ما الجديد في موقف جهاز الشاباك جورج كرزم

أعربت بعض الأوساط العربية في إسرائيل، مؤخرا، عن دهشتها مما قاله يوفال ديسكين، رئيس المخابرات الإسرائيلية (الشاباك)، بأن الأجهزة الأمنية توصلت إلى قناعة بأن "الفلسطينيين في إسرائيل تحولوا إلى تهديد إستراتيجي على إسرائيل، لأنهم يرفضون الاعتراف بيهوديتها، ولا يعترفون بحقها في الوجود" (معاريف، 2007/3/13)، وذلك في جلسة سرية عقدها الأخير مع إيهود أولمرت، رئيس الحكومة الإسرائيلية، حيث تباحثا في الوثائق الأربع التي أصدرتها بعض الجهات والمؤسسات العربية في إسرائيل، وهي تحديدا وثيقة "التصور المستقبلي" الصادرة عن رؤساء جمعيات عربية وبالتعاون مع لجنة المتابعة العليا لقضايا الجماهير العربية، ووثيقة "الدستور الديمقراطي" الصادرة عن مركز عدالة، ووثيقة "النقاط العشر" الصادرة عن جمعية مساواة، ووثيقة حيفا الصادرة عن مركز مدى الكرمل. جميع هذه الوثائق ترفض اعتبار إسرائيل دولة يهودية، وتطالب بإعادة اللاجئين الفلسطينيين، وبالاعتراف بفلسطينيي الداخل "كأقلية قومية" لها مميزاتها وحقوقها.

السؤال هو: هل يعد الموقف الإسرائيلي من العرب في إسرائيل تطورا أمنيا- مخابراتيا جديدا ونوعيا، يبرر الضجة الإعلامية المثارة حوله والتي توحي بأننا نقف على عتبة مرحلة جديدة في التعامل الصهيوني الرسمي مع العرب؟

قبل أن نجيب على هذا التساؤل، فلنواصل استعراض بعض ما نشرته صحيفة "معاريف" نقلا عن رئيس "الشاباك". قالت "معاريف" بأن "الشاباك" يرى بأن نشاطات الفلسطينيين في إسرائيل "الداعمة لحماس ولإيران ولحزب الله لم تعد تنحصر في فئة معينة، بل إن السواد الأعظم من الفلسطينيين في إسرائيل يعبرون عن تضامنهم معهم بوضوح، الأمر الذي يقض مضاجع الشاباك" (المصدر السابق). وتابعت بأن "الشاباك" يخشى كثيرا من المثقفين العرب في إسرائيل ومن الوثائق التي أعدت مؤخرا، والتي لا تعترف بيهودية الدولة، وتطالب إسرائيل بإعادة اللاجئين الفلسطينيين. كما يخشى الشاباك من التأثير المتنامي للمثقفين الفلسطينيين الخطرين على أمن الدولة الذين يعلنون عدم اعترافهم بيهودية دولة إسرائيل، ويوصي بتقييد تحركات الفلسطينيين في إسرائيل، ودعم "المعتدلين" الذين يوافقون على العيش بسلام مع إسرائيل (المصدر السابق).

في سياق الإجابة على السؤال السابق، لا بد من التذكير بأن العنصر الديمغرافي العربي في الدولة اليهودية، يعد، بالمنظور الصهيوني، عنصرا أمنيا من الدرجة الأولى، بمعنى ضرورة العمل الصهيوني المستمر من أجل منع تفاقم الخلل الديمغرافي لصالح العرب في الدولة اليهودية. لذا، كان الأمل دائما لدى المؤسسة الصهيونية من وراء الدمج الاقتصادي الجزئي للعرب، أن تقل خصوبة العرب مع الزمن، نتيجة لتغير أوضاع العرب الاجتماعية- الاقتصادية. وبهذا الخصوص، ذكر موشيه شاريت، وزير خارجية إسرائيل السابق، أثناء مناقشات سكرتارية حزب مباي العام 1960: "من الممكن وقف الزيادة الطبيعية للعرب عن طريق رفع مستواهم الاقتصادي والثقافي" (رينارد فايمر، الفلسطينيون عبر الخط الأخضر).

