الأهداف غير المعلنة للعمليات الإسرائيلية في غزة

لم يُخف المسؤولون العسكريون في إسرائيل أن هناك أهدافا غير معلنة للعمليات العسكرية التي أطلقوها ضد قطاع غزة. وهو ما ينبغي أن يدركه القيّمون على المشروع السياسي الفلسطيني الآن كشرط للنجاح في أي إستراتيجية عسكرية أو تفاوضية، سواء كان هدفها التصعيد أو التهدئة. وينبغي ألا تضللنا تلك المقولة العامة ومفادها "أن المقاومة حقّ للخاضعين تحت الاحتلال". فلا نناقش هذه المقولة ولا الحقّ الفلسطيني، لا عدل المطلب الفلسطيني ولا شرعية المقاومة. كل ما نريد هنا والآن،

ورغم تصعيد العدوان الإسرائيلي وتماديه، أن نحاول إدراك تلك الأهداف غير المعلنة للعمليات الإسرائيلية التي أتت بحجة استعادة الجنديّ الأسير وردّ أذى الصواريخ الفلسطينية المصنّعة محليا على بلدة سديروت وغيرها من تجمعات سكنية إسرائيلية شرق وشمال قطاع غزة، في الساحل وربوع النقب. إذ لا يُمكن لأصحاب المسألة الفلسطينية إلا أن يتمكّنوا من طريقة التفكير والعمل الإسرائيليين إذا ما أرادوا أن يؤثروا بهدف الاقتراب من الحقّ الفلسطيني أو المصلحة الفلسطينية.

أرجّح، اعتماداً على قراءة التجربة الإسرائيلية في العنف والعمليات العسكرية، منذ فشل مفاوضات كامب ديفيد الأخيرة (بين باراك وعرفات وبرعاية كلينتون)، أن الهدف ليس "إعادة الاحتلال" وفق اللغة الفلسطينية، أو "تصفية الإرهاب"، وفق اللغة الإسرائيلية. بل هناك ما هو أبعد من هذا وأخطر يقتضيه المشروع الإسرائيلي الذي ترسّخ منذ العام 2000. وانا أوافق الذين يعتقدون أن النخب الإسرائيلية اقتنعت باستحالة بقاء الوضع الذي نشأ بعد احتلال العام 1967 على حاله.

لكن هذه النخب ترفض في الوقت ذاته دفع ثمن تسوية محدودة مع الفلسطينيين. وهي ماضية في خطّين، خطّ تغيير الوضع القائم منذ حزيران 1967، وخطّ إفشال أي تسوية تقرّب الفلسطيني من حقوقه. وهي في الخطّ الأول تبدي "كرما" وتقدّم "تنازلات" على غرار الانسحاب من قطاع غزة وإعداد العدّة لانسحابات أخرى والتسليم بنوع من السلطة للفلسطينيين وكيان ما. لكنها في الخطّ الثاني نراها أكثر تشددا وعنفا واستعدادا للذهاب حتى اختطاف حكومة مُنتخبة. ومن هنا يُمكننا الاستدلال على الأهداف غير المعلنة للعمليات العسكرية. وهي كامنة عميقا في مطالع المشروع الصهيوني في فلسطين والعمليات العسكرية اليهودية في حينه.

