البحث عن آفاق جديدة لحل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي

لم يكن العام المنصرم (2004) عاما استثنائيا أو حاسما بالنسبة لمختلف ملفات الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، وإن اتسم هذا العام ببعض التحولات الدراماتيكية الكبيرة، التي جاء على رأسها رحيل الرئيس ياسر عرفات، بعد ثلاثة أعوام من الحصار الإسرائيلي، وبعد أن قاد حركة التحرر الفلسطينية على امتداد أربعة عقود مضت.

جدير بالذكر أن ثمة عوامل عدّة ساهمت في تعطيل أو في تراجع الاهتمام الدولي والإقليمي بالقضية الفلسطينية، خلال العام الماضي، لعل أهمها: 1 ـ التركيز على تدارك التداعيات الناجمة عن تضعضع الترتيبات الأمريكية: السياسية والأمنية في العراق، على خلفية تصاعد المقاومة، مع تركيز الجهود على توفير الأجواء المواتية لإجراء العملية الانتخابية فيه (في أواخر يناير الحالي)؛ 2 ـ تزايد القلق العالمي من مخاطر الأعمال الإرهابية، خصوصا بعد العمليات التي حصلت في مدريد (مارس) وروسيا (تفجير طائرتين في أغسطس واقتحام مدرسة بيسلان في سبتمبر) وطابا (أكتوبر) والرياض (أبريل وديسمبر)؛ 3 ـ انهماك النظام العربي بتجنّب أي احتكاك حاد مع إدارة بوش، التي انتهجت سياسة الابتزاز والتهديد ضده، بادعاءاتها المتعلقة بإصلاح العالم العربي ونشر الديمقراطية فيه، والتي توّجتها بمشروع الشرق الأوسط الكبير (فبراير2004)، حيث شهد العام المنصرم تكريس قمة الدول الثماني الكبرى الصناعية لهذا الغرض (عقدت في شهر يونيو بولاية جورجيا الأميركية)؛ 4 ـ انشغال العالم بأمور أخرى، إذ انشغلت دول أوروبا بتوسيع اتحادها، في حين انشغلت الولايات المتحدة بالانتخابات الرئاسية التي تم التجديد فيها للرئيس بوش؛ 5 ـ محاولة الإدارة الأمريكية تأليب العالم على سورية وإيران، الأولى بحجة تواجدها في لبنان والثانية بدعوى سعيها لامتلاك السلاح النووي، بهدف تخفيف الضغط الدولي الموجه ضد إسرائيل.

على أية حال فقد واصل الفلسطينيون في العام المنصرم مقاومتهم ضد الاحتلال، رغم الأوضاع الدولية والإقليمية غير المواتية، مع ملاحظة تراجع في وتيرة هذه العمليات، كما واصلت إسرائيل عمليات الاغتيال والتدمير ضدهم.

وبحسب معطيات الجيش الإسرائيلي فقد قتل في العام الماضي 118 إسرائيليا، بانخفاض 44 بالمئة عن عام 2003، الذي قتل فيه 213 إسرائيليا (هآرتس 30/12). جدير بالذكر أن العام 2002 شهد مقتل 451 إسرائيليا؛ الأمر الذي يوضح حجم التراجع في عمليات المقاومة. أما آلة الحرب الإسرائيلية فقد قتلت 900 فلسطيني وجرحت أضعاف هذا الرقم، ضمنهم 151 شهيدا في شهر أكتوبر (141 منهم في قطاع غزة)، و119 شهيدا في شهر سبتمبر. وكانت حصة قطاع غزة من عمليات القتل والتدمير جد عالية، حيث شهد هذا العام تركيزا لآلة الحرب الإسرائيلية على محاولات اقتحام مدن ومخيمات القطاع وتدمير المنازل فيها، لا سيما في رفح وبيت حانون وبيت لاهيا وخان يونس ومدينة غزة.

أيضا فقد صعدت إسرائيل في العام الماضي عمليات الاغتيال لتصفية القياديين الفلسطينيين، ولاسيما قيادة حركة حماس والقادة الميدانيين لحركة فتح، وقد توجت إسرائيل عملياتها باغتيال الشيخ أحمد ياسين مؤسس حماس و د. عبد العزيز الرنتيسي من قادة الحركة البارزين (في مارس وأبريل الماضيين).

وتفسّر الهجمات المدمرة على قطاع غزة بأنها تأتي في سياق محاولات شارون توجيه رسائل سياسية لأطراف عدة، لتمرير خطة الانسحاب الأحادي من القطاع، ضمنها رسالة للطرف الفلسطيني بأنه لا ينسحب تحت النيران (على غرار الانسحاب من جنوبي لبنان عام 2000)، وثمة رسالة مزايدة على اليمين الإسرائيلي، ورسالة تطمين للجمهور الإسرائيلي بأن حكومة شارون لا تفرط بأمنهم وأنها تنسحب بعد تدمير البنى التحتية للمقاومة.

أما على الصعيد السياسي فقد تمثلت المواجهات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، في العام الماضي، في محورين أساسيين: أولهما، محور خطة شارون للانسحاب من قطاع غزة، والتي ادعت إسرائيل أنها جاءت بسبب غياب شريك فلسطيني ملائم للتسوية! وفي هذا الإطار أعرب الفلسطينيون عن رفضهم لهذه الخطة، مؤكدين أهمية اعتبارها مقدمة للتمهيد لخطة "خريطة الطريق"، وليست بديلا عنها، مع تأكيدهم بأنهم سيتعاملون مع الوضع كأمر واقع، بحكم الاحتضان الدولي للخطة؛ وثانيهما، محور الصراع حول الجدار الفاصل، إذ حقق الفلسطينيون انتصارا كبيرا في محكمة العدل الدولية (في لاهاي/يوليو)، التي أصدرت قرارا اعتبرت فيه الجدار عملا غير شرعي وطالبت بإزالته، والتعويض عن المتضررين منه.

