مسؤولية الإدارة الأميركية عن الفوضى الشرق أوسطية

لم تفلح الإدارة الأميركية في تحقيق نجاحات كبيرة في سياستها الخارجية الشرق أوسطية، وبما يتناسب والادعاءات التي أخذتها على عاتقها، خصوصا بالنسبة لمكافحة الإرهاب، و"نشر الديمقراطية"، كما بالنسبة لجلب السلام والاستقرار والازدهار إلى هذه المنطقة.

مثلا، هذا العراق وعوضا عن أن يتحول إلى نموذج للتغيير السياسي المنشود، وإلى واحة للاستقرار والازدهار والديمقراطية، في الشرق الأوسط، بحسب الفرضيات التي جرى الترويج لها قبل أربعة أعوام، بات هذا البلد نموذجا للفوضى وانعدام الأمن والخراب الاقتصادي والاجتماعي، كما بات بؤرة للعصبيات المذهبية والطائفية والإثنية، ومرتعا لأعمال العنف الطائفي والاحترابات الأهلية وجماعات الإرهاب الأعمى.

ويمكن الاستنتاج هنا بأن الإدارة الأميركية بالذات هي التي تتحمل معظم المسؤولية عن هذا التدهور السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي في العراق، كونها تقصّدت بعد احتلاله (نيسان 2003) تقويض مؤسسات الدولة، وتعمدت حلّ الجيش، ولعبت على وتر التمايزات الطائفية والمذهبية والإثنية فيه، وركّزت على وسائل القوة العسكرية لفرض إملاءاتها على العراقيين. وأيضا كونها تعمدت، ولو بشكل غير مباشر، إقصاء المعارضين للاحتلال من العملية السياسية، ولم ترض تحديد أفق لإنهاء احتلالها، وغيّبت الدور العربي، بشأن التقرير بمستقبله العراق، ما سهّل على إيران زيادة نفوذها فيه، على حساب العرب، وعلى الضد من رغبات الإدارة الأميركية ذاتها!

وحاصل الأمر فإن هذه السياسات غير المدروسة، وغير المدركة للعواقب، أو لردود الفعل التي تنتجها في الواقع العراقي المعقد، انعكست سلبا على العراق والعراقيين، وصعّبت على الولايات المتحدة بالذات تحقيق الأمن والاستقرار في هذا البلد، كما أسهمت في إضعاف مكانة الولايات المتحدة فيه وفي المنطقة العربية عموما، وبينت إخفاق دورها القيادي على المستوى الدولي.

أما على صعيد الشرق الأوسط فقد لاقت السياسة الخارجية الأميركية المتبعة ممانعة كبيرة من جهة السلطات والمجتمعات في هذه المنطقة (وهو ما يلفت الانتباه)، وذلك بسبب تخبّط هذه السياسة، وميلها لانتهاج وسائل القوة والغطرسة والإملاء والتدخل، وبسبب الادعاءات التي أخذتها على عاتقها، وضمنها ادعاءات "الإصلاح السياسي"، و"نشر الديمقراطية"، وإعادة هيكلة المنطقة وفق مشروع "الشرق الأوسط الكبير" أو الموسع.

وفي ظل هذه السياسات بات الأصدقاء التقليديون للولايات المتحدة في حيرة من أمرهم، فالإدارة الأميركية الحالية تفعل كل ما بوسعها لتعميق كراهية المجتمعات العربية لأميركا وإحراج أصدقائها، بسبب تماهيها مع إسرائيل ومحاباتها لها على حساب العرب وحقوقهم ومصالحهم وكرامتهم. وأيضا بسبب ممارساتها وسياساتها العشوائية وغير المدروسة في العراق، والتي أدت إلى تحول هذه البلد إلى بؤرة لجماعات الإرهاب، وإلى مكان إستراتيجي لممارسة إيران لنفوذها الإقليمي في الشرق الأوسط. زد على ذلك محاولات هذه الإدارة فرض إملاءاتها في إدارة الأوضاع الداخلية في البلدان العربية والتي تهدّد، بالذات، أمن واستقرار الأنظمة السائدة فيها، وهي أنظمة صديقة للولايات المتحدة الأميركية. ولعله في هذا الإطار، مثلا، يمكن فهم تبرم الرئيس المصري حسني مبارك من سياسات بوش التي اعتبرها بأنها تفاقم من مشاعر الكراهية للولايات المتحدة في المنطقة العربية، وكذلك رفض وزير الخارجية المصري تدخل وزيرة الخارجية الأميركية بما يتعلق بتعديل الدستور.

بالمحصلة فإن هذه السياسات، التي لاقت إخفاقا ذريعا، أشاعت نوعا من الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، من العراق إلى فلسطين ولبنان وصولا إلى الصومال والسودان (على أقل تقدير)، الأمر الذي أضعف من صدقية سياسات الولايات المتحدة ومن مكانتها، كما أضعف من مكانة حلفائها وأصدقائها فيها.

