غياب المعايير في التجمع الصهيوني

الوجدان الإسرائيلي، كما هو متوقع، منشغل إلى حد كبير بما يحدث في فلسطين المحتلة: المقاومة- السلطة الفلسطينية- الاستيطان والمستوطنون... إلخ، فهي قضايا تمس وجوده. ومع هذا توجد مشاكل داخلية تؤرق مضجعه من أهمها انتشار النسبية الأخلاقية التي تؤدي إلى غياب المعايير والقيم العامة التي تتجاوز رغبات الأفراد ونزواتهم وشهواتهم، وهو غياب يعبر عن نفسه في ظواهر عديدة من أهمها الفساد.

وقد ورد في إحدى الدراسات الصادرة في إسرائيل (موشيه نجبي: "أصبحنا مثل سدوم"، نقلا عن مقال أنطوان شلحت، 5 أغسطس 2005 في المشهد الإسرائيلي - مدار) بعض أشكال الفساد في التجمع الصهيوني:

- تجار نساء يتجولون طلقاء بسبب تهاون المحاكم (ويبدو أن كثيرا من الإسرائيليين يعملون في تجارة الرقيق الأبيض، حتى أن لغة القوادين في أمستردام توجد فيها كلمات عبرية كثيرة).

- لوائح المرشحين للكنيست تباع في وضح النهار، والساسة الذين يتم انتخابهم بهذه الطريقة هم الذين يشرعون القوانين.

- مسؤولون كبار يستغلون مناصبهم لتحسين وضعيتهم ووضعية المقربين منهم ويحاولون الوصول إلى القمة، دون حسيب أو رقيب.

- القضاء العسكري يمنح حصانة للقادة الذين أهدروا بإهمالهم الإجرامي حياة جنودهم أو استغلوا جنسيا المجندات الإناث (تستغل بعض المجندات/ المحظيات هذه المكانة فيتصرفن بدون أي اكتراث بالقوانين العسكرية، حتى أن إحداهن كانت تطلب من الكوافير والباديكير أن يأتوا لها في وحدتها العسكرية!).

وقد أعطانا هيرش جودمان صورة واضحة وطريفة لهذا الفساد في مقال له نشر في مجلة جيروساليم ربورت (6 مايو 2005). يقول الكاتب: عرفت أن إسرائيل تواجه مشاكل حقيقية حين رأيت جودي شالوم، زوجة وزير الخارجية سيلفان شالوم، وقد صاحبت زوجها في زيارة رسمية لمصر العام الماضي وقد ارتدت بنطلون جينز ضيقاً إلى درجة أنني تصورت أنها لن تنجح في الهبوط على سلم الطائرة، كما أنها كانت ترتدي بلوزة لم تكشف كتفها فحسب، بل كشفت من جسدها أكثر مما يمكن لأي شخص أن يحب أن يراه!

"ويلاحظ أن السيد وزير الخارجية يعين في كل وظيفة خالية رجالا من أتباعه، مما يعني أنهم كلهم من رجال نعم، مثل هؤلاء الحمقى الذين سمحوا لزوجته أن ترافقه إلى مصر وهي شبه عارية. أو لعلهم بعض الأشخاص الذين لهم نفوذ في حزب الليكود. ومن ضمن هؤلاء ديفيد أدمون الذي عُين سفيراً لإسرائيل في المجر، حيث أهمل مهامه السياسية وكرس وقته تماما لأعمال "البيزنس" الخاص به حتى يمكنه أن يدفع الديون التي تراكمت عليه"!

وغياب المعايير يظهر بشكل متبلور في إشكالية الشذوذ الجنسي. خذ على سبيل المثال حالة إيلي إيفين الذي يبلغ من العمر 62 عاما وهو ضابط متقاعد ويعمل أستاذا للكيمياء في إحدى الجامعات. في عام 1983 فصل إيلي إيفين من الجيش وجرّد من رتبته باعتباره ضابط احتياط، حينما عرف أنه يعيش مع صديقه وأنه شاذ جنسيا، ولكن الإعلام الإسرائيلي اتخذ موقفا مؤيدا له واتهم المؤسسة العسكرية بالتميز العنصري، وبالفعل رضخت المؤسسة وأصدرت تعليمات بعدم التمييز ضد الشذاذ والسحاقيات من الجنود والضباط. ويوجد الآن في القوات المسلحة الإسرائيلية جنود وضباط شذاذ، يعلنون عن هويتهم، يتحركون بدون أي محظورات في كل أسلحة الجيش الإسرائيلي. وقد عرض في إسرائيل فيلم عن قصة حب بين جنديين من نفس الجنس.

ولم تنته القصة عند هذا الحد فقد رشح إيلي إيفين نفسه للكنيست ونجح في الانتخابات وتلقى العشرات من خطابات التهنئة. وقد قاد حملة هو ورفيقه أميت كاما (البالغ من العمر 42 عاما)، وهو أستاذ إعلام في الجامعة، للدفاع عن حقوق الشذاذ، ورفع دعوى على الجامعة للحصول على الحقوق والعلاوات التي يحصل عليها المتزوجون. وقد تمت تسوية القضية مع الجامعة خارج نطاق القضاء. وبعد ذلك تبنى الزوجان شابا في سن السادسة عشرة كانت عائلته قد رفضته لأنه شاذ جنسيا (النيويورك تايمز، 16 أكتوبر 2002).