فالحاصل منذ العام 2000 عودة على ما كان في الثلاثينيات والأربعينيات والسبعينيات أيضا. وهو تبديد طاقات النخب الفلسطينية بوصفها حاملة المشروع السياسي الفلسطيني، وهو ما تفعله، إما بتصفية القيادات أو بتحييدها أو بشلّ حركتها أو بإزاحتها عن الطريق. والنخب الفلسطينية هنا هي كل تلك القيادات الميدانية والسياسية القادرة على حمل الراية مهما يكن توجّهها واتجاهها. ولعلّ أبرز ما حصل في هذا الباب هو "تغييب" الرئيس عرفات وعلى النحو الذي شهدناه. أما الآن فإن هذه النخب المعبّرة عن إرادة جماعية من خلال وثيقة الأسرى بدت قادرة بتفاوضها وإحراز الاتفاق المبدئي حول النصّ النهائي أن تؤسس لمرحلة جديدة من المشروع السياسي الفلسطيني. وهو ما بدا إعادة إنتاج المجتمع الفلسطيني لذاته ولمشروعه الوطني - خصوصاً وفي الخلفية انتخابات ديمقراطية أفرزت ما أفرزته - وبناء إجماع جديد سيعزز الجبهة الداخلية ويرتّب الأوراق تمهيدا لطرحها من جديد في الملعب الإسرائيلي. وهو ما تريد إسرائيل أن تنسفه في هذه المرحلة حتى لا يكبر ويتمدد. فشلت المراهنة على تطور الحرب الأهلية واقتتال الإخوة فأتت العملية الإسرائيلية لتقطع سيرورة البناء من جديد واستتباب الأمور الداخلية للنخب الفلسطينية على مذاهبها. وهو ما حدث غداة طرح مبادرة بيروت العربية، أيضا. فحينها أرادت إسرائيل أن تحتوي المبادرة عبر التصعيد بالاجتياح. وهنا يحدث الأمر ذاته من خلال استهداف ليس فقط الوثيقة وإنما أولئك الموقّعين عليها وواضعيها من قيادات شعب متمرّسة مجرّبة. لن تسمح إسرائيل بتطوّر رموز للشعب كما كان عرفات من قبل ولا قيادات بمستوى دولي ولا نُخب قادرة على نقل المواجهة بنجاح إلى المحافل الدولية على محدودية هذه المحافل في الظروف الراهنة. ومن هنا أهمية أن تتغيّر إستراتيجيات العمل الفلسطيني باتجاه حماية القيادات وحفظ وجودها ليس لذاتها فحسب بل لضرورة مواصلة السعي إلى إحقاق المشروع. وتشهد الوثائق الصهيونية وما تسرّب من الأرشيفات ومن المذكرات والرسائل الشخصية للقيادات الصهيونية المفكّرة والمدبّرة والمنفّذة أن إبقاء الشعب الفلسطيني من دون نُخب أو قيادات هو هدف إستراتيجي إسرائيلي يتجدد من حين الى حين. إسقاط الحكومة الفلسطينية الحالية قد يكون هدفا، أيضاً، تفترض إسرائيل أن تحقيقه قد يحقّق لها ما لم يوقّع عليه عرفات في حينه.

ومما قد يكون بين الأهداف غير المعلنة الأخرى للعمليات العسكرية الإسرائيلية هو تخريب المراكز المدينية الفلسطينية، على ما تعنيه من موارد ومقدّرات شعب ومنشآت واقتصاديات وشوارع وخطوط الشبكات والبنية التحتية. ويتحقق للطرف الإسرائيلي بذلك أمران على الأقلّ، الأوّل، فرض التخلّف العمراني والإنشائي في الجانب الفلسطيني وحرمان القيادات من إمكانات وموارد تحتاجها في إنجاز مشروعها الوطني، وإلهاء المواطن الفلسطيني ومشاغلته بأمر احتياجاته اليومية وتوفير خدمات الحد الأدنى وزجّه في مواجهة مع قياداته (كما حصل في أمر الحصار المالي والمراهنة على تمرّد أو خروج على الحكومة الفلسطينية المنتخبة). وهي معادلة القوّة والضعف القائمة بين إسرائيل و"دول المواجهة". وهي تعمل وفق التقدير الإسرائيلي لصالح إسرائيل. وهذا يُفضي في المرحلة الثانية إلى إبقاء الصور والتمثيلات بخصوص الصراع على حالها، إسرائيل المتطوّرة المتقدّمة المتحضّرة في مواجهة شعب متخلّف بكل المعاني! أو "الغرب المتحضّر" ممثلاً بإسرائيل في مواجهة "المسلمين الأصوليين"! في نهاية الأمر، قد تنسحب إسرائيل من مناطق فلسطينية أخرى لكنها تريد أن يبدو الفلسطينيون في أعين العالم غير مؤهلين لإدارة دولة بسيادتهم وهذا ما يتّصل بما قلناه بخصوص استهداف القيادات.

