السياسة الأمريكية والفوضى الشرق أوسطية

ليس ثمة إستراتيجية أميركية جديدة لا للعراق ولا للمنطقة، وكل المراهنات التي انعقدت على إمكان إدخال تغييرات في السياسة الأميركية أصيبت بخيبة أمل، بعد أن أكد بوش (لا سيما في خطابه يوم 11/1) على الاستمرار بالسياسة التي انتهجتها إدارته إزاء مختلف القضايا والأزمات العالقة والملتهبة في الشرق الأوسط.

وكانت مراهنات كثيرة انعقدت في هذا الاتجاه، بعد صدور تقرير بيكر ـ هاملتون، المتضمن توصيات تحضّ إدارة بوش على تخفيض عديد القوات الأميركية في العراق، وجدولة الانسحاب منه، وفتح الحوار السياسي مع كل من إيران وسورية بما يتعلق بملفات المنطقة، وبذل مزيد من الجهود لفتح مسارات حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي على مختلف الجبهات.

وقد عكست هذه التوصيات، في الحقيقة، مأزق السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، وإخفاقها في مجمل المشاريع التغييرية و"الإصلاحية" التي ادّعت أخذها على عاتقها في هذه المنطقة.

مثلا، هذا العراق وعوضا عن أن يتحول إلى نموذج للتغيير السياسي المنشود، بات هذا البلد نموذجا للفوضى وعدم الاستقرار وبؤرة للعصبيات الطائفية والإثنية، ومرتعا لأعمال العنف الطائفي وجماعات الإرهاب الأعمى.

ويمكن الاستنتاج هنا بأن إدارة بوش بالذات هي التي تتحمل معظم المسؤولية عن هذا التدهور السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي، كونها تقصّدت، بعد الاحتلال، تقويض مؤسسات الدولة، وتعمدت حلّ الجيش، ولعبت على وتر الخلافات الطائفية والإثنية، وركّزت على وسائل القوة العسكرية الغاشمة لفرض املاءاتها على العراقيين. وأيضا كونها تعمدت، ولو بشكل غير مباشر، إقصاء المعارضين للاحتلال من العملية السياسية، ولم ترض تحديد أفق لإنهاء احتلالها للعراق، وغيّبت الدور العربي.

إلى ذلك فإن سياسات إدارة بوش هي المسؤول الأكبر عن تسعير الاقتتال الطائفي في العراق، وتزايد النفوذ الإيراني فيه، كونها هي التي سهلت هذا وذاك، عن قصد أو من دونه، في سياق محاولاتها ترسيخ سيطرتها عليه. وبالنتيجة فقد انعكست هذه السياسات، غير المدروسة، سلبا على العراق والعراقيين، وصعّبت على الولايات المتحدة بالذات تحقيق الأمن والاستقرار في هذا البلد، كما أسهمت بإضعاف مكانة الولايات المتحدة فيه وفي عموم المنطقة.

أما على صعيد الشرق الأوسط فقد لاقت السياسة الخارجية الأميركية المتبعة ممانعة كبيرة من جهة السلطات والمجتمعات في هذه المنطقة (وهو ما يلفت الانتباه)، وذلك بسبب تخبّط هذه السياسة، وانتهاجها وسائل القوة والغطرسة والإملاء، وبسبب الادعاءات التي أخذتها على عاتقها، وضمنها ادعاءات "الإصلاح السياسي"، و"نشر الديمقراطية" فيها، وإعادة هيكلتها وفق مشروع "الشرق الأوسط الكبير". ويمكن أن نضيف إلى كل ذلك تجاهل هذه السياسة (أو استخفافها) بتأثيرات وتداعيات القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي، على مجمل أزمات المنطقة، لصالح الالتزام بمحاباة إسرائيل (بغض النظر عن الجدل بشأن الربط بين قضيتي فلسطين والعراق من عدمه).

