من المطالبة بالاعتراف بالدولة إلى الاعتراف بيهوديتها

لم يكن الإسرائيليون راضين، بل كانوا غاضبين جدا لردود الفعل القومية التي أعقبت سلسلة التحريضات اليمينية على الوجود العربي الفلسطيني داخل الدولة الإسرائيلية، فقد كرهوا مشهد الكوفية والإعلام الفلسطينية التي رفرفت على أرض جامعة حيفا مؤخرًا، كما كرهوا سماع أناشيد مثل "إذا الشعب يوما أراد الحياة"... و"موطني موطني"...

الحل الشامل في الرؤية الإسرائيلية يجب أن يكون في اتجاه المصلحة العليا لليهود الإسرائيليين ولليهود المتوقع هجرتهم إلى فلسطين: هي بمنطقها ترى أن حل القضية الفلسطينية على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة (أرض القرارين الدوليين 242، 338) يجب أن يرتبط بوجود فلسطينيي العام 1948 وشكل نظامهم وتجمعاتهم وتطلعاتهم وتصوراتهم لأنفسهم وعلاقتهم مع دولة إسرائيل!

وبهذا المنطق فإن إسرائيل تشترط علينا عدم التفكير بالعودة إلى فلسطين، وفي الوقت نفسه فقد غزت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة وأكثرت من بناية المستوطنات اليهودية عليها.

لا هي تركت الضفة الغربية وقطاع غزة بدون مستوطنات منذ العام 1967، ولا هي تريد عودة اللاجئين، وحتى لو عادوا لم يعد هناك حيز كاف لاستيعابهم!

يتجاوز أثر الإعلان المستمر عن الدولة اليهودية مسألة عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مسألة أخطر، تتعلق بدلالة هذا الطرح العنصري بالنسبة للوجود الفلسطيني العربي داخل حدود دولة إسرائيل- خط الهدنة العام 1948، وهذا يعني أن الصهيونية الحاكمة لدولة إسرائيل لم تستطع تغيير جلدها، وأنها عادت إلى حل التهجير القديم الذي أصبح عمره 60 عاما، فماذا يعني الاعتراف بدولة يهودية تعاني من مسألة الديمغرافيا بتسارع كلما تقدم الزمن وزادت نسبة الفلسطينيين هناك في أرضهم غير العودة إلى التهجير؟.

وزير الخارجية المصري التقط الخيط والدلالة، كأول رد فعل على مطالب المفاوضين الإسرائيليين باعتراف الفلسطينيين بيهودية الدولة حين قال إن الأقلية العربية في إسرائيل باقية إلى الأبد.

أما المفاوضون الفلسطينيون فلم يكن أمامهم إلا التعبير المنطقي أن شكل الدولة الإسرائيلية لا يهم الفلسطينيين، حيث شموا فيه كغيرهم ليس إلغاء لحق العودة فقط بل إلغاء للوجود القومي العربي في فلسطين المحتلة العام 1948، حتى وإن لم يصرحوا عمليا بذلك، كون الفلسطينيين يعتبرون أخوتهم في الداخل ذخرا إستراتيجيا وثقافيا للوجود الحضاري الفلسطيني على أرض فلسطين، سيكون لوجودهم شأن مهم في ظل التشاؤم بحل قضية اللاجئين الفلسطينيين حلا عادلا.

رصد اتجاهات الرأي الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والعالمية إزاء "يهودية الدولة" الإسرائيلية سيقود الراصد إلى تقسيم الآراء إلى شعبية ورسمية، ومن ثم للوصول الى التحالف الشرير بين حكام إسرائيل وحكام الولايات المتحدة في الاتفاق على الصيغة الوقحة العنصرية التي يمهد لها المفاوضون الإسرائيليون ليخربوا مؤتمر أنابوليس. ليست صيغة وقحة بل صيغة غير عملية، ولا تقدم أي شيء في الوصول الى تسوية وحل وسط في مسألة اللاجئين الفلسطينيين.

إنه لي ذراع ومحاولة مستمرة لسياسة الأمر الواقع الإسرائيلية لكن هذه المرة مدعومة علنا من الولايات المتحدة، فهل أصبحت الولايات المتحدة طرفا في النزاع لتتبنى هذه الصيغة التي لا تحمل في طياتها غير بذور الحرب لا السلام!؟

الولايات المتحدة التي كان لها الدور الحاسم في قرار تقسيم فلسطين وإقامة دولة إسرائيل العام 1948، هي نفسها اليوم التي تقود التحركات الدولية باتجاه الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل!

انظر لخارطة فلسطين التاريخية، وتذكر مشاريع التقسيم والهجرات اليهودية إلى فلسطين وتوزيع السكان العرب واليهود في فلسطين التاريخية، هل هذا يقود إلى إحساس سياسي استراتيجي ما؟

دع ذلك وانظر الآن إلى الخارطة، إلى الأرض والناس، في إسرائيل: يشكل الفلسطينيون 20% من سكان إسرائيل، حوالي مليون وربع المليون فلسطيني، في الضفة الغربية الأغلبية (الشرعية) للفلسطينيين، يستوطن بينهم حوالي 220 ألف مستوطن يهودي، في فلسطين المحتلة العام 1948، يتركز العرب في الجليل والمثلث والنقب، وهم نسبة كبيرة يستوطن بينهم عدد قليل من الإسرائيليين في مستوطنات صغيرة، بمعنى أن تركز الإسرائيليين اليهود هو في أماكن محدودة، أي في التجمعات اليهودية الكبيرة: تل أبيب مثلاً.

