قديم الإسرائيليين وجديدهم عن كتب التعليم العام الفلسطينية

"ماذا لدينا نحن؟ ماذا يحدث في كتبنا المدرسية؟ هل يظهر فيها الخط الأخضر؟ هل يوجد فيها اعتراف بحق الفلسطينيين بدولة خاصة بهم في حدود العام 1967؟ هل تدعو الى محبة الفلسطيني والاعتراف بالإسلام؟ الإجابة قطعا لا"- هذا ما هتف به داعية السلام واليساري الإسرائيلي أوري أفنيري في مقال نشرته "الأيام" في الفاتح من نيسان الماضي، وهو كلام حقيقي وليست له علاقة بالطبع بكذبة نيسان المعروفة.

جاءت د. كوندوليزا رايس وقالت ما قالت عن المناهج في سياق نقدها وتطلعها للتغيير الفكري الضروري للسلام، عازفة على ما عزفته هيلاري كلينتون عضو الكونغرس الأميركي منذ سنوات، حين تحدثت عن التحريض في المناهج وهي لم ترها بالطبع ولم تقرأها إلا مترجمة حسب أهواء مترجم غير محايد يعمم ويقرر على هواه لا يرده وازع أكاديمي أو خلقي، وهي القادمة أخيرا من مؤتمر يتحدث عن الانحياز وعدم الحيادية في المنهاج الفلسطيني!

أفنيري يذكر ذلك صراحة، ويقول "تقوم طواقم من الأجيرين بتمشيط كل كلمة في وسائل الإعلام والكتب المدرسية بمشط ذي أسنان رفيعة...بتمويل من مليونيرات يهود أميركا..".

الخطوة الثانية، تلقف المسؤولون الإسرائيليون حديث الأميركيين عن المناهج، فراحوا يعيدون ويزيدون كي يثبتوا أننا لسنا شريكا يوثق به!

الخطوة الثانية هي الخطوة الأولى في الحقيقة، والسبب أن باعث الرسائل عن المناهج الفلسطينية إنما هو غير منصف، عنصري أو أميركي متصهين.

فكان أن قام أفنيري بواجبه وانتصاره لما يعتقد أنه صواب، ودحض الأكاذيب معيدا الأمور إلى نصابها، متسائلا عما تحويه الكتب الإسرائيلية، من باب عدم ذكر عيوب الآخرين ونسيان عيوب الذات المترصدة للعيوب.

"لا جديد تحت الشمس في هذا الموضوع، فبين الحين والآخر حين تزول كل الذرائع لرفض التحدث مع الزعامة الفلسطينية تظهر الذريعة الأخيرة: الكتب المدرسية الفلسطينية تدعو الى القضاء على دولة إسرائيل"- هذا هو بيت القصيد الذي أراد أفنيري توصيله وأظنه فعل بوضوح.

من تلك المنظمات التي درست المناهج الفلسطينية لعدد من الصفوف هي الأول والثاني والسادس والسابع الأساسية منظمة"مركز متابعة واقع السلام" التي خلصت إلى ملاحظات عامة ادعت فيها أن الكتب الفلسطينية لا تدرّس مبادئ السلام والمصالحة مع إسرائيل وتعمل في الوقت نفسه على نقل بذور الحقد إلى الأجيال الفلسطينية وغيرها.(1)

كان ذلك في تشرين الثاني العام 2001 بعد أقل من عامين على البدء في تدريس الكتب الجديدة وكان عددها 60 كتابا، وكان من السهولة فهم الرسالة، والتي كشفها أفنيري: الهروب من دفع الاستحقاقات، ولما كانت أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم فقد تمت مهاجمة الكتب، فكان ردّ فعل د. صلاح ياسين، مدير عام مركز المناهج وقتها، أن الهدف من ذلك هو "التعبير عن الرغبة الإسرائيلية في التهرب من كافة الاستحقاقات السياسية المترتبة على الجانب الإسرائيلي".

لقد اتسمت الدراسة الأميركية بالعمومية في توجيه الاتهامات دون ذكر دليل يثبت أن المناهج الفلسطينية تستغل لأهداف غير تعليمية أو تربوية، حيث ما برح العاملون في المناهج يؤكدون أن المناهج لا تتناقض مع قرارات الشرعية الدولية.

لأجل ذلك تجد أوري أفنيري كما قلنا يكشف الأهداف الخفية من وراء هذه التصريحات الجوفاء غير العلمية، ويعيد الكرة للملعب الإسرائيلي، فيقول ساخرا: "ابتداء من بستان الأطفال وانتهاء بشهادة المرحلة الثانوية لا يتعلم الطالب الإسرائيلي عن أن للعرب أي حق في هذه البلاد... حين يخرج الطالب الإسرائيلي من طاحونة التربية فهو يعرف أن العرب هم شعب متخلف دينه إجرامي وثقافته بائسة، إنه يأخذ هذه النظرة معه الى الجيش..".

