إسرائيل والفلسطينيون وشروط الرباعية

ما كاد الفلسطينيون يتوافقون على تشكيل حكومة وحدة وطنية (بنتيجة اتفاق مكة)، علّها تساهم في وضع حدّ لخلافاتهم وانقساماتهم واقتتالاتهم، حتى واجهتهم مجددا مسألة الاشتراطات الدولية (ومعها الإسرائيلية)، التي ترفض التعاطي مع هذه الحكومة، أو التسهيل عليها، بدعوى عدم اعترافها بإسرائيل، وعدم التزامها الاتفاقات الموقّّعة معها سابقا، ورفضها نبذ العنف.

وفي الحقيقة فثمة حجم كبير من الرياء والتلاعب وعكس الحقائق في طرح هذه الشروط، وخصوصا في تبنيها من قبل بعض الأطراف الدولية. ذلك أن الفلسطينيين هم أحوج إلى الاعتراف بهم وبحقوقهم، في واقع تتنكر فيه إسرائيل لوجودهم كشعب، وتنكر عليهم حقوقهم المشروعة في أرضهم ووطنهم، مثلما تنكر من الأصل طبيعة وجودها الاحتلالي في أراضيهم (على الأقل منذ العام 1967). فوق ذلك وفي حين أن إسرائيل باتت واقعا مجتمعيا وسياسيا على الأرض، وبضمانات الوضع الدولي وقوتها العسكرية والنووية، فإن الفلسطينيين كشعب ما زالوا محرومين من حقهم في الكيان والهوية الوطنيين. فضلا عن ذلك فإن شرط الاعتراف بإسرائيل يبدو زائدا عن الحاجة، أو مقحما، في هذه الظروف، حيث أن منظمة التحرير الفلسطينية، وهي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، كانت قدمت سابقا مثل هذا الاعتراف رسميا وعلنيا، وخصوصا لدى توقيعها اتفاق "أوسلو" في البيت الأبيض الأميركي (واشنطن 1993). ومن ناحية أخرى، فإن إسرائيل، التي تدعي الديمقراطية، والتي تجد فيها أحزابا تدعو للترانسفير وقتل الفلسطينيين وعدم الاعتراف بحقوقهم، ومصادرة أرضهم وحرياتهم ومستقبلهم، والتي تحتل أراضي الآخرين، وتبيح الاعتداء عليها، تريد أن تصادر على آراء الفلسطينيين، وتحرمهم من أي تنوع وتباين وتعدد في آرائهم السياسية، بشأن وجودها ومستقبلها وشكل علاقاتهم معها؛ على الرغم من كل ما قدمته لها منظمتهم الشرعية والقائدة (منظمة التحرير) من اعترافات واتفاقات وتقديمات!

وبالنسبة لالتزام الاتفاقات الموقعة فمن الواضح، في هذه الظروف والمعطيات المجحفة بالنسبة للفلسطينيين، بأن هؤلاء هم أحوج إلى عدم استمرار إسرائيل في التملص من التزامها هذه الاتفاقات، حينا بدعوى عدم نضج الأوضاع الداخلية لديها، وحينا آخر بدعوى التوجه نحو انتخابات مبكرة، بين وقت وآخر، والقائها في كل الأحيان بالمسؤولية على الفلسطينيين، في محاولة منها لعكس الحقائق، وإظهار المسألة وكأنها هي الضحية، أو كأن الفلسطينيين هم المسؤولون عن كل ما يتعرضون له من احتلال وعسف وتنكيل، ومصادرة حقوق وحرمان من الوطن والهوية. وكما هو معروف فإن إسرائيل، ومنذ انطلاق عملية التسوية (من مؤتمر مدريد 1991)، وخصوصا منذ عقد اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين (1993)، عملت على تحويل هذه العملية إلى مجرد عملية علاقات عامة ومضيعة للوقت، وفرصة لتكريس عمليات التهويد وتقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية، وبناء جدار الفصل العنصري، بحيث أنها لم تبق أي فرصة للفلسطينيين للثقة بعملية التسوية، أو لتوليد نوع من الشعور لديهم بصدقيتها في التعامل مع هذه العملية. هكذا فثمة حجم كبير من الرياء والتحايل في التعامل مع هذا الملف، ذلك أن إسرائيل هي الطرف الذي تملص من كل الاتفاقيات التي وقعها مع الفلسطينيين، منذ مقولة إسحق رابين (رئيس الوزراء الأسبق) بأن "لا مواعيد مقدسة"، مرورا بتضييع بنيامين نتنياهو (رئيس الوزراء الأسبق وزعيم الليكود) ثلاثة أعوام بدون جدوى (1996ـ1999)، وصولا إلى محاولة ايهود باراك التشاطر، والقفز إلى مفاوضات قضايا الحل النهائي (القدس، اللاجئين، المستوطنات، الحدود، الترتيبات الأمنية)، في مفاوضات كامب ديفيد (تموز/ يوليو 2000)، وهي المحاولة التي تبين أنها مجرد فخ أو حيلة، للتملص من استحقاقات المرحلة الانتقالية، ورمي المسؤولية على عاتق الفلسطينيين، وهو ما حصل. وفيما بعد فالمسألة معروفة إذ جاء أريئيل شارون (زعيم الليكود سابقا) إلى الحكم، وخاض حربه ضد الفلسطينيين وضد السلطة الفلسطينية، بدعوى أن لا شريك فلسطينيا للسلام، وأن لا مفاوضات في ظل إطلاق النار، ثم ظهرت فكرة الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة، كبدعة سياسية إسرائيلية، لفرض التسوية بحسب مصالح وأولويات إسرائيل. هكذا يتبين أن إسرائيل هي التي تهربت من اتفاقاتها في عملية التسوية مع الفلسطينيين، بسبب عدم نضجها لهذه العملية، وطبيعتها كدولة استعمارية استيطانية عنصرية، وعدم توفر الضغوط الإقليمية والدولية للدرجة المناسبة عليها، وأيضا بسبب الخلافات والانقسامات الحاصلة فيها، على خلفية هذه العملية.

