صمت ضابط واعترافات جندي

حين غيّر الضابط لهجته

حاولت جرّ ضابط الشرطة للكلام بكل طريقة. فبينما كنا نتفاوض معهم يوم الجمعة الماضي كي يلتقي وفد عن مظاهرتنا، مع الشركاء من الطرف الآخر للجدار، إستفزّهم الباحث تيدي كاتس بالقول "لا للترانسفير ولا للجدار، ولا للسيطرة على شعب جار".

الحقيقة أن الشعار كان يردده في نفس الوقت العديد من المتظاهرات والمتظاهرين الذين جاءوا الى أراضي قرية جيوس لزرع الزيتون فيها، إعلانًا عن رفض مصادرتها. بعد إتمام الزراعة توجه الحشد شرقًا نحو جدار الاستيطان، حيث وقف خلفه خارج مرمى نظر المتظاهرين، حشد من الأهالي الفلسطينيين والمتضامنين الأجانب. قبل الجدار، في منطقة واطئة، وقف خليط من أفراد الجيش والشرطة وحرس الحدود و"يسام". المتظاهرون واصلوا هتافهم، لكن كاتس المذكور اختار شكلا آخر للتعبير. فقد وقف على بُعد صفر من بعض الجنود وردد بوضوح ورتابة وتأنٍ بعيدًا عن اللهجة الهتافية المعتادة كلمات الشعار: "لا للترانسفير، ولا للجدار، ولا للسيطرة على شعب جار"، وأردف بلهجة التساؤل للجنود: أهذا مفهوم لكم بما فيه الكفاية؟.

أحد ضباط الشرطة من الدرجة الثانية إستشاط غضبًا كثور غير ناضج، وقال للمتظاهر هادئ الأعصاب: إذا هتفت مرة أخرى قريبًا من أذن أحد الجنود فستُعاقب! هذا التصريح الأمني الرسمي أثار سخرية المحيطين وانفجر بعضهم بالضحك وبإطلاق النكات: "حسب أي بند في القانون؟ إزعاج أذني الأمن؟".

بعدها تحوّل الهتاف الذي كرره كاتس بنفس تلك اللهجة الهادئة التي تضجّ بخليط من التلقين والهزء، الى : "أيها الجندي، أيها الشرطي، يمكنك أيضًا أن ترفض" (بالعبرية).

هذه واحدة من الفرص القليلة لمراقبة سلوك جنود الاحتلال، حين يقع على حدود القانون والرسمية والعنف والانفعال الشخصي. بعضهم تحمرّ أذناه غضبًا، ترى بينهم من يتأهّب للإنقضاض، لكن بعضًا آخر يحاول التصرّف كمن لا يسمع ولا يرى، وكأن طرح احتمال الرفض عليهم يصيب نقطة جاهزة للتلقي، أو على الأقل للإصغاء.

أنا قررت التمحور في الضابط البوليسي:

"لا يوجد شيء في العالم يثير فضولي الآن مثل رغبتي في معرفة ما يدور في رأسك هذه اللحظة"، قلت له على انفراد من الصخب الذي لفّنا.

رده في البداية كان جافًا: "ما يدور في رأسي هو أن عليّ أن أوفر لكم كامل الحماية، وفي الوقت نفسه لو خالفتم القانون فلن أتردّد في معاقبتكم". (بالمناسبة نحن خالفنا القانون عن وعي ودراية، اذا كان القانون يعني رفض الانصياع الى ورقة تشكّل أمرًا أصدره الجيش بالاعلان عن المنطقة التي دخلناها مشيًا على الأقدام، كـ "منطقة عسكرية مغلقة").

"كلا، ليس هذا ما قصدته"، قلت للضابط، "بل ما يدور في رأسك بينما أنت تعلم في قرارة نفسك أن هؤلاء المزارعين الفلسطينيين على حق، قام مستوطنون بالاستيلاء على أرضهم، واقتلاع مئات أشجار الزيتون منها وبيعها في اسرائيل". قلت له ذلك محاذرًا أن يسمعنا أحد، كي نحافظ على الجو الشخصي للمحادثة. أردت أن أستفزّ لديه الشخص خلف البذلة العسكرية الرسمية. أي مستمع أو شريك ثالث كان سيفسد عليّ الأمر.

"هذه مسألة سياسية، وأنا لست سياسيًا. أنا مسؤول عن تطبيق القانون"، قال.

