ما هي تكرار لأنظمة ذات طبيعة استعمارية وتسلطية.

وهذا ما دفع يعقوب شاريت، ابن ثاني رئيس حكومة وأول وزير خارجية لإسرائيل، موشيه شاريت، لنعي الدولة العبرية. وقد أعلن النعي قبل حوالي عقدين من الزمن في كتاب أسماه "أرض قديمة جديدة من عائلة بنيامين هرتسل توفاها الله". ومن المعروف أن هرتسل رسم خطوط حلم الدولة الصهيونية في كتابه المسمى "أرض قديمة جديدة".


وعرض شاريت الابن في كتابه للأسباب التي تدفعه إلى إعلان وفاة "دولة اليهود" وبينها أنها فقدت كل مبررات وجودها الأخلاقية. ومن المؤكد أن هذه المبررات لا تستند إلى العدل تجاه العرب وإنما إلى منطق العدالة الداخلية في الوسط اليهودي وإلى الحداثة. ورأى أن إسرائيل تتحول إلى دولة تخفي فاشيتها وظلمها بستار لن يبقى حديديا إلى الأبد وسرعان ما سيتكشف.

وحاليا، ثمة سؤال يخطر ببال كل إسرائيلي: ما الذي بات مستورا بعد اليوم؟ خذوا مثلا ما كتبه وزير العدل السابق تومي لبيد في "معاريف" تحت عنوان" رقص الأشباح"، "أعود وأعترف بأن رئيس الحكومة صديقي. بعد هذا الكشف الجميل، يحق لي أن أقول ما في قلبي: لا يوجد في أية دولة ديمقراطية، ولم يكن قط، وضع يُتهم فيه رئيس الدولة بالاغتصاب، ويُحقق فيه مع رئيس الحكومة، ويُتهم وزير المالية بالحصول على الرشوة، ويُدان فيه وزير العدل، ويضطر رئيس الأركان إلى الاستقالة، ويستقيل القائد العام للشرطة، ويُشكك في استقامة المرشح للقيادة العامة للشرطة، ويستقيل رئيس سلطة الضرائب مُتهما بمخالفة جنائية، ويُتهم رئيس لجنة الخارجية والأمن بمخالفة القانون".

وكل هذه الأمور ليست مجرد قضايا يمكن المرور عنها مرور الكرام، مما دفع معلقا إسرائيليا من وزن سيفر بلوتسكر في "يديعوت أحرونوت" للإعلان عن أنه من الصعب أن تقول اليوم في الخارج إنك إسرائيلي. فهذه الصفة لم تعد تجلب التقدير لحاملها خاصة في ضوء إخفاق الحرب وفساد القيادة إداريا وأخلاقيا والحديث عن مافيا الشرطة وتآكل قيم العدالة الاجتماعية وأخيرا خصخصة كيبوتس "دغانيا" الذي كان يعتبر درة تاج المشروع الاستيطاني الصهيوني.

وفي الأيام القليلة المقبلة ستنشر لجنة فينوغراد للتحقيق في إخفاقات حرب لبنان الثانية تقريرها المرحلي. ومن المتوقع أن يحدث التقرير هزة كبيرة سواء إذا احتوى على استنتاجات حادة ضد رئيس الحكومة أو وزير الدفاع أو إذا خلا منها. ومنذ الآن يحتدم السجال في إسرائيل حول ما إذا كانت لجنة قام إيهود أولمرت بتعيينها قادرة على إدانته أم لا. وقد اندفع قادة عسكريون وسياسيون إلى الإعلان صراحة، في الصحف ووسائل الإعلام، عن أنهم يريدون من اللجنة إثبات استقلالها بالتشدد ضد القيادة الإسرائيلية الحالية. بل إن يوئيل ماركوس كتب في "هآرتس" أنه "في غضون شهر استقال رئيس الأركان دان حالوتس والمفتش العام موشي كرادي. لجنتا تحقيق عملتا في آن معا وتغلغلتا إلى الأمعاء الدقيقة للهيئتين المسؤولتين عن أمن الدولة. وبينما أنهت لجنة زايلر عملها ـ سترفع لجنة فينوغراد تقريرها المرحلي في منتصف آذار، والتوقع هو ألا يسمح فينوغراد لنفسه بان يكون اقل فتكا من زايلر وان تقريره سيكون أشد، وسيرتفع إلى المستويات الأعلى وسيقطع إربا هيئة اتخاذ القرارات في مواضيع السلام والحرب، الحياة والموت".

في إسرائيل الحاضر صار هناك من يتحدث عن احتمالات وقوع انقلاب عسكري أو إقامة نظام فاشي على الصعيد الداخلي. ورغم أن أحاديث كهذه ترددت مرارا في أوقات الأزمات في إسرائيل إلا أنها ترتدي اليوم معاني أخرى. فهي تتردد في عصر آخر حينما لم تعد إسرائيل تنظر إلى نفسها على أنها مجرد دولة أخرى، حتى لو كانت يهودية. فالإنجازات التي تدعيها الدولة العبرية على الصعد السياسية والمادية والاجتماعية تجعل من كل حديث كهذا إبعادا لهذه الدولة عن منظومة "الدول الحضارية". وعندما يبدي حوالي ثلاثة أرباع الإسرائيليين رغبتهم في الحصول على جواز سفر أوروبي ثمة من يؤكد أن الإحساس بالخوف اليوم هو أعمق من أي وقت مضى. وليس الصراع مع العرب دافعه الأبرز.