إسرائيل لا تنظر إلى تقسيم العام 1947 أنه تقسيم عادل من وجهة نظرها، كذلك الحال مع حدود الهدنة عام 1948، لأنها لا تقيس (لا تحسب) أن الضفة وغزة هي مقابل عادل لبقية فلسطين على النحو التالي:

- أراضي الجليل والنقب يتركز فيها فلسطينيون إضافة لأماكن أخرى عديدة فيها فلسطينيون يتزايدون (حيفا 35 ألفا، يافا 22 ألفا، عكا 20 ألفًا، الناصرة أكثر من 70 ألفًا).

- لا تشكل صحراء النقب مكاناً جاذباً للاستيطان والإقامة، فاليهود الروس مثلاً القادمون من مناطق باردة من الصعب عليهم السكن في الصحراء. إضافة إلى أن النقب بعيد عن التجمعات اليهودية المدينية، لذلك فرغم أن النقب يشكل نسبة قد تصل النصف من مساحة فلسطين التاريخية، إلا أن أهميته هي في النواحي الإستراتيجية، ولكن من الناحية الإسكانية والإقامة فهو قليل الأهمية، يؤكد ذلك أن خطة شارون مثلاً "الاستيطان في الغور" فشلت بسبب سوء حالة المناخ.

- إذن إسرائيل تعوض ذلك في الاستيطان في الجبال الوسطى، جبال وهضاب الضفة الغربية.

من هنا فإن إسرائيل تضع في رأسها مسألة ملكية العرب داخل فلسطين 1948 للأراضي، ومسألة الوجود البشري، وهذا له علاقة بهوية الدولة ومستقبل الحل النهائي.

فهي من زاوية فكرية تطالب بنقاء الدولة العبرية، وليس من السهولة تطبيق المساواة بين العرب واليهود، في ظل الزيادة العربية التي قد تهدد عملية اتخاذ القرار في الكنيست، ولنا أن نتذكر أن الائتلاف الحكومي برئاسة حزب العمل كان يعتمد على أعضاء الكنيست العرب لمنع سقوطه وذلك في قضية عملية السلام [في 22 أيار 1995 قدم اقتراح بحجب الثقة من قبل الكتل العربية في الكنيست، وذلك على خلفية معارضتهم مصادرة 800 دونم من الأراضي لضمها إلى القدس الشرقية، وعندما اتضح لرئيس الحكومة إسحق رابين أنه لا يستطيع تجنيد أغلبية في الكنيست لإسقاط الاقتراح، وأن التصويت في الكنيست سيسقط حكومته أعلن عن إلغاء خطة مصادرة الأرض، وبذلك خضع لضغوط الكتل العربية في مسألة سياسية مهمة" *].

وفي ظل تنامي الهوية العربية لفلسطينيي 1948 واعتبار الإسرائيليين لهم "أنهم شركاء في الصراع لإقامة دولة عربية في فلسطين" فإن إسرائيل ترى نفسها مهددة من الداخل، وهي مضطرة في المستقبل لتقسيم فلسطين 1948 بين اليهود والعرب عن طريق منح التجمعات العربية في إسرائيل حكماً ذاتياً يبدأ ثقافياً وربما يتطور سياسياً ليرتبط بالدولة الفلسطينية في الضفة وغزة.

ويظن الإسرائيليون أنه إذا وقع اتفاق يضع حداً للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي فإن ذلك سيؤدي إلى تغييرات إيجابية لصالح مكانة العرب في إسرائيل.

إن العودة المرتقبة لجزء من النازحين إلى الضفة الغربية بأعداد كبيرة، سيضمن تعريب وفلسطنة شبه كاملة للضفة وغزة، وإن عودة أعداد كبيرة من الفلسطينيين اللاجئين إلى فلسطين العام 1948 (إسرائيل) ستهدد التوازن الديمغرافي، وستضعف بنية الفكرة الصهيونية من أساسها، ولا يبقى أمام إسرائيل إلا المطالبة بالدولة العلمانية لكل مواطنيها وهي الدولة الفلسطينية العلمانية على أرض فلسطين التاريخية، وإذا أضفت أيضاً رحيل المستوطنين عن الضفة وغزة، فإنه مع مرور الوقت (هكذا يخشى الإسرائيليون) ومع تغييرات في النظم السياسية العربية كما يستشف من وثائق مؤتمرات هرتسليا (احتمالات الدولة القومية أو الإسلامية) فإن الإسرائيليين يخشون انعكاس المعادلة بحيث يعطي العرب لتل أبيب مثلاً حكماً ذاتياً.