لسان حال الصهاينة هنا وهناك أن الاستحقاق فقط واجب على الفلسطينيين، وهم المطلوب منهم أولا ودائما أن يغيروا!

في ديباجة اتفاقية أوسلو التي تؤكد الاعتراف بالحقوق السياسية والشرعية لكلا الشعبين نقرأ ما قالته المادة 22 في الفصل الرابع (التعاون) عن مساهمة الأنظمة التعليمية في السلام، فماذا ساهمت المؤسسة التربوية في إسرائيل من اجل ثقافة السلام بعد الاتفاقية، من باب حسن النوايا؟!

إنها التبادلية إذن كما قال أفنيري: "يجب أن يكون الهدف هو أن يرى الولد الذي يسكن في ريشون لتسيون أمام عينيه على جدار صفه خارطة تتم الإشارة فيها الى فلسطين، وأن يرى الولد في رام الله أمام عينيه على جدار صفه خارطة تتم الإشارة فيها الى إسرائيل"، وهو كلام منطقي عادل يتفق مع القرارات الدولية، فلا واجب على الفلسطينيين إصدار خرائط في ظل الاحتلال، كما يتابع أفنيري: "هل وزارة التربية والتعليم الفلسطينية مطالبة فعلا بإصدار خارطة تكون فيها كل مساحة فلسطين داخل إسرائيل". الأمر كله "ليس بالإكراه لكن بالاتفاق".

لا سلام إذن مع احتلال.

أما ما يثبت في عقل الطالب الفلسطيني فهو ما يرى، لا ما يسمع أو يقرأ من سطور في كتاب مدرسي فقط.

كل ما يمكن أن يفترض أنه يقع في باب التحريض الكلامي الفلسطيني سيظل لا شيء مقارنة مع باب القتل والاضطهاد والاحتلال، فالاحتلال ليس أسوأ من واقع ولفظ.

إن فلسطين علم وتاريخ وجغرافيا وهوية وتراث إلى آخر ذلك من عناصر، فهل إذا علمنا الطلبة عن بلدهم نكون قد حرضنا على إسرائيل؟ وهل ما يريده الصهاينة منا هو أن نلغي مراحل التاريخ الفلسطيني منذ عشرة آلاف عام حين نبتت هنا أول مدنية في التاريخ؟

لم تكن حماس في الحكم، ولم تكن الانتفاضة الثانية موجودة، ولم تكن وقتها كامب ديفيد 2 قد أظهرت فشلها؛ ورغم ذلك لم يتغير شيء، وظل التغيير الإسرائيلي يسير كسير السلحفاة على الأرض، أما نحن الفلسطينيين فيجب من منظورهم أن يكون تغييرنا طيران طائر!

في كتابه "الصراع العربي الإسرائيلي في كتب التاريخ المدرسية (1948- 2000) من تأليف د. إيلي بوديه، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في الجامعة العبرية (2)، يذكر ما تقوله المناهج الإسرائيلية عن فلسطين أنها "اسم بلادنا قبل قيام الدولة. الرومان هم من أطلقوا التسمية على اسم الفلسطينيين أعداء إسرائيل الذين عاشوا في البلاد بضعة قرون.....لم يكن للقومية الفلسطينية أي وجود فهي مندمجة كليا بالقومية العربية..". ويمكن متابعة ما تذكره المناهج الإسرائيلية في الكتاب المذكور حول قضايا: الصراع، الإسلام، الهجرات، الحروب، اللاجئين.. كي يتعمق لدى المتابع مدى عنصرية الذي يقوم بدل تغيير نفسه باتهام الآخرين كذبا!

حين قدم شارون إلى رئاسة الوزراء ركّز كثيرا على التحريض في المناهج والإعلام، كان ذلك العام 2004، وقد تم رصد المناهج لتحقيق هذه المهمة، لكن باحثين منصفين من إسرائيل أكدوا انتفاء التهمة.

فحتى تستطيع إسرائيل البقاء كدولة محتلة معتدية فإنها تحتاج لأن يكون أفراد مجتمعها كلهم جنودا، وهذا ما وجه السياسة السكانية الإسرائيلية حتى قبل العام 1948 الذي شهد ولادة الدولة.

لذلك فإن النظام العسكري الإسرائيلي المغلف بغلالة شفافة من الديمقراطية أخذ على عاتقه تهيئة المجتمع كباراً وصغاراً للحروب.

يؤكد ذلك ما ذكره لنا السيد أنريك رستوي في صيف العام 2004 ممثل الائتلاف الدولي لمنع تجنيد الأطفال أن مؤسسة إسرائيلية تدعى نيو بروفايل رصدت تجنيد الأطفال في إسرائيل.