في خلفية ما سُقناه آنفاً تلك النزعة لدى اليهود الإسرائيليين للظهور مظهر الأقوياء وليس في عيون العرب والفلسطينيين والعالم بقدر ما هو في أعين أنفسهم. ومن هنا فإن من الأهداف غير المعلنة للعمليات تأكيد القدرة والقوة، وعلى عدم فقدان المبادرة والسيطرة رغم الانسحاب من غزة. وهنا نلفت إلى ما ثبّتته الأدبيات القليلة المتعلّقة بعقدة الخوف من الزوال لدى اليهود في إسرائيل. فهناك اعتراف بأن الإبقاء على الاحتلال بصيغته للمناطق يعرّض الأمن للخطر ويهدد الإسرائيليين. وهناك اعتقاد يوازيه وهو أن الانسحاب من المناطق التي احتلّت العام 1967 من شأنه أن يقلّص مساحة إسرائيل وأن يضيّق حدودها وهو أيضا تطوّر قد يبعث الخوف في الإسرائيليين افرادا وجماعة (بالمناسبة كل الدعاية الانتخابية للأحزاب الصهيونية تعتمد على استغلال عقدة الخوف هذه) ويعزز الشعور بالتهديد بسبب عنصر "صغر الدولة"! ومن هنا اعتقادنا بأن كل انسحاب إسرائيلي سيعقبه استعراض للقوة وفائض القوة على غرار ما نشهده الآن في قطاع غزة. والخوف الذي بدا ضبابياً في أعقاب الانسحاب التكتيكي من غزة تطور بعد قصف سديروت وسواها إلى خوف حقيقي اتسعت رقعته من أهالي سديروت إلى غيرها. وعليه، رأينا الردّ الإسرائيلي، ليس على الصواريخ بقدر ما هو على الخوف، مرشحا للتطوّر، سواء أعيد الجندي المختطف أو بقي في الأسر. فالعمليات التي سبقها القصف المدفعي والقصف الجوي والبحري تستهدف، في البعد أيضا، الاستجابة لعقدة الخوف ومحاولة مداراتها كلما ثارت.

العمليات الإسرائيلية الجارية تفرض على الجانب الفلسطيني ثمناً ليس بقليل. وأنا على اعتقاد بأن الشعب الفلسطيني غير قادر على دفع كل ثمن وليس مجبرا على دفعه. ومن هنا تأتي أسئلتنا بخصوص فحص البدائل والخيارات قبل الإتيان بها كجزء من مشروع متكامل ومركّب وليس كجزء من معادلة يحقّ لنا فيها أو لا يحقّ اختطاف جندي أو مهاجمة موقع. ما هو الأجدى بين الوسائل والإستراتيجيات وما هو الأقلّ ثمنا للأهالي وللوطن المنشود؟ لا يُمكن في هذا الزمن إعادة كتابة قصّة "علي وعلى أعدائي يا ربّ"!. فالعمل العسكري في هذه المرحلة أسهل الوسائل لكنه أغلاها ثمناً على الفلسطيني، والشهادة ليست ضرورة وإنما خيار، وهناك ما يكفي من بدائل أكثر فاعلية في التأثير وفي تقريب صاحب الحقّ من حقّه. فالمستهدف الآن ليس الأرض الفلسطينية بقدر ما هو القيادات، وليس الحقّ الفلسطيني بقدر ما هو الانتظام المجتمعي والسياسي تطلعاً إلى هذا الحق. إسرائيل تستهدف في هذه المرحلة إمكانات تحوّل الشعب الفلسطيني إلى شعب بكامل المقوّمات. فهي تستهدف ضرب فرص نموّه وتطوّره وإعادة بناء ذاته وتحوّله إلى شعب وإرادة ومشروع بعد أن أفلحت في السنوات الأخيرة، وبفعل ظروف دولية مساندة، في خفض مرتبة المسألة الفلسطينية من صفة محور دولي بامتياز إلى قضية إرهاب وفوضى أو مسألة إنسانية- لا سياسية- في أحسن حال. وهو ما تريد أن تُبقي عليه من خلال العملية الحالية وما قد يعقبها. وهي تُحقق لنفسها في الوقت ذاته إزالة مفاعيل الخوف الجماعي من الوجود ولو لوقت محدود، علما بأن هذا الخوف ولد على الأرض الأوروبية وبأيد أوروبية لكن يتم إسقاط ذيوله على الفلسطينيين وقياداتهم الذين رأيناهم يدفعون الأثمان تلو الأثمان. وهو ما يستدعي أن نفكّر ونحسب كيفية الحفاظ على النفس المقاومة عبر خفض الأثمان المدفوعة.