وكما قدمنا، فإن هذه السياسات بالذات تتحمل المسؤولية عن تزايد الدور الإقليمي لإيران في المنطقة، وعن تنامي العصبيات الطائفية والمذهبية والاثنية والجماعات الدينية المتطرفة فيها (كما قدمنا)، وذلك بسبب ردود الفعل التي ولّدتها في المجتمعات العربية. وللتذكير، أيضا، فإن الولايات المتحدة بالذات كانت هي المسؤولة أكثر من غيرها عن تنامي جماعات الإسلام السياسي المتطرف، وخصوصا جماعة "القاعدة"، في فترة التوظيف ضد "الاتحاد السوفييتي السابق"، ومن خلال أفغانستان.

هكذا فإن المطلوب من الإدارة الأميركية، مراجعة سياساتها وحساباتها الشرق أوسطية، واستنباط الدروس المناسبة من العثرات والإخفاقات التي واجهتها خلال السنوات الماضية. وهذا يتطلب فيما يتطلب:

1) الإعلان عن جدول زمني وسياسي للانسحاب من العراق، وخلق الظروف والممهدات التي تمكن العراقيين، بكافة أطيافهم، من تقرير مصيرهم وفق إرادتهم الحرة، وبعيدا عن روح الوصاية والإقصاء والتهميش والهيمنة.

2) وضع حد لسياسة تهميش وإضعاف الدور العربي، في العراق، وفي مجمل قضايا المنطقة، ما يساهم في إحياء وتفعيل النظام العربي، ويضع حدا للتزايد غير المشروع للنفوذ الإيراني في المنطقة.

3) عدم تبني سياسات متغطرسة وإملائية في المنطقة العربية، تتأسس على القوة والابتزاز السياسي، والتي يمكن أن تولّد ردود فعل عكسية.

4) مراجعة السياسات التغييرية الانقلابية والوصائية، التي تستدعي الممانعة من السلطات والمجتمعات العربية في آن معا، والتي لا تؤدي إلا إلى الفوضى وعدم الاستقرار، وإضعاف الدور العربي.

5) الإقلاع عن سياسة الدعم المطلق لسياسات إسرائيل المتعنتة، والتوجه جديا لإيجاد حل لتسوية للصراع العربي ـ الإسرائيلي، على مختلف الجبهات (الفلسطينية والسورية واللبنانية)، لأن هكذا تسوية يمكن أن تسهم كثيرا في تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، كما يمكن أن تسهم في إضعاف أجندة الجماعات المتطرفة، ووضع حد للنفوذ الإقليمي الإيراني، المنفلت من عقاله على خلفيات أيديولوجية وسياسية وطائفية.

وبديهي أن هذه الأمور تتطلب مزيدًا من الضغوط الداخلية والدولية على الإدارة الأميركية، كما تتطلب أصلا تحقيق نوع من التوافق العربي، لاستعادة الدور العربي المفقود في العراق وفي عموم المنطقة، لصالح الأجندات الدولية والإقليمية.

عموما ثمة ادعاءات تروج لضرورة تفهّم بعض دواعي الرئيس بوش بشأن عدم إدخال تغييرات على السياسة الخارجية الأميركية في العراق والشرق الأوسط، بدعوى أن التلويح بإمكان انسحاب الولايات المتحدة من العراق، في هذه الظروف والمعطيات، يعني ترك هذا البلد فريسة للفوضى، ولقمة سائغة للإرهابيين والمتطرفين، كما للنفوذ الإيراني، مثلما يعني التخلي عن الأصدقاء والحلفاء في هذه المنطقة، وتركهم يصارعون أقدارهم في مواجهة قوى التطرف الإسلاموي وتمدد إيران الإقليمي. وبشأن أن أي تغيير في السياسة الأميركية الحالية ربما يعني الإقرار من الولايات المتحدة بهزيمتها في العراق، وتخليها عن مصالحها فيه وفي المنطقة (النفط ـ إسرائيل ـ النفوذ الإقليمي ـ مكافحة الإرهاب ـ الحد من نفوذ إيران).

لكن هذه الادعاءات، التي تتطلب استمرار التشبث بالسياسة الأميركية المعتمدة، والتي ثبت إخفاقها، تعني أيضا الإيغال بإدخال المنطقة في المجهول، وفي مغامرات أو حسابات لا يمكن السيطرة عليها، أو حتى التكهن بتداعياتها أو عواقبها. لذلك فثمة أهمية كبيرة لإدخال تغييرات على السياسة الأميركية في المجالات التي ذكرناها آنفا، لصالح استقرار المنطقة، وحتى لصالح الولايات المتحدة ذاتها.

_______________________________

(*) ماجد كيالي- باحث فلسطيني مقيم في دمشق.