وقد ذهب الرفيقان إلى كندا حيث عقد زواجهما بشكل رسمي في تورنتو في 21 سبتمبر 2004 (حسبما جاء في هآرتس) كما كانا شاهدي زواج "جنسمثلي" لصديقين من أصدقائهما. وعند عودتهما إلى الدولة الصهيونية، قررا أن يعقدا احتفالا بـ"زواجهما"، كما قررا أن يقدما شكوى إلى المحكمة العليا يطلبان فيها أن تعترف الدولة الصهيونية رسميا بزواجهما، وأن تطلب المحكمة من وزارة الداخلية التي رفضت الاعتراف بزواجهما الرسمي في كندا، أن تراجع قرارها. وقد ذكر المدعيان المحكمة أن عدم الاعتراف بزواجهما الرسمي يشكل خرقا للمعاهدات الدولية التي وقعت عليها إسرائيل وانتهاكا لحقوق الإنسان. (لا أستبعد أن التدخل الغربي في بلادنا باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان قد يصل إلى هذه الدرجة).

وقد كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" منذ شهرين عن زواج "آرثر فنكلشتاين" من صديقه، وقد تم الزواج في منزل "فنكلشتاين"، ولم يحضره سوى عدد قليل من أصدقاء وأقارب وأبناء الرجلين (نعم أبناء الرجلين!) من زواج سابق. و"آرثر فنكلشتاين" من أهم الشخصيات في المؤسسة السياسية الإسرائيلية، فقد كان مستشار الدعاية الانتخابية لنتنياهو وشارون.

وفي محاولة تفسير هذه الظواهر كتب "عوزي بنزيمان" في هآرتس (12 يونيو 2005) أن سببها الحقيقي هو أن الأصوليين حولوا الأرض إلى وثن يعبده الإنسان وأنهم يحتكرون الحقيقة وأن نهجهم الشوفيني القومي الضيق هو سبب الأزمة. وكاتب هذه السطور لا يعرف علاقة الفساد بتوثن الأرض وعبادتها!

ويرد الأصوليون على العلمانيين بقولهم إن العلمانيين يربون أبناءهم على حياة الضياع والتفريط في القيم، وأن أبناءهم متهربون من الخدمة، يسعون وراء اللهو، وينزحون عن أرض الميعاد إلى الخارج ويدمنون المخدرات، ويقلدون الغرب بشكل رخيص، ويتلاعبون بالمال العام من أجل الربح الخاص، وأن ثمة أزمة روحية في المجتمع الصهيوني العلماني الذي حرم اليهودي من البعد الروحي، وأعطاه بالمقابل بضاعة رخيصة.

وفي تصوري أن القضية أكثر تركيبا من ذلك، فالسبب الحقيقي لغياب المعايير هو تآكل الأيديولوجية الصهيونية التي أسست الدولة والتي كانت تزعم أنها عمالية واشتراكية، فقد تآكلت المؤسسات المختلفة التي يقال لها "اشتراكية" والتي كانت تهيمن على الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في إسرائيل. وتحول الاشتراكيون القدامى إلى ما يشبه المديرين ورجال الأعمال. كما أن الطبيعة الاستعمارية للدولة الصهيونية، وتحالفها مع الإمبريالية الغربية، زادا وضوحا وذيوعا. وقد أدَّى هذا إلى تآكل الديباجات الصهيونية التي تحاول أن تبرر وجود المستوطنين في منطقة خارج أوروبا ترفضهم وتقاومهم. كما أن مفهوم الشعب اليهودي الواحد، الذي يشكل اللبنة الأساسية في الأيديولوجية الصهيونية، قد تآكل هو الآخر مع إحجام يهود العالم عن الهجرة إلى فلسطين المحتلة، ومع تفاقم الصراع الديني العلماني، ومع العجز عن تعريف من هو اليهودي في دولة تستمد شرعيتها من ادعائها أنها يهودية! وفي غياب إطار أيديولوجي ومشروع قومي، عادة ما ينغلق الإنسان على نفسه ويبحث عن صالحه الشخصي وينتج عن ذلك انتشار النسبية الأخلاقية وغياب المعايير وسقوط الإيمان بـ"الصالح العام" واستشراء الفساد.

هذا هو التجمع الذي نتعامل معه، مجتمع علماني تسيطر عليه النسبية الأخلاقية. ويجب ألا نتصور أن هذه النسبية تؤدي إلى التسامح، بل بالعكس فأنا أرى أن النسبية تعني غياب المعايير الإنسانية والأخلاقية التي يمكن أن يهيب بها الإنسان، وفي غيابها لا يوجد سوى القوة الغاشمة لحسم أي خلافات، وهذا هو حال الدولة الصهيونية العلمانية النسبية الداروينية معنا!