وغداة حرب حزيران 1967، أعلن أمنون لين، عضو الكنيست ومستشار حزب مباي (حزب العمل لاحقا)، بأن "العرب الذين لا يجدون مكانا لأنفسهم في هذه البلاد بإمكانهم أن يفعلوا مثلما فعل عشرات آلاف اليهود منذ تأسيس الدولة، أن يهاجروا" (صحيفة "دفار"، 1967/6/11). وفي أوائل العام 1980 قدم أمنون لين للجنة الخارجية والأمن في الكنيست اقتراح مشروع يحدد فيه سياسة الدولة اليهودية الواجب إتباعها تجاه العرب "القاطنين" فيها. ومما ورد في اقتراح لين: "لقد أجبر المتطرفون النشيطون بين السكان العرب دولة إسرائيل على أن تتعامل مع قطاعات واسعة من الجمهور العربي في إسرائيل كمشكلة أمنية من الدرجة الأولى. ومن الضروري التأكيد باستمرار على أن المسؤولية عن هذا الوضع تقع كلها على عاتق الفئات المتطرفة وليس على إسرائيل" (أمنون لين، "اقتراح سياسة نشاط الدولة بين عرب إسرائيل"، 1980/6/6).

إذن، كما نلاحظ، الموقف الإسرائيلي الحالي من العرب في إسرائيل لا يعد تطورا أمنيا- مخابراتيا جديدا ونوعيا، وهو لا يشكل مرحلة جديدة في التعامل الصهيوني الرسمي مع العرب، كما أنه لا يشكل "دلالة على بدء حملة جديدة من المؤسسة الرسمية على المواطنين العرب وقياداتهم ومؤسساتهم" كما أعلن ذلك بعض المشاركين في الاجتماع الطارئ الذي عقده في أوائل نيسان الماضي، بعض الأكاديميين ومسؤولي جمعيات عربية في مقر مركز عدالة في مدينة شفاعمرو، لبحث التصريحات الاخيرة ليوفال ديسكين (رئيس "الشاباك"). إذ، ومنذ إنشاء الدولة اليهودية، تم التعامل مع العرب تعاملا مخابراتيا - أمنيا، باعتبار أن هناك عربا متطرفين وعربا معتدلين، وبأن العرب إجمالا يشكلون مشكلة أمنية - إستراتيجية. تماما كما التعابير والمفاهيم المخابراتية الإسرائيلية الحالية، كما أشرنا في الاستشهادات السابقة لرئيس "الشاباك". فالمنهج الصهيوني في التعامل مع العرب في إسرائيل، تلخص، دائما، برهن بقائهم في الدولة اليهودية "بسلوكهم الحسن" سياسيا وأيديولوجيا. وفي أوائل العام 1992 عَبَّرَ رفائيل إيتان، عضو الكنيست وزعيم حركة "تسوميت" وقائد هيئة أركان الجيش الإسرائيلي السابق، عن هذه المسألة بقوله: "إنهم أعداء لدولة إسرائيل ما لم يثبتوا عكس ذلك... إن العرب لو كانوا أحرارا لاختاروا محو دولة إسرائيل في هذه اللحظة" (الاتحاد، 1992/3/3).

فمنذ متى، إذن، لم يعتبر "الشاباك" والمؤسسة الصهيونية إجمالا، العرب في إسرائيل تهديدا إستراتيجيا؟ وما الجديد في هذه المسألة؟

المشكلة الأمنية- الديمغرافية، في المدى الإستراتيجي، بالمنظور الصهيوني، ليست العرب في الأرض المحتلة العام 1967، بل وأساسا، العرب في مناطق 1948. إذ، بالنسبة للضفة والقطاع يوجد حل صهيوني شبه إستراتيجي، يوفق بين الحاجة للعمل العربي الرخيص من تلك المناطق وبين عدم مصلحة الدولة اليهودية في إلحاق فلسطينيي الضفة والقطاع سياسيا بها. ويتمثل هذا الحل في منح الضفة والقطاع حكما ذاتيا يحولهما عمليا إلى محمية إسرائيلية قد تتخذ لاحقا اسم "دولة"، على نمط المحميات (البانتوستانات) التي اصطنعها في حينه النظام العنصري في جنوب إفريقيا، مثل "ترانسكاي"، "سيسكاي" و"بوفوتسوانا". مثل هذا الحل الإسرائيلي بخصوص العرب في الضفة والقطاع، غير وارد، صهيونيا، فيما يتعلق بالعرب داخل الدولة اليهودية. لذا، فالمشكلة الأمنية- الديمغرافية الحقيقية لتلك الدولة تبقى مشكلة العرب "القاطنين" بداخلها. والحقيقة، ليس فقط "اليمين" الصهيوني وحده الذي لم يتخل عن مخطط اقتلاع العرب من المنطقتين المحتلتين (عامي 1948 و1967)، بل إن رموزا في "اليسار" الصهيوني، من حزبي العمل وميرتس في حينه، تحدثوا في أدبياتهم الداخلية عن شعار "الأردن هو فلسطين" أسوة "باليمين" الصهيوني.