لقد كان معدو التقرير الإسرائيلي جريئين في كشفهم لتجاوزات المؤسسة الحاكمة في إسرائيل والمؤسسات الاستيطانية المرتبطة بها، فقد كشفت نيو بروفايل عن مدارس إسرائيلية تعمل على إدخال الطابع العسكري في منهاجها بدعم وعلم وزارة المعارف الإسرائيلية (إذ تقوم هذه المدارس بتجنيد تلاميذ دون سن الـ 15 عاماً وتجبرهم على الانصهار داخل طابع عسكري تقوم إدارة المدرسة بفرضه، ويقوم الجيش الإسرائيلي بإشراك الأطفال في تمرينات عسكرية في مجالات مختلفة، قسم منها يجري عن طريق التطوع، وقسم آخر يجري إدراجه في سياق واجب التلميذ في المدرسة). كما أشارت نيو بروفايل إلى تعليم المستوطنين لأطفالهم (على الإيمان المطلق بوجوب طرد الفلسطينيين..) ولم تنس ذكر وتفعيل ظاهرة التجنيد الرمزي الذي يتعرض له معظم أطفال إسرائيل بتشجيع وزارة المعارف والبلديات. ويفضح تقرير نيو بروفايل كيف أن المناهج الإسرائيلية تعكس المواقف العسكرية الإسرائيلية من الروضة وحتى آخر المرحلة الثانوية (حيث يوجد برنامج منتدب لجميع المدارس التي تديرها الحكومة يسمى الإعداد لجيش الدفاع الإسرائيلي...).

وبالطبع أشار التقرير- الفضيحة - إلى تجنيد الأطفال الإسرائيليين في حراسة المستوطنات، وأنهم يحملون السلاح مستعرضاً أنواع الخدمات التي تندرج تحت مصطلح تجنيد الأطفال، كارتداء الزي العسكري وكأن يكون الطفل عضواً في مجموعة مسلحة تحت سن 18 عاماً أو قام بعمل يدعم به المسلحين والمشاركة بأعمال مساعدة كالطبخ والعتالة وجمع المعلومات وصيانة الأسلحة، وخدمات متنوعة (تشمل الخدمات الجنسية للبنات المجندات لأهداف جنسية).

الخطير في تقرير نيو بروفايل ليس تجنيد المستوطنين ولا الجيش للأطفال، بل تواطؤ المؤسسة التعليمية الإسرائيلية التي سمحت للثقافة العسكرية أن تتغلغل داخل الثقافة والمناهج التربوية الإسرائيلية. فكيف سيكون الحوار في المستقبل مع مواطني دولة إسرائيل؟ بالطبع سيكون مفهوم القوة، والقوة وحدها وبالسلاح، هي لغة أثيرة لدى هؤلاء الأطفال- مواطنو الغد.

العنصرية، والشرور كلها تصيب أصحابها قبل أن تصيب الآخرين "العدو". أليست السياسة العنصرية الحربية التي تؤثر على النشء في إسرائيل سياسة تؤذي الأطفال الإسرائيليين وتسطو على أحلامهم الإنسانية وحياتهم العادية وخيالاتهم الملائمة لأعمارهم؟

وقد حددت بأن محل البحث والتعليق والتحليل في مقالي هذا هو كتب التعليم العام في فلسطين، لأن ثمة فرقا بين كتب التعليم العام في المدارس، وباقي الكتب في المعاهد والجامعات، لأن مصطلح المناهج الفلسطينية يشمل مناهج التعليم العام والتعليم العالي، حيث أنه يندر أن نقرأ آراء إسرائيلية حول صورة إسرائيل وقضايا الصراع والسلام معها في كتب الجامعات الفلسطينية، كما أننا في الوقت نفسه أيضا لا نقرأ آراء فلسطينية حول كتب الجامعات الإسرائيلية، علما أن الموضوع مهم جدا، كون أن الخريجين هنا وهناك، إنما يتأثرون ويصقلون في المحاضرات الجامعية والأبحاث، بحث تولد لديهم اتجاهات معينة في الوعي، يحملونها وهم ينطلقون إلى المستقبل حيث سيصبحون قادة في الفكر والسياسة والإعلام والعلوم العسكرية والعلمية والأدبية الأخرى. وبالطبع ثمة حاجة لجهات محايدة لأن تدرس وتخبر الجمهور المهتم في العالم من هو الأكاديمي المنصف ومن هو المحرّض والأسير للفكر العنصري الكولونيالي؟

(رام الله)

________________________

هوامش:

1- ملحق "المشهد الإسرائيلي" الصادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية مدار- عدد 88. آب/ 2004

2- "الصراع العربي الإسرائيلي في كتب التاريخ المدرسية (1948- 2000) من تأليف د. إيلي بوديه، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في الجامعة العبرية، صدر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، 2006