"كلا، هذا ليس سياسة، بل سلوك غير قانوني وغير أخلاقي وحتى جنائي. ألا يثقل هذا على ضميرك؟ هل أنت مرتاح لحماية سلوك لا يعني سوى السرقة؟ أصلا فما هو وجود المستوطنين هنا، أليس السرقة بحد ذاتها؟ لماذا يجب أن نتحمّل جميعًا ثمن دلالهم؟"، سألته.

الضابط غيّر من لهجته الرسمية تمامًا. لم يُجب في البداية، إلتفت بجسده، تململ، ثم قال بصوت منخفض: "أنت تعلم أنك تُصعّب عليّ بهذه الأسئلة، تعرف أن يديّ مكبّلتان. أنا في الوظيفة الآن"!

إعترافات جندي سابق

قبل فترة التقيت شابًا يهوديًا أنهى خدمته العسكرية منذ نحو سنتين ونيّف. كنا التقينا من قبل. يعرف آرائي وقد تحدثنا بصراحة (من جهتي على الأقل) غير مرة. لكن في المرة الأخيرة كان الأمر مختلفًا. كان كلامه أشبه بالإعترافات، أو التفريغ عن أمور يحبسها لديه ولم يعد يطيقها. لهجته الحادة المليئة بالمشاعر، أكدت انطباعي.

الحديث بدأ بنكات شاركنا فيها آخرون حول ورطات الجيش الاسرائيلي. كيف أن اعتذاراته لا تقنع حتى الاسرائيليين، كيف يكذب ضباطه بشكل أخرق، وهو الأمر الذي بات يتردد حتى في معاقل الصحافة الوطنية بالعبرية، وإن كان ذلك تحت غطاء التعليقات الساخرة، على الغالب. لكنها السخرية التي تكشف طبقات أعمق من الحقيقة.

الشاب حدثني عن بعض ما مرّ عليه، منذ أن تلقى الأوامر مع وحدته بترك القاعدة العسكرية على جبل الشيخ السوري المحتل.

فيما يلي بعض من أقواله:

في تلك الفترة تلقينا أوامر بالتأهّب. كنا نرتجف من الخوف. جو ثقيل كان يسيطر علينا. البعض تحدّث عن تحرّكات للجيش السوري. قلنا لأنفسنا، ها هي الحرب ستشتعل. ولكن، حين علمنا أنه سيتم نقلنا الى "المناطق" (الفلسطينية المحتلة) تنفسنا الصعداء. أنا انتقلت الى منطقة رام الله. وخدمت لفترة طويلة في قلنديا.

الشاب يروي تفاصيل عما كان يقوم به الجنود. ففي إطار التمارين العسكرية كانوا يقتحموا بيوتًا لا علاقة لأهلها بأية شبهات أو اتهامات من التي يطلقها الجيش. وكل ذلك حتى يتم تعريف الجنود المبتدئين عن كيفية اجراء التفتيش والاعتقال والاقتحام. "في إحدى المرات" قال "دخلنا بيتًا ورأيت أمامي فتاة لا يمكنني وصف عيونها لك، كانت تنظر إلينا بشكل حاد، أنا أخذت جنودي فورًا وخرجنا. لا يمكن أن أصف ما شعرت به يومها".

الشاب يقول إن هذه الاقتحامات كانت تجري ليس فقط بمعرفة كبار الضباط، بل بتعليمات منهم. لم يكن الأمر "ممارسات فردية". ببساطة، كانت بمثابة إجراء "تدريبات حية" على الناس الآمنين. وقد شملت أيضًا، حسب أقوال الجندي، إقامة حواجز فجائية واجراء تفتيشات للمسافرين الفلسطينيين في شوارع المنطقة، بهدف التدرّب. "في احدى المرات وضعنا على رؤوسنا ووجوهنا قبعات صوفية، أغلقنا الشارع بحاجز مؤقت وترقبنا.. كنا نخرج فجأة وننقض على السيارات. لم يكن أي سبب أو مبرر"، قال الشاب.

الأمور لا تقف عند هذا الحد. هذا الاستهتار يشوّه هؤلاء الجنود الشبان. يجعلهم قساة متبلدين.

الجندي: "حين تكون شابًا في العشرين ولديك بندقية، تشعر أنك الأقوى في العالم. لا شيء بإمكانه وقفك. أنت تسيطر على المكان والناس فيه، على حركاتهم وحياتهم وحتى على إرادتهم". وجهه كان حزينًا، وكأنه يمارس الندم ممارسة. "لو استدعوني اليوم لخدمة الإحتياط، لن أعرف ما أفعله"، تمتم لنفسه أو لي أو أن كلماته خرجت هكذا بشكل شبه مستقلّ عنه.