ديمقراطية الشاباك

في رسالته إلى رئيس تحرير الصحيفة الناطقة باسم التجمع الوطني الديمقراطي، والذي احتج ضد اعتبار "الشاباك" للعرب "تهديدا إستراتيجيًا"، اعتبر مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية، بالنيابة عن "الشاباك"، بأن الأخير سيعكف على "إحباط نشاط العناصر التي تهدف إلى المس بالطابع اليهودي والديمقراطي لدولة إسرائيل، حتى وإن كان نشاطهم قانونيا" (هآرتس، 2007/3/17). وأوضحت نفس الرسالة بأن نشاط "الشاباك" يتضمن أيضا إحباط النشاط السري للعناصر المختلفة "حتى وإن تم تنفيذ نشاطها بواسطة الأدوات التي توفرها الديمقراطية" (نفس المصدر). ماذا يعني موقف "الشاباك" هذا؟ إنه يعني ما هو تحصيل حاصل مخابراتي- أمني إسرائيلي، أي أن السلطة الإسرائيلية تهدف من "الديمقراطية" الشكلية الممنوحة للعرب، إلى ضمان "سكوت" العرب، لأن "سكوتهم" ضرورة صهيونية إستراتيجية، وبالتالي قصر نشاطات "الأقلية العربية" على الرقص وفقا لإيقاعات "الديمقراطية الإسرائيلية" والبرلمانية، وعلى مجرد المطالبة برفع مستوى المعيشة والخدمات الاجتماعية والصحية وغيرها. ومع ذلك، حتى في إطار هذا السقف الديمقراطي الصهيوني، أُهملت تماما عملية تطوير المدن والقرى العربية في إسرائيل، واضطُهِدَ العرب ومؤسساتهم الثقافية، ومُنِعوا من العمل في القطاع الحكومي الإسرائيلي.

رئيس "الشاباك" هو الذي يمتلك "الحق" و"الصلاحية" في أن يقرر من الذي ينشط سريا ويهدد دولة إسرائيل، وبالتالي كيف يجب "معالجته"، حتى لو كان يعمل في "إطار القانون"، كما أكدت ذلك مؤخرا، شولاميت ألوني، الصهيونية اليسارية البارزة (هآرتس، 2007/3/21). وفي المحصلة، هدف المؤسسة الصهيونية هو تنشئة وتنمية الإنسان العربي صاحب النفسية المهزومة والخنوعة، لا حول له ولا قوة، يقنع بما تقذف له السلطة من فتات "التأمين الوطني" أو "مخصصات العاطلين عن العمل"، أو أجور زهيدة تمكن العامل العربي وأسرته من مجرد الاستمرار في الحياة. والمستهدف أيضا شخصية الإنسان العربي في مناطق 1948. فالنفسية المهزومة والعقل المدجن بواقع هذه الهزيمة يضعفان ثقة الإنسان العربي بنفسه، فيصبح ذا نفسية وشخصية مهزوزة وضعيفة، خاصة أمام السلطة وممثليها. أما المثقفون العرب غير "المتأسرلين" والواثقون من هويتهم الوطنية والقومية، والذين يشكلون نقيض هذه النفسية وهذه الشخصية، فهم تحديدا من يعتبرهم "الشاباك" "خطرين على أمن الدولة". وكي تحافظ السلطة الإسرائيلية على حركة العرب السياسية في نطاق حدود "الديمقراطية" التي رسمها لهم "الشاباك"، وتمنعهم بالتالي من تجاوز تخومها، مما قد يشكل خطرا على "الأمن الداخلي"، ولضمان عدم مس هذه الديمقراطية "بيهودية" دولة إسرائيل، فقد أصدرت جملة من القوانين والأنظمة العنصرية الهادفة إلى اضطهاد العرب وإبعادهم عن أرضهم، والقائمة أساسا على التمييز العنصري بين العرب واليهود، إضافة لأنظمة الطوارئ الاستعمارية البريطانية منذ العام 1945، وقوانين الطوارئ المدنية. فابتداء بأنظمة وقوانين الطوارئ العسكرية والمدنية الموروثة عن الاستعمار البريطاني والتي تجيز العقوبات الجماعية والإقامات الإجبارية (التي تؤيدها عمليا توصية "الشاباك" السالفة الذكر والقائلة بتقييد تحركات الفلسطينيين في إسرائيل) والاعتقالات الإدارية وغير ذلك، و"قانون العودة" الذي سنه الكنيست العام 1950، والذي يمنح "حق المواطنة" تلقائيا لأي يهودي في العالم فور وصوله إلى إسرائيل، في حين يمنع هذا الحق عن الفلسطيني الذي يتوق إلى العودة لوطنه من المنفى، مرورا بقانون استملاك الأراضي الصادر العام 1953 وقانون تسوية الأراضي، وقانون انتزاع ملكية الأراضي، وقانون تثبيت الملكية، وغيرها من القوانين المتعلقة بالأراضي والهادفة إلى نهب الأرض العربية والسيطرة عليها ومنع عودة ملكيتها إلى العرب، وانتهاء بالقوانين والإجراءات العنصرية التي تشمل جميع ميادين الحياة: العمل، التعليم، الخدمات الاجتماعية، الصحافة والنشر وغيرها. وفي قطاع التعليم العربي تحديدا، ليس بالضرورة أن يتولى المتعلمون والمؤهلون العرب مهمة العملية التعليمية، بل من يوافق عليهم "الشاباك"، والذين يعتبرهم "معتدلين"، حتى وإن كانوا أميين وجهلة، فالمهم أن يكونوا "ثروة إستراتيجية" مقابل "التهديد الإستراتيجي" الذي يشكله أبناء شعبهم، كما تقول شولاميت ألوني (هآرتس،2007/3/21).