بالمحصلة فإن هذه السياسات، التي لاقت إخفاقا ذريعا، أشاعت نوعا من الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، من العراق إلى فلسطين ولبنان والسودان (على أقل تقدير)، الأمر الذي أضعف من صدقية سياسات الولايات المتحدة ومن مكانتها، كما أضعف من مكانة حلفائها وأصدقائها فيها.

اللافت أن هذه السياسات بالذات هي التي تتحمل الكثير من المسؤولية عن تزايد الدور الإقليمي لإيران في المنطقة، وتنامي العصبيات الطائفية والاثنية والجماعات الدينية المتطرفة فيها، وذلك بسبب ردود الفعل التي ولّدتها في المجتمعات العربية. وللتذكير فإن الولايات المتحدة هي المسؤولة أكثر من غيرها عن تنامي جماعات الإسلام السياسي المتطرف، وخصوصا جماعة "القاعدة"، في فترة التوظيف ضد "الاتحاد السوفييتي السابق".

عموما قد يمكن تفهّم بعض دواعي الرئيس بوش لجهة عدم إدخال تغييرات على السياسة الخارجية الأمريكية في العراق والشرق الأوسط، وعدم الأخذ بتوصيات بيكرـ هاملتون، بدعوى أن التلويح بإمكان انسحاب الولايات المتحدة من العراق، في هذه الظروف والمعطيات، يعني ترك هذا البلد فريسة للفوضى، ولقمة سائغة للإرهابيين والمتطرفين، كما للنفوذ الإيراني، مثلما يعني التخلي عن الأصدقاء والحلفاء في هذه المنطقة، وتركهم يصارعون أقدارهم في مواجهة قوى التطرف الإسلاموي وتمدد إيران الإقليمي. وبادعاء أن أي تغيير يعني الإقرار من الولايات المتحدة بهزيمتها في العراق، وتخليها عن مصالحها فيه وفي المنطقة (النفط ـ إسرائيل ـ النفوذ الإقليمي ـ مكافحة الإرهاب ـ الحد من نفوذ إيران).

لكن هذه الادعاءات، التي تتطلب التشبث بالسياسة الأمريكية المعتمدة، تعني أيضا الإيغال بإدخال المنطقة في المجهول، وفي مغامرات أو حسابات لا يمكن السيطرة عليها، أو التكهن بتداعياتها.

هكذا فإن المطلوب من إدارة بوش، عوض هذه الغطرسة، التوجه نحو مراجعة حساباتها وسياساتها العراقية والشرق أوسطية، واستنباط الدروس المستفادة منها، وضمن ذلك 1) الإعلان عن جدول زمني وسياسي للانسحاب من العراق؛ 2) عدم تبني سياسات متغطرسة وإملائية تتأسس على القوة، ويمكن أن تولّد ردود فعل عكسية في المجتمعات العربية؛ 3) وضع حد للسياسات التغييرية الانقلابية الوصائية، التي تستدعي الممانعة من السلطات والمجتمعات، والتي لا تؤدي إلا إلى الفوضى وعدم الاستقرار، وإضعاف الدور العربي؛ 4) التوجه جديا لإيجاد تسوية للصراع العربي ـ الإسرائيلي، على مختلف الجبهات (الفلسطينية والسورية واللبنانية)، لأن هكذا تسوية يمكن أن تسهم كثيرا في تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، كما يمكن أن تسهم في إضعاف أجندة الجماعات المتطرفة، ووضع حد للنفوذ الإقليمي الإيراني، المنفلت من عقاله على خلفيات أيدلوجية وسياسية وطائفية.

وبديهي أن هذه الأمور تتطلب مزيدًا من الضغوط الداخلية والدولية على الإدارة الأميركية، كما تتطلب أصلا تحقيق نوع من التوافق العربي، لاستعادة الدور العربي المفقود في العراق وفي عموم المنطقة، لصالح الأجندات الدولية والإقليمية.

__________________________

* ماجد كيالي- باحث فلسطيني مقيم في دمشق.