فلا يعني إذن نقاء الدولة الإسرائيلية هو في داخل حدود 1948 بل وفي جزء من حدود 1967، فهي يحق لها أن تحسم الأمور في الدولة الرسمية في حدود 1948 وفي حدود الأرض المحتلة، بينما لا يحق للفلسطينيين إلا التحدث فقط عن الضفة وغزة، بل عن جزء منها خارج السور، وبالتالي تقسيم الضفة بين اليهود والفلسطينيين باتجاه إضافة أرض جديدة نظيفة من العرب لتشكل توازنا مع الأراضي العربية داخل دولة إسرائيل غير النظيفة من العرب!

عودة إلى الاعتراف بيهودية الدولة وتكرار الاعتراف بها، فرغم أن المحور الأساس لمؤتمر هرتسليا السابع كان بعنوان "ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي" الذي يدل على الأمن والتواجد العسكري، إلا أن معظم المواضيع جاءت لتصب في مسألة الوجود والاطمئنان له؛ فقد كانت هناك عدة مواضيع لها علاقة مباشرة بمسألة الوجود، منها:

- الهوية اليهودية كمناعة قومية.

- إستراتيجيات لمواجهة مظاهر اللاسامية.

- إسرائيل والشتات: مشاركة الشعب اليهودي الكونية مع دولة إسرائيل.

- محاربة إلغاء شرعية الدولة اليهودية والمعركة على الرأي العام.

لذلك فإن زعمي عن الدلالة الخطيرة للمطالبة بالاعتراف بيهودية الدولة له ما يبرره، فالخشية من فلسطينيي العام 1948 تضمنتها كلمات البروفيسور عوزي أراد، رئيس المؤتمر، التي شنها بشكل حاد "على المواطنين العرب في إسرائيل معتبرا أن استئنافهم على يهودية إسرائيل كما تجلى الأمر في وثيقة التصور المستقبلي للعرب الفلسطينيين في إسرائيل الصادرة عن لجنة المتابعة العليا يضعهم في قارب واحد مع القوى المحيطة بإسرائيل الرافضة لحقها في الوجود كدولة ديمقراطية ويهودية، وهو الحق الذي اعترف به العالم" **

لقد طرح البروفيسور جدعون بايغر اقتراحا ردده آخرون قبله، يقضي بنقل مناطق مأهولة بعرب من إسرائيل إلى الدولة الفلسطينية مقابل نقل جزء من مستوطنات الضفة إلى إسرائيل، وسنرى أن هناك آخرين ينطلقون من المنظور العنصري يقترحون حلولا تقوم على الفصل، حتى أن حكام أكبر دولة في العالم باتوا يتبنون هكذا حلول، ولكن لأن إسرائيل هي التي غيرت أحوال الأرض المحتلة، وهي التي وضعت العقبات على طريق تسهيل الفصل، خصوصا بين الضفة وغزة وإسرائيل، فإن الحلول لن تكون عملية، حيث يصعب الفصل هنا، كما يصعب الفصل في داخل الدولة..

تستطيع إسرائيل أن تريح نفسها من التفكير القاتل في سيناريوهات الفصل ونقاء الدولة ويهوديتها فقط إذا تخلت ولو قليلا عن الفكرة العنصرية، ولو اطلعت على تاريخ العالم لرأت أن العنصرية أول ما تؤثر على أصحابها، وهي التي تبذر بذور فنائهم.

فلا ينبغي على الولايات المتحدة الديمقراطية المتعددة الثقافات واللغات والأديان أن تشد على يدي إسرائيل في تضييع الوقت على إنجاح السلام، فحركة التاريخ في تياراته العظيمة لن يستطيع العنصريون الصمود أمامها طويلا، لأنها ستجرفهم ولا تترك من أفكارهم أثرا إلا ومحته، لأن الطبيعة البشرية، وطبيعة التقدم والحضارة والحداثة لا تنسجم مع هكذا معيقات للفكر والشعور والتضامن والانفتاح الإنساني.

وبعد، للفلسطينيين الباقين في أرضهم الذين مورست بحق أجدادهم وآبائهم وبهم السياسات العنصرية أن يتساءلوا ساخرين: هل كانت دولة إسرائيل على مدار عقود تأسيسها إلا دولة لليهود تعطيهم وتمنحهم وتهبهم من حقوق السكان الفلسطينيين الأصليين في الأرض والثروات والهواء...؟

فلماذا إذن يطرح الإسرائيليون هذا الطرح؟ هل لإضفاء شرعية على جرائمهم التي لم تنقطع بعد؟ وهل يريدون من الضحية حتى يقيموا سلاما معها أن تتهم نفسها؟

إن أنابوليس هو مؤتمر واحد، لكن مواسم الكذب غير الواحدة قد لا تنتهي في ظل هكذا عقلية تسطو على الآخرين و... على نفسها أيضا!

(رام الله)

هوامش:

* شلومو غازيت: السياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ 1967 الى 1997

** مؤتمر هرتسليا السابع حول "ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي" (21/1- 24/1/2007): "اتجاهات جديدة في الخطاب السياسي الإسرائيلي الراهن"، تقرير خاص، مدار- المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 4/2/2007