فما يسمى "الديمقراطية الإسرائيلية" لا علاقة لها بصون حقوق الإنسان العربي، وحمايته من تعسف السلطة والاعتقالات الإدارية والإقامات الإجبارية دون محاكمات، والفصل من العمل ومصادرة الأراضي العربية وغير ذلك، بالاستناد إلى قوانين عسكرية استعمارية، وبالاستناد أيضا إلى ما يسميه "الشاباك" في المحاكم الصهيونية "بالمعلومات السرية" ("مِيداع حَسُويْ") التي من غير المسموح للمعتقل العربي أو محاميه الاطلاع عليها، ليتمكن من دحضها وتفنيدها في حالة "الاستئناف" على قرار الاعتقال.

وإذا كانت "الديمقراطية" الممنوحة للعرب تهدف إلى مجرد تنفيس الكبت والحرمان القومي الداخلي المتراكم، وهي لهذا تبقى مكبلة بمختلف القوانين والأنظمة العنصرية المسلطة على رقاب العرب، فإن الديمقراطية الممنوحة لليهود تهدف إلى استيعاب التناقضات والتوترات الداخلية في المجتمع الصهيوني والناتجة عن تناقضات الخليط الإثني لعشرات المجموعات القومية اليهودية المستجلبة إلى فلسطين، والحفاظ، بالتالي، على استقرار وتماسك المجتمع الصهيوني من جهة، وضمان "يهودية" دولة إسرائيل، من جهة أخرى. لذا، يتمتع اليهود بكل الامتيازات والتسهيلات "القانونية" التي حرم منها العرب، نظرا لحيويتها "ليهودية" دولة إسرائيل.

ومن المثير للدهشة، أنه وبعد مضي نحو ستة عقود على إنشاء الدولة اليهودية، كأهم إفراز مادي مؤسساتي للحركة الصهيونية، يبدو أن مسحة من السذاجة والتسطيح تلف بعض المثقفين والناشطين السياسيين العرب الذين لا يزالون يؤمنون بأن مواجهة الاضطهاد العنصري والأمني- المخابراتي للعرب في إسرائيل، تكمن في "النضال الشعبي للعرب في الداخل، سياسيا وقانونيا، وعبر التعاون مع تنظيمات اليسار اليهودية" (معاريف، 2007/4/10)، علما بأن "تنظيمات اليسار اليهودية" في إسرائيل، ليست سوى تنظيمات صهيونية "يسارية"، تستمد شرعية وجودها ونشاطها الصهيونيين "اليساريين" من كون أنصارها يشكلون جزءا عضويا لا يتجزأ من عناصر الصهيونية الثلاثة: الأرض والهجرة والدولة اليهودية، حيث تكمن في هذه العناصر تحديدا جذور الاضطهاد العنصري ضد العرب، ودوافع تحركات المؤسسة الصهيونية لنفي الوجود القومي العربي في فلسطين 1948.

[حيفا]