حكومة بدون أجندة

يظهر التاريخ السياسي للديمقراطيات البرلمانية أن الحكومات تسقط عندما لا تكون لديها أجندة مركزية وواضحة. وسواء كانت تركيبتها متجانسة (مثل بريطانيا وكندا) أو ائتلافية (مثل إسرائيل وألمانيا) فإن هذه الحكومات تبدأ بالانهيار بسبب تناقضات داخلية لا تتوفر أجندة سائدة أو توافقية تتغلب عليها (أي على التناقضات). هذا الأمر يتسبب في تآكل في مكانة رئيس الحكومة، إضافة إلى مطالب وضغوط- داخلية وخارجية- من أجل إيجاد أجندة لا تكون الحكومة قادرة أو معنية بتحويلها إلى سياسة. ويمكن لـ"الأجندة" أن تكون مخططة بمبادرة ذاتية (مثل "الانفصال") أو مفروضة (كمحاربة الإرهاب). والأجندة هي سياسية، اقتصادية، اجتماعية، تشريعية أو أي دمج بين هذه النواحي. لكن حكومتنا لا تمتلك في أي من هذه المواضيع أجندة متسقة ومترجمة إلى سياسة.

حكومة أريئيل شارون تجد نفسها في وضع سياسي غريب. فأجندتها الرئيسية، المتمثلة بالانفصال عن قطاع غزة، نُفذت من جانبها بما يرضي معظم النظام السياسي والدولي، وبما يرضي الجمهور ووسائل الإعلام. والآن ظلت هذه الحكومة بدون أجندة طبيعية، ولم يبق لها سوى بقاؤها. ويمثل ذلك في الظاهر وصفة ممتحنة تاريخيا لانهيار تدريجي، وهو انهيار يمكن أن يتسارع في السياق الخاص الذي يسم النظام السياسي الإسرائيلي وبنيته الحزبية. وبسبب الانفصال، وفي غياب عملية سياسية جوهرية مستمرة، نشأ في إسرائيل وضع فيه أجندة ملحة دون حكومة تبحث عن حكومة دون أجندة توافق على تبنيها.

هذه الأجندة الواضحة للجمهور كافة تتناول مواضيع: الفساد، علاقات رأس المال والسلطة غير السوية والفقر. وتمتلك حكومة شارون الصلاحية والوسائل والقدرة على جعل الفساد بمثابة أجندة مركزية لها. من ناحية الجمهور فإن الفساد والفقر يشكلان بصورة طبيعية المواضيع الرئيسة والأولوية الأولى للدولة. المشكلة هي أن الحكومة الحالية لا تمتلك شرعية لمعالجة الفساد نظرا لأنها ترتكز إلى "حسم ديمقراطي" من جانب 104 أعضاء في مركز حزب الليكود. ليس بسبب شارون وإنما بسبب مركز الليكود لا تستطيع هذه الحكومة حقا الإعلان عن الفساد السلطوي والاقتصادي وكل ما بينهما كأولوية قومية لديها.

ولكن إذا كانت لا توجد أجندة، فما الذي يجعل الحكومة مستقرة؟

ما يجعل الحكومة مستقرة هو أن هناك أجندة متفقًا عليها ترتكز إليها حكومة شارون، أجندة سلبية غير فعالة، أجندة هدوء، استقرار انتظار، أجندة "دعونا نتنفس قليلا" . وحتى بمصطلحات الزحزحة والحراك التي تميز الواقع الإسرائيلي، فقد لامست فترة النصف سنة الأخيرة نهاية حدود قدرة الاستيعاب لدى المجتمع الإسرائيلي. هذا أولا.

ثانيا ليس هناك عمليا بديل سلطوي للحكومة الحالية. فحزب "العمل" ذاب كليا في الحكومة ولم يعد يتمتع بثقة داخلية أو بإرادة سياسية لجهة تحدي شارون أو الخروج عن طوعه. كما أنه لا يظهر أي اختلاف سياسي أو اقتصادي واضح بين شارون و"العمل".

ومن الواضح أن حزب "العمل" يتقبل برضوخ وإذعان معروفين سلفا دوره الهامشي في الحكومة المقبلة، وإن كان ذلك بدرجة كبيرة من خلال قراءة سليمة للواقع السياسي وتركيبة الخريطة الانتخابية في إسرائيل. وحزب "العمل"، باستثناء عمير بيرتس، لا يحاول بتاتا صياغة أجندة بديلة، جديدة، محسنة، إبداعية ومختلفة عن أجندة الليكود. فالحزب الذي وفّر لشارون الشرعية العامة (الإسرائيلية) والدولية منذ انضمامه إلى حكومته في العام 2001، الحزب الذي أتاح تنفيذ الانفصال، يخترع الآن طائفة من الأسباب، بعضها حقيقية وأخرى غير حقيقية، التي يبرر من خلالها ما يجعل "المسؤولية القومية" تلزمه البقاء في حكومة شارون وقبول زعامته. قد يكون هذا التفكير سليمًا وفي محله، لكنه لا يستند إلى قرار واع وإنما إلى أغلبية 104 أعضاء في اللجنة المركزية والذين فضلوا ببساطة مواصلة العمل في هذه المهنة الإسرائيلية المخصوصة، ولم يختاروا حقا أجندة متفقًا عليها.

ومنذ اللحظة التي استقال فيها بنيامين نتنياهو من منصبه كوزير للمالية، اختفت أيضا الحلبة الوحيدة التي كان باستطاعة حزب "العمل" أن يقترح فيها أجندة مختلفة وهي: ميزانية الدولة. وإن من المرجح في نهاية المطاف أن يتم التصديق على الميزانية العامة (لسنة 2006) إلا إذا كانت لشارون مصلحة في إجراء انتخابات مبكرة (وهي إمكانية غير مستبعدة) .

يتضح إذًا أن شارون وحزب "العمل" اتفقا أخيرا على إدارة حكومة بلا أجندة. ربما كان ذلك يستجيب للحاجة العامة للتنفس بهدوء لبضعة أشهر، لكن ذلك لا يعكس زعامة قومية. وفي النهاية فإن هذا التحالف النفعي لن يغير القاعدة التاريخية القائلة إن أية حكومة بدون أجندة مصيرها السقوط قبل موعد الانتخابات.

_____________________________

(*) الكاتب دبلوماسي إسرائيلي سابق