على الصعيد الداخلي، ومن ناحية الفلسطينيين فقد شهد العام المنصرم أحداثا كبيرة أهمها، كما قدمنا، وفاة الرئيس ياسر عرفات (نوفمبر)، حيث تابع العالم عن كثب رحيل هذا الزعيم الوطني، الذي ترك بصماته على تاريخ المنطقة والعالم، ووضع اسم فلسطين في قلب المعادلات السياسية الدولية والإقليمية، وكانت قصة رحيله، والمواكب الجنائزية التي نظمت له، في فرنسا ومصر ورام الله، بحد ذاتها تظاهرة كبيرة لصالح الشعب الفلسطيني وضد عدوانية وعنصرية إسرائيل.

ومن ناحية أخرى، وبعد وفاة عرفات، انتقل النظام الفلسطيني إلى مرحلة جديدة في تاريخه، يجري التمهيد لها بفتح الأبواب أمام توليد شرعية سياسية للقيادة الجديدة، نابعة من الانتخابات البلدية والرئاسية والتشريعية.

وكان النظام الفلسطيني، صيف العام الماضي، شهد نوعا من الاضطراب، تجلى بالتصادم بين بعض أجهزة الأمن في غزة، وفي سعي بعض الأطراف الفتحاوية تعظيم حصتها في القيادة، من خلال تبني مطالب الإصلاح والقيادة الجماعية، ولكن القيادة الفلسطينية استطاعت تجاوز هذه الاضطرابات ووضع حد لها.

أيضا فإن إسرائيل لم تسلم من حال الاضطراب السياسي، إذ شهد العام المنصرم انهيار حكومة شارون أواخر عام 2004، اثر انسحاب الأحزاب اليمينية المتطرفة، على خلفية سياسية تتعلق بمعارضتها لخطة شارون الأحادية، وانسحاب حزب شينوي على خلفية أيديولوجية تتعلق برفضه الميزانيات المقدرة للأحزاب الدينية.

وفي حزبه الليكود واجه شارون مصاعب جمة، بسبب رفض خطة الانسحاب الأحادية، ورفض ضم حزب العمل للحكومة، في استفتاءين تم تنظيمهما لهذا الغرض، ولكن شارون عاد ونجح، في ديسمبر الماضي، في إقناع غالبية حزبه بالموافقة على خطته وعلى جلب حزب العمل للحكومة، بعد أن بات أمام أحد خيارين: إما التوجه لانتخابات جديدة، أو التوجه لحكومة وحدة مع حزب العمل.

وبالمحصلة فقد استطاعت إسرائيل، خلال العام المنصرم، تحقيق عدة نجاحات على الفلسطينيين، أهمها أنها استطاعت انتزاع مكتسبات جديدة من الإدارة الأمريكية، تجلت في خطاب ضمانات قدمه الرئيس بوش إلى شارون (في إبريل الماضي)، لدعم مكانته في حزبه، ولتشجيعه على المضي بخطة الانسحاب من غزة. وقد تضمن هذا الخطاب إنكار الولايات المتحدة لحق الفلسطينيين في القدس، ورفض عودة إسرائيل إلى حدود 67، وإلغاء حق اللاجئين في العودة وضمان الحفاظ على الطابع اليهودي للدولة الإسرائيلية وأمن إسرائيل. وقد اعتبرت هذه الضمانات بمثابة تخل عن مبادئ مدريد (1991) وعن روح اتفاقات أوسلو (1993)، وبمثابة وعد بلفور جديد صادر هذه المرة عن رئيس الولايات المتحدة.

أما بالنسبة للفلسطينيين فقد أدى صمودهم في وجه الاملاءات الإسرائيلية، وأمام عمليات التقتيل والتدمير الإسرائيلية، إلى فضح الطابع العدواني والعنصري والاستعماري لإسرائيل، على الصعيد الدولي، كما أنه فاقم من الشعور لدى الإسرائيليين بالمخاطر الناجمة عن استمرار الاستيطان والاحتلال والسيطرة على شعب أخر، والتي ربما تؤدي إلى استفحال الخطر الديمغرافي ووضع إسرائيل أمام واقع تحولها إلى دولة "أبارتهايد"، أو إلى دولة ثنائية القومية، ما يقوض طابعها الديمقراطي في الحالة الأولى، وطابعها كدولة يهودية في الحالة الثانية.

من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن ملفات الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي انتقلت إلى العام الجديد بحثا عن معادلات تسوية مغايرة، ربما تنتج عن الانتخابات الفلسطينية القادمة، وعن تداعيات الانسحاب الأحادي المفترض من قطاع غزة.

ولكن هذا الأمر مشروط بتطوير الفلسطينيين لنظامهم السياسي، وتعزيز وحدتهم الوطنية، على قاعدة إيجاد استراتيجية سياسية ونضالية مشتركة؛ لا سيما لجهة استمرار النضال لوقف جدار الفصل العنصري، والحؤول دون تحويل خطة الانسحاب الأحادي إلى انشوطة تخنق أو تجهض قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.