أما بالنسبة لانتهاج العنف، فإن إسرائيل العسكرية والنووية، والمدججة بالسلاح، والتي تهوى انتهاج سياسة غطرسة القوة، وسياسة الردع الاستراتيجي إزاء محيطها، والتي تبدو على شكل قلعة "اسبارطية"، في الشرق الأوسط، استمرأت إظهار الفلسطينيين بمظهر المعتدي، وحتى أنها حملتهم مسؤولية اعتداءاتها عليهم(!)، في مسعىً منها لطمس المشكلة، والتورية على صورتها كدولة استعمارية محتلة تصادر حياة الآخرين وحريتهم وهويتهم وأرضهم. وفي واقع كهذا فإن الفلسطينيين، في الحقيقة، هم الذين بحاجة ماسة لنبذ إسرائيل طريق العنف في التعاطي معهم، والتحول نحو التعاطي معهم بالوسائل السياسية. وكانت إسرائيل طوال المرحلة الماضية، هي الطرف الذي يبادر للعنف، ونقض كل أنواع التهدئة والهدنة، وذلك لإبقاء العلاقات مع الفلسطينيين في مربع المواجهات المسلحة، الدامية والمدمرة، حيث تكمن نقطة تفوقها، وذلك بدلا من نقل هذه العلاقات إلى المربع السياسي. هكذا بات للفلسطينيين، منذ بداية الانتفاضة (أواخر العام 2000)، خمسة آلاف شهيد (بينهم حوالي ألف طفل)، وحوالي خمسين ألف جريح، وواحد وأربعين ألف معتقلا (بقي منهم حوالي 11 ألف معتقل)، في حين أن الخسائر البشرية لدى الإسرائيليين لا تتجاوز خمس ذلك، مع حوالي 1050 إسرائيليا لقوا مصرعهم بنتيجة عمليات المقاومة الفلسطينية؛ مثلا، وفي العام الماضي (2006)، استشهد حوالي 660 فلسطينيا في مقابل مصرع 17 إسرائيليا فقط (بحسب تقرير "بتسيلم").

على ذلك فإن المتمعّن في هذه الشروط يجد أن ليس لها من معنى سوى، تجنيب إسرائيل أية مسؤولية عن احتلالها أراضي الفلسطينيين، وعن سياساتها القمعية تجاههم، كما عن تهرّبها المستمر من الاستحقاقات المتوجبة عليها في عملية التسوية. وفي المقابل فإن مثل هذه الشروط لا تفيد سوى في مفاقمة مشكلات الفلسطينيين، وتحميلهم مسؤولية الاحتلال، وكل التداعيات التي تنجم عنه، بما في ذلك مصادرة وقتل وتدمير حيواتهم وأرضهم وهويتهم ومستقبلهم! ولا شك أن كل ذلك ينسجم مع مساعي إسرائيل، المدعومة من قبل إدارة بوش، بشأن عكس الحقائق، وتحويل المشكلة من كونها قضية احتلال لأراضي الفلسطينيين، إلى قضية اصلاح هؤلاء لأوضاعهم ونبذ العنف وتأهيلهم لعملية السلام! وكأن الطرف الفلسطيني، أي الضحية، هو المعني بإثبات أهليته لعملية السلام مع إسرائيل؛ التي تحتل أرضه وتشرد شعبه وتغتصب حقوقه، في سابقة سياسية فريدة من نوعها في العلاقات الدولية!

وفي كل الأحوال فإن هذه الشروط، المريبة، يمكن أن تفيد فقط بأن أن البيئتين الإسرائيلية والدولية (الأميركية خصوصا)، لن تتيحا للفلسطينيين التقاط الأنفاس، والتوجه نحو معالجة مشكلاتهم وأوضاعهم الداخلية؛ وهو ما ينبغي تداركه جيدا.

___________________________

* ماجد كيالي- صحافي وباحث فلسطيني مقيم في دمشق.